الأحد 8 سبتمبر 2024
في الصميم

مقطع طرقي يرتقي بعاصمة ماليزيا وقطاع الطرق عندنا يستنزفون العاصمة الاقتصادية!

مقطع طرقي يرتقي بعاصمة ماليزيا وقطاع الطرق عندنا يستنزفون العاصمة الاقتصادية! عبد الرحيم أريري
تعمدت انتقاء هذه الصورة الرائعة لأحد أعقد المنشآت الهندسية الطرقية في العالم. 

الصورة تخص المقطع الطرقي بالعاصمة الماليزية «كوالالمبور»، وهو المعروف بطريق «دامانساراه شاه علم السريع» (بالإنجليزية يرمز له بحروف DASH)، وهو من أنواع الأوطوروت ذات البناء الهندسي المركب، يمتد على مسافة 20 كيلومترا لربط القطب الحضري «بونشاك بيردانا» المجاور لمطار Subang، مع منطقة بينشالا في وادي كلانج، بضاحية كوالالمبور.
 
مشهد من طريق «دامانساراه شاه علم السريع»
 
طريق «دامانساراه شاه علم السريع»، رغم تعقيداته التقنية وإكراهات الإنجاز وسط أحياء آهلة بالسكان والمصانع، تم إنجازه في ظرف قياسي لا يتجاوز ست سنوات (افتتح في أكتوبر 2022)، بكلفة قاربت 860 مليون دولار، عبر اللجوء لآلية «عقد الامتياز» الذي ظفرت به شركة Prolintas لمدة 55 سنة، بشكل خفف العبء المالي عن خزينة ماليزيا.
 
ذلك أن العاصمة كوالالمبور عرفت تحولا لافتا بفضل أبحاث المختبر الماليزي لتطوير صناعة الكاوتشو «RRIM»، بالنظر إلى أن ماليزيا تعد أكبر منتج مصدر للكاوتشو الطبيعي في العالم بكمية 1,6 مليون طن من أصل 3,9 مليون عالميا. وهو ماجعلها تتبوأ عرش الصناعة عالميا في القفازات الطبية وفي كل ما يهم مكونات السيارات والعجلات وقطع غيار الطائرات والمحركات، مما أفرز دينامية حضرية سريعة بضواحي العاصمة، خاصة أن الضاحية القريبة من «كوالالمبور» عرفت انتفاخا ديمغرافيا بحوالي 300 ألف نسمة. أضف إلى ذلك انتفاخ الأقطاب الأخرى المحيطة بكوالالمبور، من قبيل: SH ALAM- SUBANG-KOTA-DAMANSARA. وهي مدن ضاحوية تؤوي مجتمعة 1,5 مليون نسمة (سكان كوالالمبور يقارب 2 مليون نسمة). وهو ما أدى إلى أزمة في التنقلات الحضرية واختناقات مرورية رهيبة، رغم وجود شبكة أطوروت مكونة من أربعة طرق سريعة بالعاصمة الماليزية وضواحيها. 
 
وبعد تحول مطار عاصمة ماليزيا إلى منصة جهوية HUB للطيران المنخفض الكلفة (Low Cost)، ازداد الطلب عالميا على زيارة «كوالالمبور»، مع ما يعنيه ذلك من زيادة الطلب على التنقل في شوارع انسيابية وآمنة.
 
هنا، اهتدى صانعو القرار في ماليزيا إلى وجوب إحداث مشروع يضمن الانسيابية، من جهة، ويعزز صورة «كوالالمبور» كحاضرة عالمية صاعدة للحفاظ على إشعاعها وجاذبيتها، من جهة ثانية. فوقع الاختيار على هذا الشكل الهندسي لطريق «دامانساراه شاه علم السريع»، الذي أضحى بدوره مزارا سياحيا يخطف عقول السائحين وزوار كوالالمبور، خاصة أن هذا الطريق قلص مدة التنقل من أقصى نقطة بالمدينة إلى أقصاها من ساعة ونصف إلى 30 دقيقة فقط.
 
ما هو الدرس المستخلص من الاستشهاد بنموذج كوالالمبور؟
أهم درس أن المدينة (أي مدينة في العالم) حين تدار من قبل نخبة مهووسة بتحسين مستوى عيش سكانها وزوارها، تنجح في رفع التحديات وإبداع الحلول للمشاكل التي تعترض سكان المدينة في حياتهم اليومية.
 
انظروا إلى الدارالبيضاء وضواحيها التي فتحت في وجه التعمير (شرقا وغربا، شمالا وجنوبا)، مع ما ترتب عن تلك السياسة من توسع حضري وانتفاخ عمراني في مدينة الرحمة ودار بوعزة وبوسكورة ومديونة والنواصر وتيط مليل وزناتة والهراويين، دون الحرص على توفير البنى التحتية الطرقية المناسبة لهذا الزخم الحضري، مما جعل العيش في الدار البيضاء الكبرى أشبه بالعيش في مسلخ من شدة عذابات المرور والتنقل بين هذه الأقطاب الحضرية والدارالبيضاء. لدرجة أن ورش إنجاز الطرق العادية (وليس الطرق المعقدة هندسيا بمثل ما تم بعاصمة ماليزيا) بمدينة الرحمة مازال يتعثر منذ عام 2009، رغم إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يمول من مساهمات المنعشين الذين استفادوا من كعكة العقار ورخص الاستثناء DEROGATION.
 
والمؤلم أن الطرق لم تنجز لربط الدارالبيضاء بضاحيتها حتى بعد تحمل الدولة (أي الخاضعين للتكليف الضريبي) لثلاثة أرباع موارد هذا الصندوق. وهنا الفرق بين النخب السياسية والتقنوقراطية في ماليزيا التي لا ترضى بغير أن تحلق مدينتهم «كوالالمبور» في سماء المدن العالمية، وبين النخب السياسية والتقنوقراطية بالمغرب التي تتلذذ بإغراق العاصمة الاقتصادية للمغرب في أوحال الذل. وهنا الفرق، أيضا، بين رجال الأعمال الماليزيين، الذين راكموا ثرواتهم دون الاعتماد على الدولة ووظفوا فائض أرباحهم بما يؤمن رفاهية العيش بمدن بلادهم، ورجال الأعمال المغاربة الذين راكموا ثرواتهم بسبب الريع والقرب من مدفأة السلطة، ولذلك لا تحرك معظمهم أي غيرة للدفع بعجلة الرفاهية لترقى الدار البيضاء إلى مصاف المدن القابلة للعيش!