تعدُّدُ اللغات يُسمى بالفرنسية plurilinguisme أو multilinguisme. وتعدًّدُ اللغات ينطبق على الأشخاص الذين يتكلمون، على الأقل، ثلاثة لغات أو أكثر. فنقول هؤلاء الأشخاص متعدِّدو اللغات polyglottes. وحينما يتعلَّق الأمر ببلدٍ أو جهة من هذا البلد يتكلَّمُ سكانُهما عدَّة لغات، فنقول إن هذا البلدَ أو هذه الجهة متعدِّدو اللغات multilingues. وتعدُّد اللغات على مستوى الأشخاص له فوائد كثيرة. فما هي هذه الفوائد التي ستعود بالنفع على فقهاء وعلماء الدين؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، أريد أن أوضِّحَ أن ما أقصد بتعدُّدِ اللغات، ليس الإلمامُ بجميع اللغات. ما أقصده هو الخروج من قفص اللغة الواحدة وإتقان، على الأقل، اللغات المستعملة بكثرةٍ في عوالم السياسة والاقتصاد والصناعة والفكر والعلم والتِّكنولوجيا والنشر والثقافة…كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
من بين هذه الفوائد، أخص بالذكر تحسينَ طريقة التَّفكير والارتقاء بعملية التواصل إلى مستويات عالية.
فيما يخص تحسينَ طريقة التفكير، بيَّنت الدراسات والأبحاث أن أي شخص، إذا كان يتكلَّم بطلاقة عدَّةَ لغات ويمرُّ بسهولة من لغة إلى أخرى، فإن قدرتَه على التفكير capacité de réflexion تنمو وتتطوَّر. وفيما يلي، هذه بعض التوضيحات التي تبيِّن كيف تنمو وتتطوَّر القدرة على التَّفكير.
لكن، قبل هذه التوضيحات، أريد أن أُثيرَ الانتباهَ أن الله، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه العزيز: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبإ، 38). هذه الآية الكريمة تبيِّن بوضوح أن الرسولَ محمدا (ص) بعثه الله لجميع الناس، أي للبشرية جمعاء. والرسالة التي كلَّفه الله، سبحانه وتعالى، عن طريق الوحي، بتبليغها للناس، يُجسِّدها القرآن الكريم. وبما أن اللغات التي يتكلَّم بها الناسُ في كل أرجاء العالم تختلف عن بعضها البعض، فمن الضروري أن يكون مَن سيُعرِّف برسالة الإسلام إلى الغير أن بكونَ متعدِّد اللغات.
والآن، سأُعود إلى التوضيحات المشار إليها أعلاه والتي تبيِّن كيف تنمو وتتطوَّر القدرة على التَّفكير.
أولا، بغض النظر عن إغناء رصيده المعرفي، فإن متعدِّدَ اللغات يصبح قادرا على التعبير عن أفكاره وعن مواقفه بطرقٍ مختلفة، وبالأخص، جديدة. كما يصبح قاادرا على معالجة المعلومات بسرعة رغم اختلاف مصادرها. كما يصبح قادرا على إيصال أفكاره للغير. وما هو مهمٌّ جدا، هو أنه كلما تحسَّنت طريقة التفكير، كلما أصبح هذا التفكير تفكيرا إبداعيا، بمعنى أنه يأتي بالجديد في مجال الأفكار والمفاهيم. وما هو أهمُّ، هو أن تحسينَ طريقةِ التفكير تُعوِّد مَن يستعمل عقلَه بانتظام على الفكر النَّقدي pensée critique. والفكر النقدي يعوِّد صاحبَه على تحليل الأوضاع والأحداث وإصدار أحكامٍ في شأنها. وكل شخص له قدرة التًّحليل وينعم بفكرٍ نقدي وقادر على إصدار الأحكام، بإمكانه أن يُعيدَ النظرَ في أفكاره وفي أفكار الغير. وبناءً على توسيع قدرتِه على التفكير، يصبح قادرا على حل المشكلات résolution des problèmes وتحاوز الصعوبات إن استعصى حلُّ هذه المشكلات…
ثانيا، لا داعيَ للقول أن متعدِّدَ اللغات تُفتَح أمامَه آفاقٌ جديدة تجعل منه شخصا متفتِّحا على عوالم أخرى. وهذا التفتُّح يتبعه تبادل الأفكار مع الغير. وتبادلً الأفكار هو الذي يُغني رصيدَ المعارف والتَّجربة الشخصية. وكلما اغتَنَتِ التجربة الشخصية، كلما أصبح صاحبُها قادرا على أخذ مسافة prendre du recul إزاء أفكاره وأفكار الغير، أي مقاربة هذه الأفكار بفكرٍ نقدي…
ثالثا، في الوقت الراهن، جلُّ فقهاء وعلماء الدين يتواصلون مع الغير بلغة واحدة، العربية أو لغة من لغات البلدان الإسلامية. واللغة المتداولة بكثرة في عالم الدين هي اللغة العربية. لكن، هل علماءُ الدين وفقهاءُه مُدركون أن إتقانَهم للغاتٍ أخرى سيُمكِّنهم من إسماع صوتهم على أكبر وأوسع نِطاقٍ ممكنٍ؟ التَّواصل بواسطة عدَّة لغات عاملٌ أساسي في إفهام الدين للغير ونشر مبادئه بين الناس. والتواصل بعدّة لغات يُسهِّل تفسيرَ الدين للغير وتحبيبه لهم.
وهنا، لا تفوتني الفرصة لأُذكِّرَ بأن سُمعةَ الدين الإسلامي خارج البلدان الإسلامية، وبالأخص، في البلدان الغربية، سيِّئة إلى حدٍّ كبيرٍ. ما يُعرف عن الإسلام، في هذه البلدان، هو أنه دينُ السيف والقتل وإباحة دم الكفار ودين الإرهاب والحِقد على غير المسلمين ودين عدم التَّسامح… وهذه السمعة ناتجةٌ عن التَّطرُّف الديني الذي يسيء للإسلام ويجعله دينا مدموما عند الغير.
والآن، فلنتصوَّر الخدمة الهائلة التي سيُديها علماء وفقهاء الدين للإسلام، إذا كانوا مُتعدِّدي اللغات! فسنراهم يتصدَّون، بسهولةٍ، لهذه الحملات المغلوطة وتكريس جهودِهم لإبراز الإسلام، كدين وسطٍ، سمحٍ ومعتدلٍ. بل بإمكانهم أن يقوموا بجولات في البلدان الغربية، وبالأخص في الأوساط الثقافية، كالجامعات والجمعيات المدنية… ويحدِّثون الناسَ باللغات التي يفهمونها كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
بل بإمكانهم تأليف كُتب بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية وترجمة ما هو مفيد منها أو استعمال شبكات التواصل الاجتماعي و وسائل الإعلام المحلية والأجنبية للتَّعريف بالإسلام كدينٍ وسطٍ، سمحٍ ومعتدلٍ.
إلى حدِّ الآن، ما نجده في الكُتب وما تنقله شبكات التَّواصل الاجتماعي و وسائل الإعلام لا يخدم الإسلامَ، كدينٍ وسطٍ، سمحٍ ومعتدلٍ. والتَّصدي لهذه الادِّعادات هو دور فقهاء وعلماء الدين. فعوض أن تتناحرَ وتتطاحنَ المذاهب والطوائف والفرق فيما بينها لفرض فهمِها للدين على الآخرين، فليُخصِّصوا جزأً من وقتهم، كناسٍ مُتعدِّدي اللغات، للدفاع عن الإسلام وإظهار صورته الحقيقية التي يُلحَّان عليها القرآن الكريم والسُّنة النبوية.
وعندما أقول إن علماء وفقهاء الدين، من الأفضل أن يكونوا متعدِّدي اللغات، المقصود ليس كل العلماء والفقهاء. بل المقصود هم العلماء والفقهاء الذين بإمكانهم التَّخلُّص من التَّزمُّت والتَّطرُّف الدينيين. وبالأخص، الفقهاء والعلماء القادرون على فهم الدين حسب ما يفرضَانه الزمان والمكان اللذان يعيشون فيهما.