السبت 23 نوفمبر 2024
منوعات

شعبة التاريخ بتطوان تدشن إشعاعها تراثيا

شعبة التاريخ بتطوان تدشن إشعاعها تراثيا حانب من الاحتفاء بشهر التراث

اختارت شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان أن تدشن إشعاعها وزخمها العلمي، فيما يشبه الانبعاث المستشرف لأفق التميز، بالاحتفاء بشهر التراث لهذه السنة، من خلال مبادرتين نوعيتين: الأولى كان وراءها طلبة الشعبة الذين بادروا، يوم الجمعة 17ماي 2024، إلى تنظيم لقاء دراسي تحت عنوان: "التراث بين البحث العلمي ومسألة الهوية والتنمية". ثم أسبوعا بعد ذلك، عملت الشعبة على تنظيم مائدة مستديرة في موضوع "البحث الأثري بالمغرب: الراهن والمستقبل"، بشراكة مع المحافظة الجهوية للتراث الثقافي لجهة طنجة تطوان الحسيمة، يوم الخميس 23 ماي 2024، سيَّر أشغالها الطيب بياض، وشارك فيها ثلة من أبرز الباحثين المغاربة المهتمين بهذا الموضوع.

تناول الكلمة في البداية عبد اللطيف البودجاي، (باحث في الآثار ومحافظ موقع القصر الصغير الأثري)، الذي بسط أمام جمهور من الطلبة والمهتمين بالموضوع ورقة تقديمية علمية حول البحث الأثري بالمغرب، عبارة عن رصد نقدي للتجربة المغربية في مجال البحث الأثري. حيث استحضر مجموعة من الهواجس التي شغلت بال الباحثين المغاربة المعنيين بالآثار والتراث، ثم مساعي التفاعل معها سواء من خلال مداخل نظرية ومنهجية، أو عبر بوابة المصادر في شقيها الأثري أو الأدبي، خاصة مع مساعي تجاوز الأطروحات الاستعمارية التي كانت محكومة بخلفيات إيديولوجية. والخلاصة التي انتهى إليها الباحث البودجاي تتمثل في كون البحث الأثري في المغرب ما يزال يحتاج إلى مجهودات كبيرة، ليتنقل الأمر من إشراقات واجتهادات فردية إلى عمل مؤسساتي بإمكانيات مادية وبشرية تليق بالبلاد الحاضنة لأقدم إنسان عاقل.

 

بعد ذلك توقف محسن الشداد (أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب تطوان) مع "تأملات في أركيولوجية مغرب ما قبل الاستقلال"، استعرض من خلالها مسارا من البحث الأثري في المغرب خلال الفترة السابقة عن الحقبة الاستعمارية، حيث ظل الباحثون الأثريون تحت رحمة القادة السياسيين والعسكريين لبلدانهم، خاصة القوتين المستعمرتين للمغرب، أي فرنسا وإسبانيا، مبينا كيف اشتد بينهما أُوار الصراع على الكنوز الأثرية للمغرب. قبل أن يكشف عن مسار آخر مواكب لهذه الدينامية على مستوى الترسانة القانونية التي مهدت وأطرت التجربة الاستعمارية في البحث الأثري، من خلال منظومة قانونية ومؤسساتية، وتمويل ودعم مهمين من القوتين الاستعماريتين.  ثم انتقل بعد ذلك الباحث نفسه إلى التطور المنهجي الذي عرفه البحث الأثري في المغرب خلال الفترة الاستعمارية، خاصة تلك الطفرة النوعية التي شهدها بعد الحرب العالمية الثانية، مما أتاح توسيع وعاء الفترة موضوع الأبحاث الأثرية، وتدشين تجربة جديدة في نشر المقالات العلمية التي تُقدم خلاصات النتائج العلمية للأبحاث الأثرية، بعد أن كان الأمر يقتصر على تقارير تتسلمها الجهات الرسمية سياسية كانت أو عسكرية، مع ما رافقها أيضا من بداية ظهور مجموعة من المتاحف المختصة بعدة مدن مغربية.

 

تدخلت بعد ذلك الأستاذة ربيعة حجيلة من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث لتقدم ورقة كثيفة عن "المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، أربعون سنة من التكوين والبحث"، والتي انطلقت من مسار سابق ممهد لإنشاء المعهد سنة 1985. ثم تتبعت تموقعه في الشأن الثقافي والأكاديمي ببلادنا بعد ذلك. قبل معالجة التراكم الذي حققه المعهد خلال أربعين سنة من وجوده سواء على مستوى التكوين، وما يحتضنه من شُعب متنوعة التخصصات إن على مستوى مجالات الاهتمام أو الفترات المعنية بالبحث والتكوين، ناهيك عن مسارات في التأطير على مستوي الماستر والدكتوراه. إلى جانب احتضانه لهياكل للبحث في شكل مختبرات ثلاث للبحث، كل مختبر يضم فرقا متعددة للبحث، مجهزة بتقنيات حديثة، ثم لجان مؤسساتية ذات وظائف متعددة. كل ذلك أسعف المعهد في دخول غمار النشر والإصدارات، في شكل مجلدات ومؤلفات ودوريات، والتي عكست مجهودا بحثيا ثريا واكتشافات أثرية نوعية في مختلف جهات البلاد. ثم انتهت الأستاذة المتدخلة إلى استشراف الأفق من خلال الإعلان عن ثلاثة قرارات: الأول بإحداث "مركز الدراسات الأثرية والأنثربولوجية للواجهة البحرية الأطلنتية" بالصويرة، ثم آخر يهم إحداث "مركز الأبحاث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في ميدان علوم الآثار" ببنجرير، وثالث يقضي بإحداث "مؤسسة المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث".

 

بعد ذلك جاء دور محمد حبيبي، الأستاذ الباحث في علم الآثار، ليقدم "مساهمة الجامعات المغربية في ميدان البحث الأثري، جامعة عبد المالك السعدي نموذجا"، والذي تأسف في البداية لعدم إدراج البحث الأثري ضمن اهتمامات التكوين داخل الجامعات المغربية، وللتفريط والاتلاف الذي تتعرض ثرواتنا الأثرية، بأشكال تدعو لدق ناقوس الخطر.  قبل أن يعود لبسط القول في معنى علم الأثار ومجال اهتمامه وأدوات اشتغاله. ثم تتبع مسار الاهتمام بالشأن الأثري في المغرب، منذ الرحلات الاستكشافية للرحالة والدبلوماسيين الأجانب إلى اليوم، متوقفا عند سنة 1975، حيث جرى التأسيس لمغربة هذا الورش الكبير، خاصة على مستوى التكوين وإعداد أُطر مغربية متخصصة.  ليخلص إلى أن تفاعل الجامعة مع هذا التراكم اقتصر على مبادرات شخصية لأساتذة مهتمين بالموضوع، ولم يكن سياسية عمومية مُفكر فيها ومخطط لها من طرف الوزارة الوصية، لذلك ظل دون مستوى الانتظارات.

 

في ختام هذا اللقاء العلمي عالج عبد العزيز الإدريسي (باحث في علم الآثار، مدير المتاحف بالمؤسسة الوطنية للمتاحف)، موضوع "البحث الأثري والمجموعات المتحفية الأثرية"، الذي توقف عند استمرارية المنهج المعتمد أثريا ومتحفيا منذ الفترة الاستعمارية، ثم دلالة الاقتصار على ثلاثة متاحف بالمغرب، مُنبها إلى ضرورة إحداث متاحف في مختلف جهات البلاد. ثم انتقل لتقديم مداخل للفهم تعتمد تقاطعا وتكاملا بين حقول معرفية مختلفة من أجل مقاربة علمية يمكن الاطمئنان أكثر لنتائجها. داعيا إلى تحديث الخريطة الأثرية في المغرب، وتنويع العرض المتحفي وتعميمه مجاليا، وإحداث مراكز بحث تضم مختبرات متعددة التخصصات تهتم بالشأن المتحفي ببلادنا. مستحضرا أهمية إعادة اكتشاف ما تزخر به المتاحف، وتطعيمها بما يستحق التثمين بعد تصنيف دقيق لما ظل مكدسا بالمخازن لدى مصالح ومواقع مختلفة. وضرورة إخراج مشروع متحف خاص بالبحث الأثري إلى حيز الوجود، وخلق مختبرات للتدخل قصد الصيانة الوقائية للعناية بما تزخر به المتاحف المغربية، ناهيك عن الحاجة إلى التكوين لإعداد الأطر المغربية المتخصصة في التحافة. دون أن تفوته الفرصة إلى الدعوة لتحديث الترسانة القانونية لتدبير الشأن المتحفي بلادنا، وفرض سِجل يكفل الجرد لما تزخر به بلادنا من تراث متحفي غني.

 

وفي ختام هذه المأدبة العلمية التي جاءت بعبق الآثار والتراث، فتح المسير الباب للنقاش حيث تفاعل الحاضرون بأسئلة عميقة تنم عن اهتمام كبير بموضوع الأثار، وسعي حثيث إلى العناية بها وصيانتها وحسن استثمارها.