هل دقت ساعة الحقيقة المغاربية متوسطيا وإفريقيا ترجمانا لواقع أزمة بلغت درجة استحالة الحل؟. كل المؤشرات الواقعية تؤكد ذلك وتدعمه. المؤشرات التي ترسخ اليقين أن الروح المغاربية المشتركة (بالخلفية الوطنية للقرن 20) قد انتهت إلى الأبد، أمام واقع ميلاد "جيل الأزمة المغاربية" الذي ينتج بالتواتر كل مضادات تحقق "الحلم المغاربي" في أهم بلدين مغاربيين (المغرب والجزائر).
سيكون من باب الترف إعادة تذكير بعضنا البعض أن الفضاء المغاربي إفريقيا يعتبر المجال الأكثر تخلفا على مستوى التكامل الجهوي بقارتنا السمراء، بل وأنه يعتبر حتى عالميا من أبلد (نعم من البلادة) المجالات الجهوية سياسيا كون بلدانه تجتهد فقط في تعبيد كل الطرق السلبية للإنتحار التنموي، التكاملي، التعاوني. الأمر الذي يسائل العقل السياسي للنخب المغاربية الجديدة حول الجريمة الكاملة التي ترتكب في حق شعوب المنطقة حاضرا ومستقبلا. فالموانئ المغاربية الكبرى مغلقة على بعضها البعض، الطرق السيارة غير قائمة، السكك الحديدية مندرجة في باب "الخيال العلمي"، وتنقل البشر والثروات في أدنى وأضعف المستويات مقارنة بالإمكانيات الكامنة لكل شعوب المنطقة.
سيكون من سوء التقدير (مغربيا هذه المرة) عدم قراءة الواقع المغاربي من منطلق المصالح القومية العليا لبلادنا كما يجب.
ليبيا تقاوم لإنقاذ نفسها من كل مخاطر فشل الدولة، الذي تضاعفه تدخلات جوارها الجغرافي والمصالحي دوليا، حيث طرابلس مستباحة من قبل قوى جهوية تضغط عليها بحسابات مصالح قومية عليا (مصر والجزائر)، ومستباحة بقوى أجنبية متراكبة فيها العربي المسلم (تركيا/ قطر/ الإمارات/ إيران) وفيها الأروبي المتوسطي (إيطاليا/ ألمانيا/ فرنسا) وفيها العمالقة الكبار المتنازعين بضراوة لفرض النظام الاقتصادي والأمني العالمي الجديد (أمريكا/ الصين/ روسيا). مما يجعل طرابلس أشبه بكرة تتقاذفها دوائر متراكبة كل واحدة منها أشد من الأخرى. وأن ما يسهل من تأثير كل تلك الأجندات (الدوائر) الخارجية تشتت العصبة الوطنية الليبية بين حسابات طرابلس وبنغازي وعدم تحكمها في عصب الثروات الليبية (البترول).
تونس تنزلق بسرعة مثيرة نحو أشد أنواع "الإستبداد السياسي"، ترجمانا لأزمة نخب سياسية بها تعيش واحدة من أشد لحظات "التيه الوطني"، قد يكون ثمنا واجبا (ربما) لكي تستعيد تونس فطنة رأسمالها التاريخي لمنطق الدولة بكل الموروث السلوكي للتونسي (القرطاجني، الحسيني) ستكون ترجمته ميلاد جيل وطني تونسي جديد كامن حاليا، من ذات قيمة أجيالها السابقة. ذلك أن رأسمال تونس الدائم هو نخبها. لأن بلاد أبي القاسم الشابي دولة مسنودة بمجتمع حقيقي له صلابة هوية قومية راسخة. ربما الثمن اليوم الذي تؤديه تونس قدريا أن تكون لها قيادة مثل الرئيس الحالي قيس سعيد ومن يعتاش من وراء صورته السياسية من شرائح ومؤسسات، فذلك في مكان ما سمادٌ واجبٌ لربما لإعادة نهوض "الوعي القومي التونسي" المجرب عبر محطات امتحانات تاريخية سابقة كثيرة. بالتالي، تونس الخضراء قادمة عكس ما يتصور البعض، لأنها تمتلك المادة الخام لذلك التي هي "التونسي الفطن والحدق" الفرد المواطن.
الجزائر تعيش لحظة وجود مفصلية. الأخطر فيها أن الجزائري يواجه واحدة من أخطر الإمتحانات في صيرورة وجوده هي "امتحان الهوية". فالأزمة في الجزائر أكبر بكثير من مجرد "أزمة سياسية" أو "أزمة تدبيرية تنموية"، بل هي "أزمة وجودية". لأن السؤال المركزي الذي يواجه الجزائري اليوم هو: ما الذي أريده من وجودي؟ وأي طريق علي سلكها لربح المستقبل؟. فالصراع هناك هو صراع وعي (قد لا نبالغ أنه مندرج في خانة نوع من "الوعي الشقي" بالذات). مما يجعل اللحظة الجزائرية المفصلية اليوم خطرا ليس على نفسها فقط بل أيضا على كامل محيطها جهويا وإقليميا وقاريا. بالتالي سيكون من العبث انتظار تطور في محطة الانتخابات الرئاسية الجديدة، لأنها تفتقر لأهم عنصر للتطوير (للأمل) المتمثل في بلورة "جواب وطني جزائري لمشروع مجتمعي جديد". ذلك أن الصيرورة التاريخية لتطور "الهوية الجزائرية" قد بلغت اليوم مرحلة انعطافة ما بعد تأسيس "الدولة الوطنية" منذ 1962، تجعل البلد كله في "مفترق طرق". مفترق طرق يطوقه سؤال قلق مركزي هو: "ما معنى أن تكون جزائريا اليوم؟"، سببه لحظة صيرورة طبيعية في تاريخ تشكل "الهوية القومية الجزائرية". هل يعي العقل السياسي والعقل الوطني الجزائريان ذلك؟ إنه سؤال التاريخ الذي يمتحن ذكاء الجزائريين اليوم. لأنها لحظة صدق مع الذات تاريخية غير مسبوقة.
إلى أين سيفضي الواقع الجزائري داخليا وإقليميا في المستقبل المنظور؟ كل المؤشرات تذهب في اتجاه أن بلاد الأمير عبد القادر تتجه نحو مرحلة توتر وأزمة. توتر سيكون لربما عنوانه الأكبر ترسيخ "استبداد سلطة عسكرية" غير مسبوق يكاد يشبه التجربة الفرانكاوية بإسبانيا أو تجربة العقداء العسكريين اليونانية أو التجربة الكمالية التركية. مما سيجعل الجزائري يدخل صحراء ممارسة سياسية شمولية غير مسبوقة، ستعيد تشكيل "الهوية الجزائرية" ضمن منطق إعادة بناء شمولية للدولة ترنو خلق "مشروع مجتمعي" تتم فيه التضحية بجيلين أو ثلاثة أجيال قبل الوصول إلى "دولة المؤسسات الديمقراطية التعددية" كما وقع في تركيا واليونان وإسبانيا والبرتغال في أفق زمني لن يقل عن سنة 2050. ولعل السؤال الذي قد يطرح طبيعيا هنا هو: من سيكون فرانكو الجزائر؟ أو كمال أتاتورك الجزائر؟ بكل ما يتطلبه ذلك طبيعيا من مواجهة حسابات التاريخ الحديث للجزائر في تعالق مع فرنسا بالدرجة الأولى (لأن الوعي الإستراتيجي الفرنسي يتأسس على اعتبار الجزائر شأنا فرنسيا خالصا). بالتالي فإن الملف الجزائري جد معقد، وكل المؤشرات تذهب في اتجاه سلبي للأسف، ليس بسبب طبيعة "أزمة النخب" بقصر المرادية، بل بسبب التطور الحاصل في البنية المجتمعية الجزائرية نفسها التي تفرز طبيعيا جيلا مجتمعيا جديدا يعيش "قلق هوية" باحث عن "معنى وجود" ل "قومية وطنية" غير مسبوقة في التاريخ الجزائري، مؤطرة بغير قليل من التغول الذي سببه غياب وعي تاريخي بالذات مدرك لتحديات الداخل والخارج. وها هنا يكمن خطر "اللحظة المفصلية الجزائرية" اليوم على نفسها وعلى محيطها.
موريتانيا نقطة ضوء إيجابية واعدة في الفضاء المغاربي بفضل ما تراكمه من تطور إيجابي مؤسساتيا وأمنيا في العقدين الماضيين، المسنود بصلابة "هوية وطنية" لها توابلها الثقافية الخاصة الراسخة والقوية. لأنه علينا تسجيل بإيجابية أن أهم ما ربحته بلاد شنقيط هو بلورة "نخبة وطنية" تمتلك تصورا وخارطة طريق (في قمرة القيادة) على المستويين السياسي والعسكري/ الأمني، مسنودة بتيار مجتمعي شاب جديد. وأن ذلك هو الذي منحها أن تواجه تحديات محيطها بكياسة واضحة سواء في اتجاه مخاطر الإرهاب وشبكات الإجرام الدولي للمخدرات وتهريب البشر عبر الحدود المالية، أو في اتجاه "تعالي للسلطة الجزائرية" التي تنظر دوما لنواكشوط كتابع أو كقزم من واجبه الامتثال للحسابات الإقليمية للجزائر، أو في اتجاه السنغال الجار السيامي للموريتان تاريخيا (صنهاجة التاريخ) الذي أصبحت تشترك معه قدريا في ثروات هائلة بحريا (البترول والغاز). ثم في اتجاه المغرب العائلة التاريخية الواحدة ثقافيا وعروقا اجتماعية وإنسية لدرجة أنها حين تصاب نواكشوط بالزكام تشتد الحمى بذات الدرجة على مراكش وفاس والرباط.
إن من نقط الطمأنينة الموريتانية (مثلها مثل السنغال)، بداية ترسخ الدورة الانتخابية الديمقراطية بها. فالأمر ليس ترفا انتخابيا صوريا قدر ما أنه أصبح خيارا مجتمعيا ومؤسساتيا لا رجعة فيه وهذا جد مطمئن. بل إنه بالمقارنة مع "الواقعة الجزائرية" فإن الموريتاني لا يعيش أبدا "أزمة هوية" أو تداعيات مشاكل "قومية وطنية" لأن التاريخ أنضج هناك منذ قرون وعيا سلوكيا للشنقيطي له عناصره الثقافية الجامعة (الصنهاجية الحسانية). فالموريتاني ليس قلقا بالمعنى التاريخي للكلمة.
أي طريق نتبع مغربيا إذن؟
قد لا يعجب الكثيرين أن نرى في اللقاء الثلاثي بتونس (الجزائري/ التونسي/ الليبي)، الذي تم بحسابات جزائرية محضة وبتنفيذ بالوكالة تونسي على دورتين، فرصة تاريخية لنا مغربيا لإعادة ترتيب شمولية لدورنا مغاربيا وغرب إفريقيا وغرب متوسطيا وأطلسيا. لأن حسابات جزائرية - تونسية مماثلة تحررنا أخلاقيا وتحررنا مصلحيا في أن نعزز عمقنا الإفريقي عبر محور استراتيجي مغربي/ موريتاني/ سنغالي، يعيد إحياء قدرنا التاريخي العريق بحسابات القرن 21، الذي فيه تقدير متوازن لشعوب بلداننا الثلاثة على قدر المساواة. ذلك أن العقل السياسي الجزائري لن يقيم وزنا واعتبارا لموريتانيا وللمغرب بغير توازن قوة استراتيجي لمحور صلب بين الرباط ونواكشوط.
لنكن صرحاء مع أنفسنا، سيكون من تضييع الزمن الرهان على تونس لأن للجغرافية أحكامها (وأخشى ما يخشاه المرء على تونس الخضراء هو أن تتحول إلى لبنان جديدة أمام قوة الجزائر بذات الشكل الذي كان لبيروت مع دمشق. وهذا على كل حال شأن تونسي). مثلما أن الورقة الليبية مختلفة علائقيا معنا، لأنها مجال أكثر استقلالية من تونس وأقوى ماليا وعلائقيا مع القوى الدولية الوازنة، مما يسهل أكثر سبل التعاون والتكامل معها.
إن ما سيفتح أبواب التكامل مع الجزائر مستقبلا، ويفتح إسفلت الطرق السيارة ويعبد قضبان حديد السكك الحديدية، هو ترسيخ الطريق السيار طنجة/ نواكشوط/ دكار. لأنه سيكون من الوهم الإعتقاد أن القرار الجزائري سيتغير بخصوص المغرب وموريتانيا جيو ستراتيجيا، بدون صلابة محور نواكشوط – الرباط. علينا بحصافة العقل ألا ننتظر أبدا تعقلا سياسيا من الجهة الجزائرية التي أصبح "العداء لكل ما هو مغربي" خيار حكم صار مسنودا بمنطق الواقع بجيل جديد مجتمعيا هناك، لأنه علينا ألا نتوهم غير ذلك، فالواقع هو الواقع لا يرتفع (من دروس التاريخ أن هتلر بالحساب الأوربي لم يكن فردا أو فئة بل تيارا مجتمعيا ألمانيا).
بالتالي (مغربيا وموريتانيا) على قدر ما علينا توسيع هوامش أسباب التنمية في بلدينا وتجسير سبل التكامل الاقتصادي التعاوني، علينا أيضا تعزيز قدراتنا العسكرية والأمنية، فكل شيء وارد أمام الأزمة المركبة في الجزائر. نعم علينا أن نستعد دوما بشكل جدي عسكريا وأمنيا في جهتنا الغربية المغاربية، وأنه على قدر ما يَدٌ تبني وتحقق التنمية على قدر ما اليد الأخرى على الزناد بكل الجد الممكن للصورة.
سيكون من باب السماء فوقنا ألا نستحضر (موريتانيا ومغربيا) أننا لسنا معزولين عن العالم وحسابات قواه الكبرى. بل من الفطنة تعزيز تعاملنا مع حسابات العالم بحسابات الجغرافية. فحبل صرتنا معا إفريقي وأطلسي ومتوسطي. وسيكون من الوهم الإعتقاد أننا سنتطور بالقطيعة مع امتدادنا المغاربي، لكن التحدي هو أي أفق لذلك وبأية وسيلة وأي طريق.
نعم إن مستقبلنا المشترك موريتانيا ومغربيا هو فضاؤنا المغاربي، لكنه مستقبل لن يتم سوى بإعادة ترتيب جيوستراتيجية جديدة تحقق التوازن مع تحديات ومخاطر وحسابات "المنعطف الجزائري المركب"، أي تحقيق التوازن بين الشرق المغاربي والغرب المغاربي لأن أحكام الجغرافية هي هذه. منطق الأمور (والمصالح الحيوية القومية العليا) كامن في تحقيق التوازن بين محور الجزائر – تونس ومحور موريتانيا – المغرب (مغاربيا)، ذلك قدر حسابات القرن 21، قرن "إعلان التعاون الأطلنتي" بقيادة واشنطن، قرن "طريق الحرير الجديدة" بقيادة بكين، قرن "إفريقيا مستقبل العالم"، قرن "المحور الألماني الروسي" أروبيا.
بهذا المعنى فإن كل مشروع تنموي موريتاني هو مغربي في العمق، وكل مشروع تنموي مغربي هو موريتاني في العمق. بهذا المعنى بوضوح أكبر فكأس العالم 2030 مغربية موريتانية سنغالية في واقع الأمور. إذ بهذه الروح وحدها سيتحقق التوازن المصالحي مغاربيا.
بصيغة أخرى إن الفضاء المغاربي في المستقبل لا علاقة له بالحلم المغاربي كما بلورته سياقات حرب التحرير ضد المستعمر في القرن الماضي، وأن قدر أجيال اليوم أن تنتصر للتحليل الملموس للواقع الملموس.