الأحد 24 نوفمبر 2024
فن وثقافة

بمناسبة اختيار عبد الإله بلقزيز رمزا للثقافة العربية.. حين يعترف الآخرون بما نجهله عندنا

بمناسبة اختيار عبد الإله بلقزيز رمزا للثقافة العربية.. حين يعترف الآخرون بما نجهله عندنا من اليمين: عبد الإله بلقزيز، محمود درويش، فيروز، محمد نور الدين أفاية
بعد أن مَنحت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" لقَبَ "رمز الثقافة العربية لعام 2017" للفنانة العظيمة فيروز، وللشاعر الكبير محمود درويش سنة 2018، ها هي نخبة المنظمة تنْتَبه إلى أن في المغرب الأقصى فكر يتجلَّى في المنجز النظري والإبداعي لأحد أبرز من يمثله، في شخص المفكر والكاتب عبد الإله بلقزيز، باعتباره "رمزا للثقافة العربية المعاصرة لسنة 2024".
 
والمفارقة اللافتة هي أن الأوساط الثقافية، كما من يتولَّى المسؤولية السياسية لتدبير الشأن الثقافي في بلادنا، لم يمنحوا لهذا الاعتراف ما يلزم من اهتمام وعناية. وهو أمر يدعو إلى الاستغراب. رأينا منهم من هو مشغول باستقبال واحتضان رموز ونجوم هذا الزمن، ولم تصدر عنهم ولا إشارة أو التفاتة للإنجاز الفكري والأدبي الذي انتبه الآخرون إلى قيمته، ويجهله أو يتجاهله من يتسابقون على المناسبات الاستعراضية، أو يدعون تمثيل الفكر والإبداع عندنا.
 
عبد الإله بلقزيز مُفكر ومثقف وباحث لا يُشبهه أحد في تاريخ الاجتهاد الفكري والنظري في المغرب؛ جعل من القراءة والكتابة والبحث نَمطَ حياة يسمو به على كل المتطلبات والاعتبارات؛ فرض على نفسه انضباطا لا مثيل له لإنجاز ما لا يتوقف عن التخطيط له من مسارات بحثية، ونصوص نثرية، وروايات. هو الشاعر الذي قمع فيه نزوعات الشاعر ليفجر صوره ومجازاته في "رائحة المكان"، و"لَيْلِيات"، و"على صهوة الكلام"، و"الماضون إلى الماضي"، وآخرها "أول التكوين". وهو كاتب الرواية من "صيف جليدي" إلى "مزاج منثور".
 
أما المشاريع الفكرية والنظرية، فلا أحد من المفكرين المغاربة والعرب أنتج ما أنتجه حول الدولة، والسلطة، والشرعية في الفكر الإسلامي، وفي الفكر العربي المعاصر؛ ومنها، على سبيل الإشارة، كُتب "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر" (الذي ترجم إلى الإنجليزية قبل أكثر من عشر سنوات ونشر بلندن)، و"تكوين المجال السياسي الإسلامي؛ النبوة والسياسة"، و"الفتنة والانقسام"، و"الدولة والمجتمع؛ جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر"، و"في الدولة؛ الأصول الفلسفية"، وغيرها من العناوين التي تتعلق بقضايا الديمقراطية، والمواطنة، والمجتمع المدني.
 
كما أن عبد الإله بلقزيز خصص أكثر من خمسة كتب لمشروعه حول ما أسماه "العرب والحداثة"، ومنها: "من الإصلاح إلى النهضة"، و"من النهضة إلى الحداثة"، و"العرب والحداثة؛ دراسة في مقالات الحداثيين"، و"نقد التراث" (حاز به على جائزة المغرب للكتاب)، و"نقد الثقافة الغربية؛ في الاستشراق والمركزية الأوروبية"، وغيرها من الكتب الأخرى التي تناول فيها الإشكاليات الكبرى للفكر العربي الحديث والمعاصر. ودخل في مشروع جديد من أجل بناء أفق ما أسماه: "نحو إسلاميات نقدية" نشر فيه لحد الآن، "الديني والدنيوي؛ نقد الوساطة والكهْننة"، وأصدر المجلد الثاني قبل أسابيع بعنوان "السلطة في الإسلام؛ نظرة مقارِنة باليهودية والمسيحية"؛ فضلا عمَّا كتبه عن تاريخ الفكر السياسي المغربي المخصوص، ومنه: "الخطاب الإصلاحي في المغرب؛ التكوين والمصادر (1844-1918).
 
لا يسَع حيز هذا المقال لعرض ما أنتجه عبد الإله بلقزيز من كتب ودراسات نصوص؛ فهو منخرط، وجوديا، في الكتابة؛ غزيرها، يمتلك ناصية اللغة العربية بشكل يصرفها بطرق يندر أن يوجد مثله في حقلنا الثقافي، بشهادة فقهاء اللغة في المغرب وفي العالم العربي.
 
ومن أجل توصيل ثمرات فكره وجهده ينهج سياسة تواصلية يختار فيها ما يراه مناسبًا لأعمدة الصحف، وما يناسب أبواب المجلات العربية، وما يستحق تثبيته في كتب تجاوزت اليوم، الثمانين مُصنَّفًا، لقضايا الفكر السياسي، والدولة، والسلطة أوفر نصيب. قد يختلف الإنسان مع ما يكتب، خصوصا في بعض مواقفه السياسية، وهذا أمر عادي في السياسة والفكر، خصوصا وأن عبد الإله يُحسن تدبير الاختلافات، لاسيما حين يتعلق الأمر بالأصدقاء الذين يعرف أنهم يُصدرون أحكاما انطلاقا مما يقرؤون ويعاينون فعلا، وليس استنادا إلى ما يسمعون.
 
كتب عبد الإله بلقزيز عن قضايا الدولة، والسلطة، والشرعية؛ وأنتج نصوصًا بالغة الأهمية والعمق، كمًّا ونوعًا. فالرجل مسكون بأسئلة السياسة والفكر السياسي، منذ بدء انخراطه في عوالم الكتابة والتأليف، سواء قاربها من زاوية حَدَثية، وما تشهده الساحات العربية من مستجدات، أو تناولها من منظور الاستقصاء التراثي للمجال السياسي العربي الإسلامي، ومساءلة مستنداته ومرجعياته، أو عالجها من منطلق الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع السياسي، والتاريخ الذي لا يبدو أنه من الممكن ادعاء تشريح مؤسسات الدولة والسلطة والقانون والشرعية بدون استلهام نصوصها والاستفادة من انفتاحاتها. وفي كل هذه الجبهات يخوض بلقزيز معاركه الفكرية والسياسية والبيداغوجية بجدية قلَّ نظيرها، وبجاهزية معرفية لافتة، وبحسًّ عالً بالالتزام المنهجي والفكري والسياسي. وتؤكد مختلف مؤلفاته حول الدولة الشغف الكبير الذي يحرك بلقزيز؛ وهو شغف تمكَّن من ترويضه بالقراءة والاجتهاد والتأليف والنشر والحضور النوعي في الحقل الفكري العربي المعاصر، طيلة الثلاثين سنة الأخيرة.
 
مسار فكري طويل نحت فيه عبد الإله بلقزيز أسلوبًا في الكتابة السياسية العربية، وصاغ أسئلة لمست أغلب موضوعات الفكر العربي، وغامر باقتراح مصطلحات ومفاهيم أراد من خلالها – الأسلوب، والصياغة، والاقتراح – تجذير النظر النقدي في سياق يعرف أن المؤمنين "بحاجة الوعي العربي إلى النقد والمراجعة قِلة في مجتمع عربي مسكون بفكرة الحقيقة ومُصاب بالكسل المعرفي"، كما يقول في "نقد الخطاب القومي" (ص13-2010).
 
وهو في كل ذلك يمتلك جرأة فكرية ومعنوية في المناقشة والمساجلة لا يستسلم فيها للمجاملة، لأنه يصر على تكريس قيمة الاعتراف بالعطاءات الفكرية للمفكرين العرب الذين اجتهدوا وأنتجوا ما يُمهد لأسباب النهضة، والعقلانية، والتحديث.
 
وقياسا إلى ما أنتجه الرجل من نصوص وكتب، يبدو من الصعب التفاعل، بسهولة، مع "الكون الفكري" الذي عَمِل وما يزال يعمل عبد الإله بلقزيز على نسج فصوله، وقاموسه، سواء كان ذلك في شكل دراسات فكرية، أو سجالات إيديولوجية وسياسية، أو في هيئة متون يلتجئ فيها صاحبها تارة إلى السرد الروائي، وتارة ثانية إلى التأمل والتساؤل والبناء المفاهيمي، وتارة أخرى إلى الحوار الداخلي والشطح الوجداني؛ كما يصعب اختراق التعلق الصوفي لبلقزيز باللغة العربية، والتمييز فيها ما بين الميتافيزيقي والمَفْهَمي، بين جموح الذاكرة وحرارة الحاضر، بين الاكتساب والإبداع، بين النثري والشعري، وما بين الفلسفي والأدبي.
 
ومن هنا الأهمية الفكرية الخاصة التي تكتسيها، أيضا، "نصوص" عبد الإله بلقزيز من حيث اعتبارها صياغة لأسئلة قلقة تهم الذات والوجود والقيم (روزمانة قِيم نعثر عليها في تأملاته، من صداقة، ومحبة، واعتراف...)، كما هي أسئلة تتأمل أو تتطلّع إلى تأمل موضوعات المكان، والزمان، والمعنى، والقراءة، والكتابة، واللغة، والشك، والموت، والمفهوم، والمرأة.
 
ويصرُّ عبد الإله بلقزيز في "نصوصه" على وضع "هندسة" دقيقة لموضوعاتها ولفقراتها، وكأنه يؤلف قطعًا موسيقية -وهو الشغوف بالموسيقى- ينحت أزمنتها، وإيقاعاتها، ورنّاتها، وأصواتها، وتموجاتها. وبقدر ما يبدو على هذه الهندسة من صرامة واختيار في البناء والتأثيث، فإنه يعطي لنفسه الحرية المطلقة في التعبير، وفي سبك الكلمات والأوزان.
 
عبد الإله بلقزيز مثقف كبير، لا يعرف قيمته إلا من يقرأ نصوصه وكتبه، ومنهم من قرر في الألكسو اختياره "رمزا للثقافة العربية لسنة 2024". وهو أيضا شاعر، أو مُفكّر يلجأ إلى الشعر أو يمتح منه، بوضوح أحيانا، وبمواربة أحايين عديدة، لكتابة ما يكتب. ولعل الاستهلال -الإهداء إلى الشاعر محمود درويش، في القصيدة التي دشّن بها "نص" "رائحة المكان"-، يكشف الكائن الشعري الذي سكن بلقزيز منذ زمان، وينفلت من بين أصابعه بين الفينة والأخرى، حتى في بعض كتاباته النظرية. أما "النصوص"، حتى وإن تقدمت في شكل شذرات وحِكَم، وتأملات، فهي مطروزة على إيقاعات شعرية.
 
ولعل ما برهن عنه عبد الإله بلقزيز من تميُّز في الصياغة النظرية، ومن أصالة في الكتابة النثرية، هو الذي جعل نخبة منظمة الألكسو تختاره، وليس غيره، لكي يكون "رمز الثقافة العربية لسنة 2024"، بعد كل من فيروز ودرويش. ولعمري أن هذا الاختيار يشكل مناسبة لإثارة انتباه من تخلى عن فضيلة القراءة لكي يعرفوا أصداء كتابات هذا الرجل لدى أوساط واسعة من المثقفين، والطلبة، والباحثين في المغرب وخارجه.