هذا ما ينطبق على مربي الأجيال سي محمد الحيحي( 1928 – 1998 ) والذي تجسد مرة أخرى في فعاليات الدورة 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، يوم الأربعاء 15 ماي 2024 بمناسبة تقديم الإصدار الجديد بعنوان " محمد الحيحي.. ذاكرة حياة" بحضور مكثف ونوعي، لشخصيات وازنة وفعاليات من المجتمع السياسي والحقوقي والجمعوي والنقابي والتربوي والإعلامي وفعاليات من الحركة النسائية والشبابية، من أجيال مختلفة منها من عايش محمد الحيحي أو تشبع بالقيم التي نافح عنها، غص بهم رواق المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
منجز حافل
يبدو الحديث عن سي محمد الحيحي، من خلال التوقف عند محطات من مساره الغني والمتنوع، الذي يسع ميادين عديدة سياسية وحقوقية الإنسان وجمعوية وتطوعية، من الصعوبة بمكان، وذلك لعدة أسباب منها أن منجزه في المجالات السالفة، يرتبط بمرحلة مهمة من التاريخ الوطني للبلاد، هي ما بين أواسط أربعينات وتسعينات القرن الماضي.
الشهادات التي يتضمنها الكتاب في قسمه المعنون ب"الامتداد"، تبين ما يحظى به من تقدير من طرف كافة الفرقاء، على الرغم من اختلاف توجهاتهم السياسية والحقوقية و الجمعوية، حيث تجمع على ما كان يتميز به من خصال إنسانية نبيلة، وتركيزه على المشترك، عوض إذكاء روح التفرقة بين مكونات الحركة الوطنية والديمقراطية ، والإنسياق وراء المصالح الشخصية والظرفية.
إنسانية فريدة
وهكذا يمكن القول، من دون مبالغة، بأن المرحوم الحيحي نموذج لتجسيد فئة متمـيـزة من المواطنين خلال فـترة تاريخـية/اجتماعية من تاريخ المغرب الحديث؛ وأقصـدُ فـئة المناضــلين من أجــل تحقيق أهــداف الاستـقلال وبـناء مجتمع الـعدالـة وحـرية المواطــنين...وهـو قـد جسّـد هذا السـلوك من خلال مـمارسات تشمل : المـدرس والـمُـربي والمناضل الحزبي والـمدافـع عـن حقوق الإنـســان، حسب ما دونه الأديب الكبير محمد برادة في شهادته الموسومة ب" مـحمد الحيحي: الــبقاءُ حــيـا ًفـي ذاكــرة الناس".
حالة إنسانية فريدة من نوعها، متميزة في روحها،متفردة في هويتها،هذه الحالة أسمها محمدالحيحي كانت لها بصمة خاصة، وسمت حياتنا السياسية والثقافية بطابع خاص لا يزول، يقول الحقوقي الأستاذ محمد السكتاوي الذي أوضح أن المغرب عرف رجالات كبارا قادوا حركة التحرر الوطني وبرزوا كزعماء على المستوى الوطني والإقليمي والدولي.
مواطنة وتضامن
وإذا كان هؤلاء استغرقهم النضال السياسي والتحرري وبناء الدولة الوطنية المستقلة، فإن محمد الحيحي اختار هدفا نبيلا آخر سعى إليه وركز عليه وأفنى حياته من أجل تحقيقه، وهو بناء القاعدة التي يجب أن يقوم عليها المعمار الوطني المستقل، وهو الإنسان، فاتجه مبكرا إلى غرس شتائل وبذور ثقافة المواطنة والتضامن من خلال تربية الإنسان ضمن منظور إنساني كوني رحب، يشمل قيم ومبادئ حقوق الإنسان والإحساس بوجود الآخرين، واحترام كرامتهم واحتياجاتهم .
ربما أدرك أكثر من غيره في وقت مبكر،كان فيه المغرب يترنح تحت وطأة الصراعات السياسية حول السلطة في بداية الاستقلال، أن بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان، وأن إمتلاك السلطة السياسية، لا يمكن أن تكون أداة للتغيير الاجتماعي إذا لم يتغير الإنسان يؤكد الأستاذ السكتاوى.
رجل الوحدة
أما على المستوى السياسي محمد الحيحي الذي تتلمذ على يد كبار مشايخ عصره في مقدمتهم العلامة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، قبل أن يلتحق بقطاع التعليم وبعدها بوزارة التربية الوطنية والشبيبة والرياضة، وذلك بتوجيه من الشهيد المهدي بن بركة، كان من أوائل الشباب الملتحقين بحزب الاستقلال، وفي مرحلة لاحقة من المساهمين في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 وبعده الاتحاد الاشتراكي الذي غادره تنظيميا سنة 1983، وظل - يوضح محمد اليازغي الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في شهادته وفيا لقناعاته الوحدوية التي آمن بها، إذ لم يسجل عنه أنه تزحزح عنها، وبقي بذلك مرتاحا للقرارات التي اتخذها، وفق قناعاته، على الرغم من الخلافات والصراعات التي عرفها المشهد الحزبي و الحقوقي. وقال إن الراحل كان ذا ضمير حي، يحتكم إليه كل ما تطلب الأمر اتخاذ مواقف مبدئية، تتطلبها المرحلة .
طوال حياته، ظل محمد الحيحي مخلصا لفكر الشهيد المهدي بن بركة، كما أكد الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو الحقوقي والقائد السياسي، في شهادته، في الوقت الذي ذكر من جهته قائد حكومة التناوب الراحل عبدالرحمان اليوسفي في شهادته عن رفيق دربه محمد الحيحي بأنه كان وطني دافع عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، و رجلا وحدويا وقامة استثنائية، وسعى دوما للم الشمل. وبذلك جسد كل القيم النبيلة، مع ما كان يتحلى به، من خصال إنسانية عالية وقيم أخلاقية مثالية تندمج مع شخصه، سواء في حياته الخاصة كرب أسرة ، أو كمناضل أوقف حياته على خدمة الصالح العام ومصلحة الوطن بروح من التضحيات والتفاني والثبات والصمود، لا تعجزه المعوقات والحواجز ولا تروعه الأهوال والمكائد.
رائد حقوقي
وعلى المستوى الحقوقي، ساهم الراحل سنة 1979 الى جانب آخرين في تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان AMDH، قبل أن يتولى رآستها ما بين 1989 و 1992، في ظل ظروف صعبة، حيث اضطلع بدور أساسي وحيوي في تلك المرحلة العصيبة من مسار هذه الجمعية، خاصة في الحفاظ عليها قائمة، في الوقت الذي كانت السلطة آنذاك، تبحث عن المبررات من أجل الإجهاز عليها، بإيجاد مصوغات ومبررات لحلها في النهاية، - كما يشير في شهادته عبد الحميد أمين الرئيس الأسبق للجمعية المغربية لحقوق الإنسان الذي أوضح أنه لا يمكن الحديث عن مسار هذه الجمعية بدون الإنتباه إلى الدور الذي اضطلع به الراحل إلى جانب آخرين ، بمختلف المحطات التي مرت بهاAMDH، في حين قال علي أمليل أول رئيس للجمعية المغربية لحقوق الانسان، الذي جايل الراحل، إن هذا الأخير ، كان مثالا للانضباط والالتزام، متشبثا بالمبادئ الأخلاقية، والجدية في التعامل مع الجميع، ولم يكن يفرض آرائه، وينأى عن الدخول في المهاترات والصراعات الشخصية، ينتقى كلماته بدقة متناهية، ويعبر عن آرائه بدون حسابات شخصية.
ولدوره الريادي في الدفاع عن حقوق الإنسان، جرى تكريم محمد الحيحي من لدن منظمة HUMAN RIGHTS WATCH الأمريكية، في نيويورك سنة 1991، كأول مغربي وعربي يحظى بهذا التشريف الدولي.
التربية أولا
وبعد الحصول على الاستقلال، أسس الجمعية المغربية لتربية الشبيبة ( لاميج ) سنة 1956 رفقة المقاوم المرحوم عبد السلام بناني، وترأسها ما بين 1964 و1998، وهذا ما جعله، رائدا تربويا ومؤسسا حقيقيا لما يعرف اليوم بالمجتمع المدني، يقول الأستاذ الجامعي فتح الله ولعلو المسؤول السياسي الذي أشار إلى أن وظيفة التربية، كانت هي السمة الغالبة التي أطرت مسار الحيحي وتوجهاته في السياسة وحقوق الإنسان والعمل الجمعوي.
وعلى صعيد الحركة التطوعية، ساهم الراحل في تأطير «طريق الوحدة»، سنة 1957 التي شارك فيها 11 ألف متطوع من الشباب من مختلف مناطق المغرب، في مبادرة لتوحيد شمال المغرب الذي كان خاضعا للاحتلال الإسباني وجنوبه الذى كان تحت الحماية الفرنسية، وهو المشروع الذي ظل طوال حياته يحكى عنه في لقاءاته مع الشباب، ويمنى النفس بتنظيم مشروع مثيل له بمشاركة الشباب.
وفي إطار مجهوداته لتوحيد الحركة الجمعوية الوطنية، عمل على تأسيس اتحاد المنظمات التربوية المغربية سنة 1991 الذي يضم أعرق الجمعيات التربوية، وذلك في سعيه لخلق تكتل للدفاع عن قضايا الطفولة والشباب وتوحيد الجهود للارتقاء بالعمل التربوي، باعتبار ذلك يساهم في التنشئة الاجتماعية.
أسئلة حارقة
كان الحيحي على وعي تام بأن إرساء أسس مجتمع مدني مغربي فعال وحيوي وحاضر بقوة واقتدار، يُوجد على رأس أولويات المناضلين التقدميين الذين يتوقون إلى الانتقال بالمغرب إلى مصاف البلدان الديمقراطية الحديثة، حسب الأستاذ الجامعي محمد الساسي الفاعل السياسي الذي أضاف أن الراحل بقي حتى آخر لحظة في حياته، يطرح الأسئلة المقلقة والحارقة والتي قد يطمسها الحماس اللحظي، وينبه إلى مخاطر المغامرات السياسية غير المحسوبة العواقب.
كتاب " محمد الحيحي .. ذاكرة حياة " من تأليف د. جمال المحافظ و ذ. عبد الرزاق الحنوشي يقع في 437 صفحة من الحجم المتوسط صادر عن دار النشر " الفاصلة" ومن منشورات " حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي"، يتضمن 50 شهادة لفاعلين سياسيين وحقوقيين ومن المجتمع المدني.
يعد المؤلف المعزز بعدد من الصور التاريخية، يتضمن قسمين رئيسين، الأول بعنوان المسار والثاني الامتداد، يسلط الضوء على الأدوار الطلائعية التي قام بها الراحل في الميادين السياسية والحقوقية والجمعوية والتربوية، مبادرة تندرج في حفظ الذاكرة لرموز وشخصيات وطنية، وجعل منجزها نبراسا تقتدى به الأجيال الصاعدة.