كلما فاض كرمه في ميدان البحث والتنقيب في متون نصوص قصائد فن العيطة، يبادر الموسيقي عاشق آلة لَوْتَارْ، ومروض ريشة ألوان صباغة لواحات الفن التشكيلي، الفنان حسن الزرهوني بإتحاف قراء جريدة "أنفاس بريس" بمساهماته القيمة في حقل البحث والتوثيق والكتابة، ولا يتردد في تفكيكها وتحليلها بشغف وعشق. فالرجل لا يتسرّع في الكتابة، رغم غزارة كنوزه المعرفية على مستوى تراث فن العيطة والموروث الثقافي الشعبي، وكأنه يمارسه هوايته المفضلة حين يرمي بصنارة قصبته بين أمواج البحر بساحل الْبَدُّوزَةْ "الْكَابْ" وينتظر صيده بصبر في الوقت المناسب.
في حلقة اليوم من سلسلة حلقاتنا الشيّقة مع ضيف الجريدة، يتحدث الفنان الموسيقي حسن الزرهوني عن صعوبة إيقاع العيطة الحصباوية، حيث اختار النّبش في عيطة "حَاجْتِي فِي ﮜْرِينِي"، التي كانت موسومة قديما بعيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي" في جزئها الأول من نفس القطعة، وتسمى في لغة الشيوخ بـ "لَعْصَابَةْ" بمعنى مقدمة القصيدة.
في سياق متصل كشف الفنان حسن الزرهوني عن ثلاثة مدارس فنية كلاسيكية شعبية، والتي كانت تُتْقِنُ هذه العيطة بشكل راق وجيد، وعدّد أسماء أعلام شيوخ فن العيطة من الروّاد، الذين ساهموا في التعريف بإيقاع العيطة الحصباوية المعقد، مما دفع بالفنان الكبير محمد عبد الوهاب استعماله وهو يضع لحن قصيدة "جفنه علّم الغزل".
ما هي المدارس الفنية التي برعت في أداء عيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي"؟
إن العنوان الأصلي لعيطة "حَاجْتِي فِي ﮜْرِينِي"، هو "هَنِّينِي، هَنِّينِي"، والذي كان في الحقيقة مطلع هذه القصيدة ومقدمتها، أي بلغة شيوخ العيطة "لَعْصَابَةْ"، لكن أغلبية شيوخ فن العيطة يحذفون الجزء الأول، وينتقلون مباشرة إلى الجزء الثاني، على اعتبار أن المقدمة/لَعْصَابَةْ هي أكثر تعقيدا على مستوى الإيقاع:
"هَنِّينِي، هَنِّينِي
وْلِيدْ عَمِّي آشْ كَانْ سْبَابِي
كِيـﮜَالُو، كِيـﮜَالُو، وْلِيدْ عَمِّي
يَا لَمْقَدَّمْ عَذْبُوكْ، وَاشْ يْسَالُوكْ
إِلَا مَا جِيتِي نْحَاسْبَكْ آ لَمْعَذَّبْ حَالِي
رْكَبْتِي آ لَمْقَدَّمْ رْكَبْتِي، مَا شَاوَرْتِي
عَوْدْ حْبِيبِي يْدَبَّبْ فِي الرَّجْلِيَةْ
مْشِيتِي آ مَحْبُوبِي، مْشِيتِي اللهْ يْهَنِّيكْ
مْشِيتِي آ عَزْرِيَّةْ
عَوْدْ حْبِيبِي يْحَنْحَنْ فِي السَّرْوِيَّةْ
طَاحْ سْوِيلَمْ طَاحْ
عَوْدُو ﮜَادُوهْ سْيَادُو
بْنَاتْ حْمِيمَادِي، دَارُو الطْرَابَشْ، وَلَّاوْ عْسَاكْرِيَّةْ
بْنَاتْ حْمِيمَادِي، لَبْسُوا السّْلَاهَمْ، وَلَّاوْ مْشَاوْرِيَّةْ
لَا سْمَاحَةْ لْدَاكْ النَجَّارْ
مْطَرَّقْ الدَّفَّةْ بِالْمَسْمَارْ
فِينْ مَا كَانْ الزِّينْ مْضَرْﮜُو عْلِيَّا
سِيدِي قَاسَمْ بُوعَسْرِيَّةْ
كَرْمَتُو ضَّلَّلْ عْلِيَّا
وَحَاجْتِي فِي ﮜْرِينِي"
طبعا، يعتبر هذا الجزء من عيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي" من أصعب وأعقد مدخل في العيطة الحصباوية، لأن الإيقاع هو الذي يسبق الأبيات الشعرية وليس العكس، وهو خليط بين الإيقاع الْحَمْدُوشِي، وإيقاع العجم عند الأكراد، ويغنى على مقام البياتي على الصُّولْ.
1 ـ مدرسة حي بياضة بأسفي :
من بين المدارس الفنية الكلاسيكية الشعبية التي كانت تُتْقِنُ هذه العيطة، نجد مدرسة حي بِيَّاضَةْ بمدينة أسفي، المكوَّنة من شيوخ العيطة، وهم كالتالي: الشيخ "الْعِيسَاوِي" ثم الشيخ "إبْرَاهِيمْ حْمِيمَةْ" و "إبْرَاهِيمْ بِيهِي" فضلا عن الشيخ "عَبْدُ السَّلَامْ الْبَحْرِي" و "بُوشْعَيْبْ وَلْدْ خْدِيجَةْ" ثم الشيخ "الْعَرْبِي لَكْحَلْ"
2 ـ مدرسة جمعة سحيم :
ثم مدرسة جمعة سحيم المكوَّنة من الشيخ "الْبَدْرِي" والشيخ "أحْمَدْ بَنْ خَدُّوجْ" والشيخ "عَبْدْ الرَّحْمَنْ التّْرِيَّنْ" والشيخ "عُمَرْ بَنْ هَدِّي" أطال الله عمره.
3 ـ مدرسة منطقة الحصبة :
ثم مدرسة الحصبة المكوّنة من الشيخ "مَسْعُودْ الْحَنْفِيشِي"، والشيخ "إدْرِيسْ بَنْ دَحَّانْ" والشيخ "الْهَاشْمِي الجْوَادِي" و الشيخ "الدَّعْبَاجِي"
يحكى أن الفنان بوشعيب السلاوي، والد الفنان الحسين السلاوي، كان يزور أحيانا الشيخ "الْبَدْرِي" بدوَّار أوْلَادْ بُوعْلَامْ بجمعة سْحَيْمْ، وكان هذا الأخير يسمعه هذه العيطة، وحتى ابنه الحسين السلاوي، كان يلتقي بالشيخ سي عبد الرحمان التّْرِيَّنْ رحمه الله، فأهداه آلة وترية مزينة بالنقش البلدي، وأتيحت لي الفرصة أن أعزف على أوتارها في بداية الثمانينات.
خلال زيارة بوشعيب السلاوي لدولة مصر، سنحت له الفرصة أن يلتقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، حيت كان بوشعيب السلاوي مولعا بالموسيقى الطربية الكلاسيكية لكل من الفنانين "محمد عبد الوهاب، وعبده الحمولي، والسيد درويش، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي". لأن هؤلاء الرواد أضافوا مناهج جديدة في الموسيقى، وأصبحت السّمات الأساسية للموسيقى العربية.
بعد حوار طويل بينهما، طلب الفنان محمد عبد الوهاب من الفنان بوشعيب السلاوي، أن يسمعه بعض الإيقاعات الشعبية المغربية، وكان من بين هذه الإيقاعات إيقاع مقدمة عيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي". ومن المعلوم أن الفنان محمد عبد الوهاب كان يستلهم لحنه من الايقاعات الشرقية والغربية، فسجل في مخيلته هذا الإيقاع.
مرّت الأيام، ورحل الفنان محمد عبد الوهاب إلى فرنسا ليستعد للتمثيل في أول فيلم له تحت عنوان "الوردة البيضاء" للمخرج محمد كريم، وهو بالمناسبة فيلم موسيقي / استعراضي. كان محمد عبد الوهاب يجلس بإحدى المقاهي بحديقة الأمراء بباريس ويتأمل في حوافر الخيول وهي تجرّ عربة "الْكُوتْشِي"، ويصغي للإيقاع الذي تحدثه حركات أقدام الجياد. في تلك اللحظة التحق به الشاعر اللبناني بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير، وأهداه قصيدة شعرية بعنوان "جفنه علم الغزل" من أجل تلحينها، فوضعها في جيبه، ونسيها.
بعد مرور أسبوع، تذكرها الفنان محمد عبد الوهاب، واستحضر وقتئذ الإيقاع الْعَبْدِي لعيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي"، فلحنها في ظرف ساعتين، حيث جمع الّلحن بين مزيج بين الإيقاع الْعَبْدِي وإيقاع الفلامنغو، وإيقاع التوغو، وإيقاع مصري سماعي، ثم إيقاع العجم، حيث ولدت قطعة "جفنه علم الغزل" وكانت حقيقة من أجمل القطع الموسيقية التي لحنها الموسيقار محمد عبد لوهاب وذلك سنة 1932.
"جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل
فحرقنا نفوسنا في جحيم من القبل
ونشدنا ولم نزل، حلم الحب والشباب
حلم الزهر والندى، حلم اللهو والشراب
هاتها من يد الرضى جرعة تبعت الجنون
كيف يشكو من الظمأ من له هذه العيون
يا حبيبي أكلما ضمنا للهوى مكان
أشعلوا النار حولها فغدونا لها دخان
قل لمن لام في الهوى هكذا الحسن قد أمر
إن عشقنا فعدرنا أن في وجهن نظر"
فعلا، لقد وجدت أن مطلع هذه الأغنية يتشابه من ناحية الإيقاع بالجزء الأول من عيطة "هَنِّينِي، هَنِّينِي"، ونفس الإيقاع نجده أيضا في أغاني الفلامنغو. وإذا كانت العيطة الحصباوية ذات الإيقاع المركب تبتدئ بإيقاع بطيء، وتنتهي بإيقاع أمازيغي، ثم إيقاع حوزي سريع، فإن الفلامنغو تبتدئ بالإيقاع البطيء و تنتهي بإيقاع الرومبا وهو إيقاع سريع.