كلما فاض كرمه في ميدان البحث والتنقيب في متون نصوص قصائد فن العيطة، يبادر الموسيقي عاشق آلة لَوْتَارْ، ومروض ريشة ألوان صباغة لواحات الفن التشكيلي، الفنان حسن الزرهوني بإتحاف قراء جريدة "أنفاس بريس" بمساهماته القيمة في حقل البحث والتوثيق والكتابة، ولا يتردد في تفكيكها وتحليلها بشغف وعشق. فالرجل لا يتسرّع في الكتابة، رغم غزارة كنوزه المعرفية على مستوى تراث فن العيطة والموروث الثقافي الشعبي، وكأنه يمارسه هوايته المفضلة حين يرمي بصنارة قصبته بين أمواج البحر بساحل الْبَدُّوزَةْ "الْكَابْ" وينتظر صيده بصبر في الوقت المناسب.
في هذه الحلقة من سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، يتحدث الفنان حسن الزرهوني عن فترة مهمة من فترات بلاد الحصبة التي بصمتها تاريخيا مرحلة حكم القائد الكبير عيسى بن عمر، ويكشف عن أسباب نهجه سياسة الإحتواء التي تمثل في المنظور المخزني "المناهضة وليس التّعايش"، بعدما لم يستطع المخزن الاستمرار في تحريك استراتيجية المواجهة.
هكذا يكشف حسن الزرهوني عن إدراك القائد بأن "استراتيجية المواجهة يصعب من خلالها إخضاع جميع الزّوايا الممتنعة". لذلك نهج هذه السياسة وخلق من خلالها "فجوة بين القبيلة والزّاوية، من خلال تقريب الزّوايا من سلطته، كالزّاوية التِّيجَانِيَّة ولُغْلِيمِيِّينْ، وأوقف عليهم الضرائب، وقدم لهم الدعم المادي والمعنوي لدورهم الإجتماعي في فضّ النزّاعات بين القبائل في إطار الشرعية الدينية".
ـ نموذج من الطابع الصوفي ـ الروحاني في متون العيطة الحصباوية
"لُغْلِيمِي سِيدِي احْمَدْ / الْعَطْفَةْ يَا بَنْ عُبَّادْ
لَمْعَاشِي سِيدِي سْعِيدْ / مُولْ الزِّيتُونَاتْ
دُوكْ لُقْبُبْ لَمْسَاوْيِينْ / سْيَادِي لْغْلِيمِيِّينْ
الرَّتْنَانِي سِيدِي حْسِينْ / رَكْرَاكَةْ مَجْمُوعِينْ
الرَّتْنَانِي سِيدِي حْسِينْ / جَا فِي مَلْقَى الْوِيدَانْ
مُولْ الجَّلِّيجْ والرْخَامْ / مُولَايْ عَبْدْ السَّلَامْ
التِّجَانِي سِيدِي احْمَدْ / مُولْ الْوَاظِفَاتْ
مُولْ لَعْلَامَاتْ زِينْ السْلَامَاتْ / مُولَايْ عَبْدْ اللهْ بَنْ حَسِينْ
مُول ْالْقَنْطْرَةْ مُولْ الْوَادْ / مُولَايْ بُوشْعَيْبْ الرَّدَّادْ
رْمَايْتَ الْعَارْ عْلَى بْنِي مْغَارْ / هُمَا الشُّرْفَةْ لَحْرَارْ
دُوكْ النَّخْلَاتْ لَمْجَرْدَاتْ / سْيَادِي لَمْعَاشَاتْ
عْطَيْتَكْ الْعَهَدْ فِي سِيدِي بِّيهْ / الْغَدَّارْ يَحْكَمْ فِيهْ
عْطَيْتَكْ الْعَهَدْ فِي بُو الذْهَبْ / لَعْقُيْلْ مْعَاكْ تْعَذَّبْ
الْقَاطْعَةْ الْوَادْ بِالرِّيحِيَّةْ / لَالَّةْ عَيْشَةْ الْبَحْرِيَّةْ
الْقَدْمِيرِي سِيدِي عْمُرْ / مُولَى حَمْرِيَّةْ
رْمَيْتْ الْعَارْ عْلَى رَكْرَاكَةْ لَحْرَارْ / هُمَا يْحَكْمُوا فِي الْغَدَّارْ
هَزِّيتْ عَيْنِي لِيكْ يَا رَبِّي / هُوَّ يْوَفِّي مُرَادِي
شَا يْلَّاهْ يَا مُولْ النّْخَيْلَةْ / سِيدِي بَلْيُوطْ
شَا يْلَّاهْ يَا مُولْ لَعْرَاصِي / يَا بَنْ سَاسِي؟
تتميز العيطة الحصباوية بمجموعة من المتون الشعرية ذاتالطابع الصوفي ـ الروحاني ، ويتجسد هذا بشكل قوي في عيطة خَرْبُوشَةْ، أما العيوط الأخرى فنجد فيها فقط بعض الشذرات من هذا النموذج الطافح بالبعد الصوفي والروحاني.
في سياق حديثنا عن عيطة خربوشة، تتعدد الآراء والافتراضات، تحتشدها مقالات كثيرة للباحثين حول عيطة خَرْبُوَشْة: وتنقسم إلى محورين: المحور الأول يتمثل في هجاء الشاعرة حادة الزيدية الغياثية للقائد عيسى بن عمر، أما المحور الثاني، هو نهاية الشاعرة حادة في ظروف غامضة، وإسقاط مجموعة من المتون الشعرية على قصائدها التي تهجي فيها القائد الكبير عيسى بن عمر.
الملاحظ أن المحورين كليهما ينبعان من منبع واحد، أو يرجعان إلى منطلق واحد يرتبط بالنظرة الأحادية الجانب اتجاه هذه العيطة. فضلا على أن مقالاتهم تقوم على أساس أن الشاعرة حادة الزيدية هي عيطة خربوشة، بجميع متونها وحَطَّاتِهَا، وانتقالاتها، وهي تعبير عن عملية ذاتية انتقامية بطابع التحدّي. فبقيّ الصراع يدور هل حادة هي خربوشة؟ وما هي المتون التي نَظَمَتْهَا؟ وكيف تمت تصفيتها؟ وأسئلة أخرى. لكن المهم هو تفكيك هذه المتون وشرح مفرداتها وتحليل أبعادها بشكل بنيوي، وتنوع مواضيعها بين ما هو ديني ودنيوي.
من المعلوم أن الامتيازات الكبرى التي منحت للقائد عيسى بن عمر، من طرف الصّدر الأعظم أحمد بن موسى في عهد السلطان المولى عبد العزيز كقائد كبير بل أصبح يسمى قائد الوادين (واد أم الربيع وواد تانسيفت) واكتساحه لكل عبدة وأحمر، وجزء من منطقتي الشياظمة ودكالة، فضلا عن بسط سيطرته على كل القبائل، حيث أصبح يتحكم في كل شيء، حتى الأقراح والأفراح. فوضع عيون مخزنية مطيعة له تتمثل في الشيوخ والمقدمين والمخبرين والرقّاصة وغيرهم، بالحضور في كل المناسبات الغنائية وأن يصله تقريرا شفويا عن المجموعات الموسيقية، والمتون الشعرية التي يتغنوا بها.
في هذا السياق فقد كل من يتفوه بكلام منسوب لحادة الزيدية الغياثية، تفرض عليه عقوبات زجرية باعتقالهم وإزالة جميع أسنانهم من طرف الجلّاد الكبير "جْعَاطَةْ" ولهذه الأسباب تم طمس المتون الشعرية لحادة الزيدية أو تعويضها بمتون تمدح وتمجّد القائد عيسى بن عمر في العيطة الحصباوية.
رغم أن العيط الحصباوية يطغى عليها الغزل الحسي والمادي والتغنّي بقوة ونخوة وجمال الخيول، ومدح بعض الشخصيات المخزنية، فإن عيطة خَرْبُوشَةْ تنفرد في جزئها الثاني بعدد كبير من المتون ذات الطابع الصّوفي، تذكر من خلالها أسماء العديد من الأولياء والصلحاء الذين عاشوا في الماضي البعيد، أي أن أغلب الصلحاء الذيم تمّ ذكرهم، عاشوا في العهد الموحّدي والسعدي، حيث يغنى هذا الجزء من العيطة على مقام البياتي على الصّول بطابع حزين.
لقد ارتكز التصوّف في المغرب على تمجيد الأنبياء والأولياء، وعرف تمدّدا عن طريق الزّوايا والرِّبَاطَاتِ، وخصوصا خلال الاحتفالات الدينية، وكان يعرف بـ "الكوالي". وتطور التصوف مع محيي الدين بن عربي وأبي الحسن الشنشري والحلاج البوصيري وابن الفارض. وانتقل من السّماع الصّوفي لمدح الأنبياء، وتمجيد الأولياء والصلحاء، إلى قصائد موسيقية ذات طابع روحي تتمثل في نمط غناء "السّْوَاكَنْ" التي كانت تغنى في المناسبات مثل المواسم السنوية، لدورها الرّوحي، في سحر النّفوس والتأثير على الطبائع والألحان الشّجية التي تصل إلى عمق النّفوس، وتسمو فيها الرّوح عن الذات / الجسد.
في سياق متصل، اعتبرت منطقة عَبْدَةْ من أقدس المناطق في المغرب وأكثرهم انتشارا للصّلحاء، حيث أشار بن قنفد "أن أرضها تنبت الصّلحاء كما تنبت العشب". وبدوره اعتبر المؤرخ أرمان أنطونا "أن عبدة تتميز بكثرة الصّلحاء ويصل عددهم إلى الألف". وإذا رجعنا إلى عيطة خَرْبُوشَةْ، نجد أن الشّاعر حاول استحضار مجموعة من الأولياء، وهو بمثابة رسائل استغاثة ومدح وتمجيد في نفس الوقت. وهي متون شعرية مأخوذة من عيطة الزِّيدَانِيَّةْ نسبة إلى "دُوَّارْ الزِّيدَانِيَّةْ بِـ لُغْلِيمِيِّينْ" وهي عيطة صوفية لكنها تعرضت للنسيان وتوزعت بعض متونها بين غناء العيطة وبعض السّْوَاكَنْ والملحون.
إن الإستنجاد بالأولياء يروم إضفاء نوع من القداسة الروحية، وأيضا صورة من السّلوك الرّوحي، الذي يلغي فيه الشاعر الحسّ والعقل كأذاتين للمعرفة، حيث يوجه الدعاء بقلبه، نظرا للكرامات التي كان يتميز بها هؤلاء الصّلحاء والأولياء، و كل ما يصدر عنهم ومنهم من حالات خارقة على أيديهم. على اعتبار أن الكرامات عند الأولياء مرادفة للمعجزات عند الأنبياء، رغم أن الصّوفية يتظاهرون بالتفريق بينهما، لكي ينفوا عن أنفسهم تهمة الهرطقة. فالولاية في المفهوم الصّوفي، هي منزلة لها صلة دون وسائط بين الله والعارف صاحب الولاية.
وقد تفرّع الفكر الصّوفي إلى مجموعة من الزّوايا نذكر منها "الشاذلية" و "الدرقاوية" و "الجزولية" و "الوزانية" و "التيجانية"...وكل وليّ صالح أعطيت له هالة أسطورية خارقة أثرت سلبا على الثقافة الشعبية في تلك الفترة وأثرت ديالكتيكيا، على العلاقات الإجتماعية السائدة، وأشكال الوعي البشري، مع العلم أن التصوّف بنوعيه السلوكي والنظري يمتل ظاهرة اجتماعية تعبر عن موقف سياسي سلبي اتجاه مجمل الأحداث التي كانت تهزّ المجتمع المغربي آنذاك.
لهذه الأسباب نهج القائد عيسى بن عمر استراتيجية الإحتواء الذي يمثل في المنظور المخزني المناهضة، وليس التّعايش، لأن المخزن لم يستطع الاستمرار في تحريك استراتيجية المواجهة لما يتطلبه ذلك من طاقات وإمكانيات كلما توفرت له. وإدراكا منه بأن استراتيجية المواجهة يصعب من خلالها إخضاع جميع الزّوايا الممتنعة، لذلك كان يفضل اللجوء إلى أسلوب غير مباشر، وهو الإحتواء وهو يدرك أن بقائه في السلطة، وتوسيع نفوذه بإيالته لن يتحقق إلا عبر تجاوز النظام القبلي وضرب أذاته التنظيمية المتمثلة في الزّاوية، لذلك نهج هذه السياسة وخلق من خلالها فجوة بين القبيلة والزّاوية، حيث عمل على تقريب الزّوايا من سلطته، كالزّاوية التِّيجَانِيَّة ولُغْلِيمِيِّينْ، وأوقف عليهم الضرائب، وقدم لهم الدعم المادي والمعنوي لدورهم الإجتماعي في فضّ النزّاعات بين القبائل في إطار الشرعية الدينية.