الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الفقيه يقتات من التراث الديني القديم والعالم يأتي بالجديد

أحمد الحطاب: الفقيه يقتات من التراث الديني القديم والعالم يأتي بالجديد أحمد الحطاب
فما هو المقصود من "الفقيه يقتات من التراث الديني القديم؟". المقصود هو التالي : الفقيه، عندما يُسأَلُ عن حكم من الأحكام الدينية، يتصرَّف وكأنه يتوفَّر على وعاءٍ كبيرِ الحجم وبداخله آلاف الأوراق مكتوبٌ على كل واحدةٍ منها حكمٌ له علاقة بقضايا دينية معيَّنة. فعندما يُسأَلُ الفقيه عن واحدةٍ من هذه القضايا، فما عليه إلا أن يُدخلَ يدَه في الوعاء المذكور ليُخرجَ منه الحكمَ الذي يدور حوله السؤال والذي صاغه قبله فقهاء آخرون منذ أكثر من 10 قرون مضت.
أما المقصود ب"العالم يأتي بالجديد"، هو أن هذا العالمَ يشغِّل عقلَه، أي يبحث ثم يفكِّر، ويبحث فيتأمَّل، ويبحث فيُحقِّق ويتحقَّق، ويبحث فيدقِّق، ويبحث فيُجرِّب، ويبحث فيستنبط، ويبحث فيقارن ويستدل…ثم يأتي بالجديد في مجال المعرفة.
فحينما يُسأل عالِمُ الدين، الذي هو فعلا عالمٌ بما للكلمة من معنى، عن حٌكمٍ من الأحكام الدينية، فإنه، من المفروض، أن يتروَّى، ويتبصَّر ويتدبَّر ويبحث ويجتهد… وكل ما يقوم به من تفكيرٍ وتحقُّقٍ وتدقيقٍ واستنباطٍ ومقارنةٍ واستدلال، يقوده، في نهاية المطاف، إلى الإتيان بالجديد.
أما عالم الدين الحالي، حينما يُسأَلُ عن قضية من القضايا الدينية، فنراه يُدخل يدَه في الوعاء المذكور أعلاه ليُخرجَ لنا حلَّ القضية التي سئِلَ عنها. أي أن هذا الحلَّ جاهزٌ ولا يحتاج إلى بحثٍ أو دراسة أو تحرِّي… للتَّحقُّق من صلاحيتِه للزمان والمكان الحاليَين. بمعنى أن هذا الحلَّ الذي يعود تاريخُه إلى ماضٍ سحيقٍ، صالحٌ لكل زمان ومكان، علما أن دليلَه الواحد والوحيد هو العنعنة، أي انتقال الحل من شخص إلى آخر، وفي غالب الأحيان، عن طريق السمع!
انطلاقا من هذه الاعتبارات، "فهل رأيتم عالِما من علماء الدين الحاليين، بعدما سُئٍلَ عن قضية من القضايا الدينية، نزل إلى المجتمع وقام ببحثٍ لدى الناس الذين هم المعنيون الأولون والأخيرون بالقضية المطروحة"؟ وفي نهاية بحثه، رجع إلى مختبره (مكتبه) وقارن بين ما جمعه من أفكار وحلَّلَ وفكَّر واستدل… وفي نهاية المطاف، أتي بحلٍّ جديدٍ مخالفٍ لذلك الحل الجاهز الموجود في الوعاء المذكور أعلاه. والحلُّ الجديد، من المفروض، أن يكونَ ملائما للتَّغييرات التي حدثت في المجتمع، علما أنه لا يوجد، على الإطلاق وعبر تاريخ البشرية، مجتمعٌ جامدٌ.
إذن، هناك فرقٌ شاسعٌ بين الفقيه والعالِم. الفقيه ملتصق بالماضي السحيق، ويكتفي بما قاله الأولون. بمعنى أن عقلَ الفقيه جامدٌ أو أن  تجميدَه مُتعمَّد. وجمودُه هذا يقود، حتما، إلى تجميد الزمان، أي أن ما صاغه الأولون من أحكام إذا كان صالحا للماضي، فهو، كذلك، صالحٌ للحاضر ولِما سيأتي من الزمان. وهذا يعني أن الفقيهَ، إذا شغَّل عقلَه، فإنه يُشغِّله فقط لاستخراج الحُكم من ذاكرته.
غير أن كثيرا من فقهاء المسلمين يقلقون عندما يُصنِّفهم الناسُ، فقط، كفقهاء وليس كعلماء. فكيف يريدون أن يُصنِّفَهم الناسُ كعلماء وهم لا يتوفَّرون على صفات العلماء؟ وعلى رأس هذه الصفات تشغيلُ العقل.
انطلاقا مما سبق، يتَّضِح جيِّدا أن وجودَ الفقيه مقترن بوجود التراث الديني الفقهي القديم. لهذا، نراهم يحفظونه عن ظهر قلب لأنه هو سرُّ وجودِهم. بل إنهم يرفضون أن يضيفوا له ولو قيدَ أنمُلة من الجديد. أما مَن يُطلقون على أنفسهم لقبَ علماء، فإنهم يُقاربون القضايا الدينية تماما كما يفعل الفقهاء. إذن، الدين الإسلامي له فقهاء وليس له علماء بحُجَّةِ أن العالِمَ يأتي دائما بالجديد. 
ولو كان للدين الإسلامي علماء، لَما تغيَّرَ الفقهُ ولَما تغيَّرت الأحكامُ الفقهيةُ، على الأقل، بعد وفاة جميع الخلفاء الراشدين. لا شيءَ من هذا حدث. بل كان هناك تواطؤٌ خطيرٌ بين الحكام  والفقهاء والعلماء للسيطرة على البلاد والعباد باسم الدين. كل فئةٍ تجد ضالَّتَها في الفئة الأخرى، أي أن كلَّ فئة تخدم مصالح الفئة الأخرى.
والخدمةُ المتبادلة للمصالح، هي التي دفعت فقهاءَ  وعلماءَ الدين أن يصيغوا أحاديث لا علاقَةَ لها بالرسول(ص) ولا بخُلُقه ولا بكونه أُرسِلَ للناس رحمةً لهم، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء، 107)، أو مصداقا لقوله، عز وجل : "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم، 4). بل إن كثيرا من هذه الأحاديث ملفَّقة وتنفي هاتين الآيتين الكريمتين. فكيف للرسول محمد (ص) الذي أرسلَه الله، سبحانه وتعالى، رحمةً للعالمين، أن يخالفَ القرآن وهو الذي كان يُقالُ عنه : إن خُلُقَه القرآنُ أو كان قرآنا يمشي على الأرض.
والغريب في الأمر أن كثيرا من فقهاء وعلماء الدين صحَّحوا الأحاديث الملفقة و وردَ ذكرّها، على الأقل، في صحيحي البخاري ومسلم، متحجِّجين في أمرهم هذا بأن السنةَ مُكمِّلة للدين.  نعم، السنة مكمِّلة للدين. لكن، فهل يُفهَم من هذا التكميل أن القرآن الكريم ناقص وغير مكتمل؟ 
في هذه الحالة، مَن يقول إن السنة مكمِّلة للقرآن، يعتقد أن القرآن ناقص. والاعتقاد بنقصان القرآن  هو بمثابة تشكيكٌ فيه، علما أن الله، سبحانه وتعالى يقول : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام، 38)، ويقول كذلك : "... مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... (المائدة، 3). الله هو الذي أكمل الدين ودور السنة هو تعزيز هذا الدين وتقويتُه وتحبيبُه للناس. لهذا قال، سبحانه وتعالى: "مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (المائدة، 99).