الاثنين 25 نوفمبر 2024
فن وثقافة

حين ساهمت عيطة "رْجَانَا فِي الْعَالِي" في الكشف عن أهمية منطقة الحصبة كقطب اقتصادي واجتماعي بأسفي

حين ساهمت عيطة "رْجَانَا فِي الْعَالِي" في الكشف عن أهمية منطقة الحصبة كقطب اقتصادي واجتماعي بأسفي الزميل أحمد فردوس، و حسن الزرهوني

كلما فاض كرمه في ميدان البحث والتنقيب في متون نصوص قصائد فن العيطة، يبادر الموسيقي عاشق آلة لَوْتَارْ، ومروض ريشة ألوان صباغة لواحات الفن التشكيلي، الفنان حسن الزرهوني بإتحاف قراء جريدة "أنفاس بريس" بمساهماته القيمة في حقل البحث والتوثيق والكتابة، ولا يتردد في تفكيكها وتحليلها بشغف وعشق. فالرجل لا يتسرّع في الكتابة، رغم غزارة كنوزه المعرفية على مستوى تراث فن العيطة والموروث الثقافي الشعبي، وكأنه يمارسه هوايته المفضلة حين يرمي بصنارة قصبته بين أمواج البحر بساحل الْبَدُّوزَةْ "الْكَابْ" وينتظر صيده بصبر في الوقت المناسب.

 

في حلقة أخرى من سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، يتحدث حسن الزرهوني عن فترة مهمة من فترات بلاد الحصبة التي بصمتها تاريخيا مرحلة حكم القائد الكبير عيسى بن عمر، حيث نتناول أهم عوامل تمدد أراضي الحصبة، وكيف تمت تنقية تربتها من الحصى، لتتحول إلى قطب اقتصادي واجتماعي وثقافي وفني...عارجا في هذه الورقة على تصحيح عنوان أساسي في عيطة "رْجَانَا فِي الْعَالْي" التي كان قد أطلق عليها كل من الشِّيخْ الْخُمَّارِي، والشِّيخْ الجِّيلَالِي بَلَّبْيَضْ رحمهما الله، اسم "الْحَصْبَةْ"

 

"أَبَابَا الْحَصْبَةْ وَلَّافَةْ

يَاكْ أَ سِيدِي سْرُوتْهَا عَطَّابَةْ يَا قَيْدِي

بْلَادْ الْحَصْبَةْ يَا سِيدِي

رَطْبَةْ حْرِيرْ الْمَشْيَةْ بْلَا شَرْبِيلْ

دِيكْ الْحَصْبَةْ زِينْةَ السّْمِيَّةْ

الْعَيْطَةْ تَمْرِيَّةْ يَا قَيْدِي

أَبَابَا فْرَاقْنَا صْعِيبْ

آآ لَفْرَاﮜْ يْبَانْ يَا قَيْدِي".

 

تتردد هذه المتون في العيطة العبدية الموسومة بـ "رْجَانَا فِي الْعَالِي" أو عيطة "مُوسَى بَنْ مُوسَى"، وهذا هو الإصطلاح الصحيح لروّاد فن العيطة الحصباوية القدماء، وليس عيطة "الْحَصْبَةْ" كما أطلقها وسمّاها الشِّيخْ الْخُمَّارِي، والشِّيخْ الجِّيلَالِي بَلَّبْيَضْ رحمهما الله، كعنوان لهذه القصيدة/القطعة الغنائية خلال تسجيلاتهم الصوتية لأول مرة بمدينة الدار البيضاء في أواخر السبعينات، من القرن الماضي.

 

من المعلوم أنه حينما نتحدث عن بلاد الحصبة، فإننا نتكلم تحديدا عن الفترة التاريخية التي حكم فيها القائد الكبير عيسى بن عمر قبيلة عبدة، وتوسعه في القبائل المجاورة، حيت أعطى هذا الأخير اهتماما كبيرا لبلاد الحصبة كقطب اقتصادي، واجتماعي وفني وتقافي، مما جعل من المنطقة، النوّاة الأولى، ومهد فن العيطة الحصباوية.

 

إن الحصبة في الاصطلاح المحلي، هي الحجارة الصغيرة أو الحصى، خصوصا أن أرض الحصبة كانت كثيرة الحجارة، ونظرا لشساعتها، وجودة تربتها ـ التِّيرَسْ ـ فقد تم الإهتمام بها من طرف القائد عيسى بن عمر، وحوّلها إلى أرض خصبة. إذ تم استخدام عدد كبير من اليد العاملة، من فلاحين وصناع تقليديين وحرفيين، لتنقيتها من الحجارة، حتى أصبحت صالحة للزراعة في إطار ما يسمى آنذاك بنظام السخرة الذي عرف به النظام الفيودالي بأوروبا.

 

لكن بعد توالي فترات الجفاف، التي عرفها المغرب خصوصا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي ما بين سنتي 1877 و 1878، حيث يذكر الناصري في مؤلفه (الاستسقاء في أخبار دول المغرب الأقصى): "أنه بعد السنوات الجيدة التي تعاقبت على المغرب من سنة 1870 إلى 1876، حلت سنوات قاسية تمثلت في الكوارث الطبيعية، ابتداء من سنة 1877، حيث تراجعت وانهارت المحصولات الزراعية بسبب انحباس المطر، ثم قفزت الأسعار إلى أرقام مدهشة، ولم تلبت المجاعة أن عمت البوادي بدء بسوس، مؤدية إلى حدوت الوفيات الأولى بين السكان بسبب انتشار الأمراض. وتعددت فيها المصائب والكروب وتلونت فيها النوائب والخطوب".

 

في هذا السياق عرفت أرض الحصبة أزمة فلاحية كبيرة، الشيء الذي دفع بالقائد عيسى بن عمر، عند توليه القيادة سنة 1879، الإهتمام ببلاد الحصبة حتى تصبح قطبا اقتصاديا يضاهي أراضي الربيعة والعامر بعبدة. وكانت بلاد الحصبة تدخل في ما يمكن أن نسميه التقسيم المخزني للعمل، حيث كان دورها هو تمويل ودعم الحكم المركزي المتمثل في رعاية وتربية المواشي التابعة للمخزن المركزي، مثل الخيول، والجمال، والبغال. ويمكن أن نستشهد في هذا السياق التاريخي بما أوردته متون العيطة الحصباوية:

 

"عْطَيْنَاكْ الْمَالْ وَالرْجَالْ

أُو زَدْنَاكْ الْخَيْلْ مْعَ لَبْغَالْ

نُوضُو خُرْجُوا يَا الْحَاجْبَاتْ

دِيرُوا خَاطَرْ مُولَايْ الْحَسَنْ".

 

لقد كان المخزن المحلي يوفر المراعي الكافية لمواشي السلطان، بل يضطر أحيانا إلى توزيعها على القبائل المجاورة لمنطقة الحصبة من أجل رعايتها بالمجان، خصوصا الخيول والبغال نظرا لدورها الاستراتيجي في نجاح الحركات السلطانية وقدرتها على مواجهة التضاريس حيت توجد وتتمركز بعض القبائل الثائرة.

 

تمتد حدود بلاد الحصبة انطلاقا من دوار "لَعْتَامْنَةْ" و "أَوْلَادْ السْبَاعِي" ثم "الْبِحَّارَةْ" و "لَعْرِيشْ" و "الضَّايَةْ الْبَيْضَا" و "أَوْلَادْ مْحَيَّةْ" إلى حدود منطقة سبت المعاريف، وأولاد عمران بدكالة .

 

وتتمدّد أرض الحصبة إلى آلاف الهكتارات، حيث كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها بلاد الحصبة هي الامتداد الكمّي للظاهرات التي يخلفها النظام الاجتماعي القائمة على أساسه القائدية، الذي يتميز باقتصاده الزراعي وبالسّمة الأساسية لعلاقاته الإنتاجية. أي الملكية الشبه اقطاعية، الشيء الذي سبّب انفجارات نوعية، كانت انتفاضة أولاد زيد من أبرز تجاربها، ودخلت الفئة الحاكمة أي المخزن المحلي كطرف في الإنتاج الفلاحي ليس كونها سلطة سياسية ممثلة لفئة المخزن بل بصفتها المالك الأكبر للأراضي بقيادته والمستثمر الاقطاعي الأكبر.

 

وهذا الواقع أخذ يحدث تدريجيا تأثيرات سلبية في طور العلاقات الشبه إقطاعية، وتطور القوى المنتجة في إطار نظام السّخرة بعد أن كانوا المالكين الأصليين. وأخذ المخزن يرهق هذه الفئات التي تخدم أرض الحصبة بالعمل الشّاق، وبالمزيد من الضرائب، وسوء جبايتها من طرف اتباع القائد. حيث تختلف الأوامر من الرئيس إلى المرؤوس. فإذا أمر القائد من الخليفة أن كل فلاح يفرض عليه خروبة من الحبوب. فإن الخليفة يأمر من الشيخ إحضار خروبتين، والشيخ يأمر من الفلاح ثلاثة. أما ضربات العصي فلا تحصى. الشيء الذي دفع بملّاكي الأراضي إلى التخلي عن ضيعاتهم أو التنازل عنها لصالح القائد مقابل الحصول على الطعام بسبب توالي فترات الجفاف أو هجرة هذه الفئات إلى القبائل المجاورة الأكثر استقرارا، هربا من وطأة الضرائب وقسوة الجباة.

 

 

هكذا استطاع عيسى بن عمر، أن يخلق من بلاد الحصبة قطبا هامّا، فقام بتعميرها بعدد من الفلّاحين والرّعاة والرّماة قصد الاهتمام بها، حيث عمل على توفير شروط الاستقرار لهؤلاء الناس، وخلق فضاء غابويا للاستمتاع بهواية القنص، ونذكر هنا مثلا غابة "لَمْعَاشَاتْ" و "الْغُزْيَةْ" و "أَوْلَادْ عَلُّو".

 

لقد عمل القائد على ترحيل مجموعة من العائلات من سوس أثناء مشاركته في حركات السلطان المولى الحسن الأول، وتفرعت هذه العائلات إلى دواوير وهي: "الشلوح" و "تيحونة" و "النيوس" و "السكاردة" و "الصوامدة" و "التنابكة" و "أولاد داحي"...ووزع بعض الأراضي على العائلات اليهودية التي كانت تمارس التجارة بجانب قصبة عيسى بن عمر، حيث تكونت على إثرها دواوير: "أولاد رحمون" و "حائط موسى" و "أولاد سيدي عبد الله موسى" و "الدحامنة" و "أولاد علي بن دحمان" و "أو لاد عمارة".

 

وبعد استقرار المناخ في أواخر القرن التاسع عشر، ازدهرت الفلاحة وتضاعف الإنتاج وشهدت بلاد الحصبة توافد عدد كبير من الفئات المستضعفة من القبائل المجاورة، خصوصا من قبيلة أحمر، والحوز بعد نهاية موسم الحصاد للظفر بحصة العشور. وساهمت هذه الظرفية الاقتصادية والاجتماعية بظهور إرهاصات جنينية لفن العيطة، وسرعان ما انتشرت وتطورت في منطقة الحصبة بدعم وتحفيز وتوجيه من طرف القائد عيسى بن عمر، فجاءت هذه المتون الشعرية:

 

"طْرِيقْ الْحَصْبَةْ رَطْبَةْ حْرِيرْ

الْمَشْيِةْ بْلَا شَرْبِيلْ

وَالْحَصْبَةْ وَلَّافَةْ

سْرُوتْهَا عَطَّابَةْ"