يقول بورخيس: "إن الفرق بين المؤلف والقارئ هو أن الكاتب يكتب ما يستطيع كتابته، بينما يقرأ القارئ ما يشاء". فالكتابة بهذا المعنى تعني إنجاز مهمة، أما القراءة فهي أسلوب حياة. وبمعنى آخر، إن القراءة هي ما يمنحنا إنسانيتنا ويجعلنا قادرين على فك رموز عالمنا. بل إن الكاتب الفرنسي هنري مانترلانت، مثلا، يرى أنه لا فرق لديه بين الموت وعدم القدرة على القراءة، وذلك لأن الإنسان الذي لا يقرأ ميت في الحياة وفاقد لإنسانيته. وهكذا، فالحق في القراءة يعادل الحق في الحياة.
طبعا، هناك أسباب كثيرة وراء القراءة. هناك من يصنع من القراءة ملجأ يكون عبارة عن فضاء خاص به لم يكن يمتلكه من قبل. ويبدو لي أن القراءة هي إعادة اختراع العالم. إنني أحس بالسعادة عندما أدخل إلى المكتبة، وأعرف أن العالم قد تم تقديمه بشكل يمكنني من اكتشافه، وأن مكنونات الكتب تلبي حاجاتي ورغباتي وتستجيب لتمنياتي، وتغني تجربتي... فالعالم ليس معطى، بل يتم بناؤه عبر الكتب التي يوجد فيها.
وتغمرني الفرحة أيضا عندما أعرف أن هناك كتابا ينتظرني قصد الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقني. إنني لا أعرف أين يجد الذين لا يبحثون عن الكتب هذه الأجوبة. فمن الممكن أن يجدوها، لكن يظهر لي أن ذلك سيكون أمرا صعبا. وتبعا لذلك، أعتبر أن التغيير ممكن بالقراءة، وبالكتب التي تجعلنا نفهم حقيقة وجودنا، في اتصالها وانفصالها، في استمراريتها وقطائعها.
إن القراءة، حسب ما أفهمه، هي التي تتيح أن نعمل إبستمولوجيا على وجودنا كي نغيره. إنها ما يتيح ذلك النقد المعرفي اللازم لأي فعل تغيير كيفما كان نوعه. وطبعا، في هذه المساحة التي نقيم فيها، ما أحوجنا إلى قارئ مزعج ومحارب غير قابل للخداع، وغير مُهَيَّئ لاستهلاك المنتوجات والأفكار التي يتم شحنه بها. إننا بحاجة إلى قارئ فطن وذكي يسعى نحو المعرفة، ولا يغفو أمام مؤامرات السلطة الاستبدادية التي تقمع الحريات وتحارب الكتب الذكية والمحرضة على العقل.
إن الكتاب الذي يستحق أن يظفر بالتفاتة القارئ هو ذاك الكتاب الممتلئ بجرأة القول (بالمعنى الشعري، وليس الخطابي) وبغير قليل من الاستفزاز الجمالي. إنه بتعبير أدق ذاك الكتاب الذي يجردك من كل أسلحة القراءة، فيحولك إلى قارئ أعزل، ويُفرغك من امتلائك بالكتب الأخرى، ويضعك في قلب "درجة الصفر من القراءة". فالكتاب، كما يقول موريس بلانشو، يعني "اشتغال اللغة بذاتها: وكأن الأمر يتطلب وجود الكتاب كي تعيَ اللغةُ اللغةَ وتدركَ نفسها وتكتملَ في عدم اكتمالها".
إنه أيضا تلك الحركة الدائرية التي تسعى نحو اكتمالها دون أن يكون في الإمكان تحققها فعلا؛ فتظل فعلا ناقصا، لأنها لا تقتفي أثرا سابقا، بل تصنع فرادتها من خلال إنتاج لغة تغير اتجاهها باستمرار، لأنها لا تعترف أصلا بعلامات التشوير. إن الكتاب، بهذا المعنى، يقع "خارج القانون"، أي خارج التعاقدات السابقة عليه بين المؤلف والقارئ.
فإذا كان قانون الكتاب يقع، حسب ما يراه بلانشو، "حيثما يوجدُ نظامٌ من العلاقات يبسطُ نفوذَهُ، وذاكرةٌ ناقلةٌ، وكتابةٌ تتجمَّعُ في مادةِ أثرٍ ما بفعل قراءةٍ تستنيرُ بمعنىً ما"، فإن هناك قانونا آخر مغايرا يتحقق في فعل الإتلاف، أي التدمير والمحو والانفصال (التأويل)، والغاية في نهاية المطاف هي أن يكبُر الكتابُ طولا وعرضا، وينمو داخليا نمواً لانهائياً دون أن يشيخ، ودون أن تحتله التغضنات. وطبعا، إن هذا الفهم يقودنا إلى "الكتاب اللاهوتي"، أي ذلك الكتاب الذي يُعتبر فاصلاً بين المشروع وتحققه، وبين الرغبة ومصيرها. إنه الكتاب الذي ينتج على الدوام وميضا مرتبطا بطبيعة المتلقي، أي ذلك البياض الذي تحاول الرغبة أن تملأه، إلى حين زوالها.
الكتابُ، إذن، هو هذا الترحال المضني للقبض على "الرباط المقدس" بين اللحم والروح؛ ولا يتحقق هذا الرباط إلا عبر ابتكار "الصيغة اللغوية" التي ترتفع عن لغة الطُرُوس.
إن الكتاب الذي نعنيه متحيز بشكل شامل لركاكة المعنى، تماما كما كان يتحيز عزرا باوند لوصف التفاهات، أي لـ "الأساسي" لأنه كان يدري أن الكتابة تقيم حيث لا نتوقع، وكما كان يتحيز إميل سيوران للعدم، أي تلك البداية المتكررة التي لا أصل لها. ليس هناك أصل. هناك بداية وقعت في لحظة عبث عظيم، وهي التي تجعلنا نؤانس وجودنا الخالي من المعنى.
إنه الكتاب الذي يمشي وحده، وليس مطلوبا منه أن يمشي على الأرض (النسق)، بل الرهان الأساسي هو أن يمشي خارج الأنساق متأبطا غير قليل من الزَّلات والأخطاء والمروق الأخلاقي والديني والسياسي، وعلى وجه التخصيص المروق الذي يحافظ على مذاق اللحم المعضوض للغة في الأسنان؛ لا لترتفع هذه اللغة وتتحنط وتُعْبَد، بل لتصبح سريرا واسعا لكل سقوط ممكن. ولعل هذا ما نفهمه من سيوران حين يصرخ: "كل كتاب هو انتحار مرجأ".
وبمعنى آخر، إنه ذلك الاقتراب الذي يقوض كل شيء في طريقه، ويبطل الإشارات المتفق عليها- كأنه النسيان- ليؤسس "سوء الفهم". ألم يتأسس العالم ( أو على الأقل العالم المتخيل) على ما يتعذر العودة إليه؟ ألم يتأسس على "النزوة الأولى" التي لا يمكن تصحيحها، ولا أيضا ترميم التصدع الذي اقترفته على اللغة. فليس بوسع كتاب يحاول بكل قوة أن يصير أبا أن يتحقق، لأنه سيكون خارج مبدأ الانسلاخ عن السابق واللاحق، وسيكون امتدادا للمزاج الجنسي العام (التكاثر وحب البقاء).
إن الكتاب الذي نعنيه هو الذي وُلِد من لحظة يأس لا يضمر، ولا يخطر في انشغاله أن يتكرر أو أن يكرر الإلماح الغبي إلى السماء".
طبعا، هناك أسباب كثيرة وراء القراءة. هناك من يصنع من القراءة ملجأ يكون عبارة عن فضاء خاص به لم يكن يمتلكه من قبل. ويبدو لي أن القراءة هي إعادة اختراع العالم. إنني أحس بالسعادة عندما أدخل إلى المكتبة، وأعرف أن العالم قد تم تقديمه بشكل يمكنني من اكتشافه، وأن مكنونات الكتب تلبي حاجاتي ورغباتي وتستجيب لتمنياتي، وتغني تجربتي... فالعالم ليس معطى، بل يتم بناؤه عبر الكتب التي يوجد فيها.
وتغمرني الفرحة أيضا عندما أعرف أن هناك كتابا ينتظرني قصد الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقني. إنني لا أعرف أين يجد الذين لا يبحثون عن الكتب هذه الأجوبة. فمن الممكن أن يجدوها، لكن يظهر لي أن ذلك سيكون أمرا صعبا. وتبعا لذلك، أعتبر أن التغيير ممكن بالقراءة، وبالكتب التي تجعلنا نفهم حقيقة وجودنا، في اتصالها وانفصالها، في استمراريتها وقطائعها.
إن القراءة، حسب ما أفهمه، هي التي تتيح أن نعمل إبستمولوجيا على وجودنا كي نغيره. إنها ما يتيح ذلك النقد المعرفي اللازم لأي فعل تغيير كيفما كان نوعه. وطبعا، في هذه المساحة التي نقيم فيها، ما أحوجنا إلى قارئ مزعج ومحارب غير قابل للخداع، وغير مُهَيَّئ لاستهلاك المنتوجات والأفكار التي يتم شحنه بها. إننا بحاجة إلى قارئ فطن وذكي يسعى نحو المعرفة، ولا يغفو أمام مؤامرات السلطة الاستبدادية التي تقمع الحريات وتحارب الكتب الذكية والمحرضة على العقل.
إن الكتاب الذي يستحق أن يظفر بالتفاتة القارئ هو ذاك الكتاب الممتلئ بجرأة القول (بالمعنى الشعري، وليس الخطابي) وبغير قليل من الاستفزاز الجمالي. إنه بتعبير أدق ذاك الكتاب الذي يجردك من كل أسلحة القراءة، فيحولك إلى قارئ أعزل، ويُفرغك من امتلائك بالكتب الأخرى، ويضعك في قلب "درجة الصفر من القراءة". فالكتاب، كما يقول موريس بلانشو، يعني "اشتغال اللغة بذاتها: وكأن الأمر يتطلب وجود الكتاب كي تعيَ اللغةُ اللغةَ وتدركَ نفسها وتكتملَ في عدم اكتمالها".
إنه أيضا تلك الحركة الدائرية التي تسعى نحو اكتمالها دون أن يكون في الإمكان تحققها فعلا؛ فتظل فعلا ناقصا، لأنها لا تقتفي أثرا سابقا، بل تصنع فرادتها من خلال إنتاج لغة تغير اتجاهها باستمرار، لأنها لا تعترف أصلا بعلامات التشوير. إن الكتاب، بهذا المعنى، يقع "خارج القانون"، أي خارج التعاقدات السابقة عليه بين المؤلف والقارئ.
فإذا كان قانون الكتاب يقع، حسب ما يراه بلانشو، "حيثما يوجدُ نظامٌ من العلاقات يبسطُ نفوذَهُ، وذاكرةٌ ناقلةٌ، وكتابةٌ تتجمَّعُ في مادةِ أثرٍ ما بفعل قراءةٍ تستنيرُ بمعنىً ما"، فإن هناك قانونا آخر مغايرا يتحقق في فعل الإتلاف، أي التدمير والمحو والانفصال (التأويل)، والغاية في نهاية المطاف هي أن يكبُر الكتابُ طولا وعرضا، وينمو داخليا نمواً لانهائياً دون أن يشيخ، ودون أن تحتله التغضنات. وطبعا، إن هذا الفهم يقودنا إلى "الكتاب اللاهوتي"، أي ذلك الكتاب الذي يُعتبر فاصلاً بين المشروع وتحققه، وبين الرغبة ومصيرها. إنه الكتاب الذي ينتج على الدوام وميضا مرتبطا بطبيعة المتلقي، أي ذلك البياض الذي تحاول الرغبة أن تملأه، إلى حين زوالها.
الكتابُ، إذن، هو هذا الترحال المضني للقبض على "الرباط المقدس" بين اللحم والروح؛ ولا يتحقق هذا الرباط إلا عبر ابتكار "الصيغة اللغوية" التي ترتفع عن لغة الطُرُوس.
إن الكتاب الذي نعنيه متحيز بشكل شامل لركاكة المعنى، تماما كما كان يتحيز عزرا باوند لوصف التفاهات، أي لـ "الأساسي" لأنه كان يدري أن الكتابة تقيم حيث لا نتوقع، وكما كان يتحيز إميل سيوران للعدم، أي تلك البداية المتكررة التي لا أصل لها. ليس هناك أصل. هناك بداية وقعت في لحظة عبث عظيم، وهي التي تجعلنا نؤانس وجودنا الخالي من المعنى.
إنه الكتاب الذي يمشي وحده، وليس مطلوبا منه أن يمشي على الأرض (النسق)، بل الرهان الأساسي هو أن يمشي خارج الأنساق متأبطا غير قليل من الزَّلات والأخطاء والمروق الأخلاقي والديني والسياسي، وعلى وجه التخصيص المروق الذي يحافظ على مذاق اللحم المعضوض للغة في الأسنان؛ لا لترتفع هذه اللغة وتتحنط وتُعْبَد، بل لتصبح سريرا واسعا لكل سقوط ممكن. ولعل هذا ما نفهمه من سيوران حين يصرخ: "كل كتاب هو انتحار مرجأ".
وبمعنى آخر، إنه ذلك الاقتراب الذي يقوض كل شيء في طريقه، ويبطل الإشارات المتفق عليها- كأنه النسيان- ليؤسس "سوء الفهم". ألم يتأسس العالم ( أو على الأقل العالم المتخيل) على ما يتعذر العودة إليه؟ ألم يتأسس على "النزوة الأولى" التي لا يمكن تصحيحها، ولا أيضا ترميم التصدع الذي اقترفته على اللغة. فليس بوسع كتاب يحاول بكل قوة أن يصير أبا أن يتحقق، لأنه سيكون خارج مبدأ الانسلاخ عن السابق واللاحق، وسيكون امتدادا للمزاج الجنسي العام (التكاثر وحب البقاء).
إن الكتاب الذي نعنيه هو الذي وُلِد من لحظة يأس لا يضمر، ولا يخطر في انشغاله أن يتكرر أو أن يكرر الإلماح الغبي إلى السماء".