قبل أن أدخلَ في صُلب موضوع هذه المقالة، أثيرُ الانتباهَ إلى أن كلمةَ "كَون" غير موجودة في القرآن الكريم. وكلمة "كون"، هي مصدر فعل كان. وحينما نقول "كان الشيءُ"، فالأمرُ يتعلَّق بشيءٍ كان موجودا في الماضي. وحينما نقول "يكون الشيءُ"، فالأمر يتعلَّق بشيءٍ موجود في الحاضر أو سيوجد في المستقبل.
ولهذا، فحسب العقل البشري، الكون هو الوجود existence، أي كل ما يُدركه هذا العقل (الدماغ) عن طريق الحواس الخمسة. إذن، الكون، من منطلقٍ بشري، هو الكونُ المحسوس. لكن، إذا قاربنا الكونَ من منظور إلهي، فالكون هو الكونُ المطلق، أي الكون الذي لا يمكن للعقل البشري أن يُدركَ خباياه. لماذا؟
لأن الله، سبحانه وتعالى، حينما يريد أن يخلقَ شيئا من الأشياء، يقول له "كُنْ فَيَكُون". وهذا الخلقُ يمكن أن ينشأ من عدمٍ ويمكن أن ينشأَ من شيءٍ آخر، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ" (السجدة، 7).
ولهذا، ما هو مُتاحٌ للعقل البشري هو تحليل هذا الكون، ومن خلال هذا التَّحليل، تفسير مختلف مظاهره المادية والمعنوية. وتحليل الكون هو الذي قاد الإنسانَ إلى تراكم المعارف وإنشاء العلوم الدنيوية التي، بواسطتها، قام بإعمار الأرض. ثم لماذا نقول : "ما هو مُتاحٌ للعقل البشري هو تحليل هذا الكون؟
لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، حين يقول : "إِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر، 29). في هذه الآية، "فيه" تعود على إلإنسان (آدم وذريتُه). والنفخ، في هذه الآية، لا يعني، على الإطلاق، انتقالَ الصفات الإلهية من الله، سبحانه وتعالى، إلى الإنسان. لا، أبدا! والدليل على ذلك أنه، عز وجل، قال "مِن رُّوحِي"، أي بعضاً من روحي. لهذا، فالهدف من النفخ هو أن يكونَ الإنسانُ واعياً بوجود الكون وليس أن يكونَ الإنسانُ "خليفةً" لله في الأرض، كما يُعتقَد عند بعض الناس حين يقول، سبحانه وتعالى، مُخاطبا الملائكة : "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… (البقرة، 30). في هذه الآية، "خَلِيفَةً" تعني ناسا ينحدرون من ذرية آدم ويَخلُفُ بعضُهم البعضَ الآخر.
لكن، لماذا كلمة "كون" غير موجودة في القرآن الكريم، علماً أن اللهَ، سبحانه وتعالى، هو خالق هذا الكون؟ هل هناك حكمةٌ في عدم وجود كلمة "كون" في القرآن الكريم؟ حسب تقديري الشخصي، هناك حِكمةٌ بالغة الأهمِّية. فما هي هذه الحِكمة؟
كلمة "كون" تُطلَق أحيانا على الأرض la Terre ومُكوِّناتُها الحية وغير الحية. وأحيانا تُطلق على العالم le monde، وأحيانا أخرى، تُطلق على مجموع البشرية أو على الطبيعة أو على مجرَّةٍ galaxie دون أخرى… ولهذا، الله، سبحانه وتعالى، رفعاً لكل لُبس أو ظنٍّ، يُشير إلى مصطلح "كون" بعبارة "السماوات والأرض"، علما أن الأرضَ هي جزءٌ من السماوات التي هي أوسع بكثيرٍ من الأرض.
ومرةً أخرى وحسب رأيي الشخصي، اقتران الأرض بالسماوات للدلالة على الكون، مفادُه أن الأرضَ، أولا، هي المكان الذي خلق فيه الله، سبحانه وتعالى، الحياةَ بشتى أنواعها بما فيها الإنسان العاقل. ثانيا، القرآن الكريم، كلُّه، تدور آياتُه حول وجود الإنسان في هذه الأرض.
وآياتُ القرآن الكريم التي يشير فيها، سبحانه وتعالى، إلى الكون من خلال عبارة "السماوات والأرض"، كثيرةٌ، أذكر منها ما يلي :
1.أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (البقرة، 107).
في هذه الآية الكريمة، يقول، عزَّ وجلَّ : "لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، أي هو مالكُ الكون. وهذا شيءٌ مفروغٌ منه لأنه هو خالِق هذا الكون. ورغم مُلكِه للكون، فإنه، سبحانه وتعالى، تقديرا للإنسان وتكريماً له، سخَّر لهذا الأخير كل ما أوجده في الكون، مصداقا لقوله، جل عُلاه : "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً… (لقمان، 20).
2."بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (البقرة، 117).
"بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" تعني خالقُ السماوات والأرض، أي خالِق الكون univers. والأرضُ ليست إلا جزأً صغيرا جدا من الكون الشاسع الأطراف. ولقد سبق أن قلتُ في إحدى مقالاتي أن علماءَ الفلك les astronomes، وبالأخص علماء الفيزياء الفضائية les astrophysiciens يقدرون عددَ مجرات galaxies الكون ب2000 مليار مجرة، علما أن كل مجرة تحتوي على ملايير النجوم.
وفي نفس الآية، يقول، سبحانه وتعالى : "وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ". وهذا يعني أن قدرةَ اللهِ، عز وجل، على الخلق لا نهايةَ ولا حدودَ لها، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (الشورى، 49). في هذه الآية الكريمة، يقول، عز وجل : "يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ"، أي أن قدرة الله على الخلق مرتبطةٌ بمشيئته. لكن كل ما يخلقُه الله، سبحانه وتعالى، في هذا الكون، لا يخلقُه عبثاً. بل كل ما يخلقُه، فيه نفعٌ للناس. والدليل على ذلك، هو أنه يقول في الآية رقم 20 من سورة لقمان، المشار إليها أعلاه : "سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"، أي كل ما هو موجودٌ في الكون، سماءً وأرضا.
وما يُثير الانتباهَ هو أن الله، سبحانه وتعالى، لم يذكر لنا، بالتفصيل، ما هي الأشياء التي يتضمَّنها الكونُ أو ما هي الأشياء التي يتألَّف منها هذا الكونُ، سماواتٍ وأرضا. لماذا؟
لأن هذا التَّفصيل متروكٌ لاجتهاد العقل البشري وسعيِه لتوسيع دائرة معارفه وعلمِه. وهو ما حصل بالنسبة للأرض حيث الإنسان، بواسطة عقله، جابَ هذه الأرضَ شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وتوغَّل في بِحارها وجِبالها وأغوارها وأجوائها. النتيجة أدت إلى تراكم المعارف أدَّت، بدورها، إلى ظهور العلوم الدنيوية.
قد يقول قائلٌ إن اللهَ سخَّر للناس، حسب الآية رقم 20 من سورة لقمان : "مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ". ما أردُّ على هذا القائل هو أن الإنسانَ، منذ نهاية الخمسينيات، بعد توغُّله في جميع أنحاء الأرض، بدأ يتوغَّل في الفضاء espace، و وصل إلى القمر وهو في طور اكتشاف كوكب المريخ planète Mars. كما يوجد في الجو المحيط بالأرض عدَّة أقمار صناعية satellites أطلقها الإنسانُ في الفضاء لأغراض عسكرية، بيئية، مناخية، فلكية، زراعية، اتصالية، إعلامية (انترنت)، علمية…، الشيء الذي أدى إلى ظهور علوم جديدة، العلوم الفضائية sciences spatiales.
بعد هذه التَّوضيحات عن الكون وعن تسخير كل ما يوجد فيه من مُكوِّنات للإنسان، حان الأوان لأبيِّنَ لماذا قلتُ، في عنوان هذه المقالة : "لا يعرف الكونَ معرفةً دقيقةً إلا خالِقُه". فما هي الأدلة التي أرشدتني إلى قول ذلك؟
الأدلَّة كثيرة والقرآن الكريم حافلٌ بها.
أولا، الله، سبحانه وتعالى، يقول في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم إنه "على كل شيءٍ قدير"، "إنه بكل شيءٍ عليم" وهو "أعلم بمَن في السماوات والأرض"... والأشياء، بالطبع، توجد في الكون. واستعمال كلمة "شيء" في كثير من آيات القرآن يُغني عن ذكرها بالتَّفصيل. وبما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، سخَّر هذه الأشياء للإنسان، فما على العقل البشري إلا اكتشافَها عن طريق البحث بتمعُّنٍ وتدبُّرٍ وتبصُّرٍ… واستعمال كلمة "شيء" في العديد من آيات القرآن الكريم فيه حِكمةٌ بالغة الأهمية. بمعنى أن علمَ الله يشمل كل الأشياء، بدون استثناء، سواءً تلك التي وُجِدت في الماضي والحاضر أو تلك التي ستوجد أو سيخلقها الله في الآتي من الزمان.
حينما يقول، سبحانه وتعالى هو : "أعلم بمَن في السماوات والأرض"، فهذا يعني أنه على علمٍ، دون غيره، بما تضم السماوات والأرض وما يجري فيها من أحداثٍ وظواهر.
ثانيا،الله، سبحانه وتعالى، يقول، كذلك، إنه "علام الغيوب"، أي يعلم عن الكون ما لا يعلمُه الناس أو ما لم يستطيعوا معرفتَه إلى حدِّ الآن أو ما لم يمكِّنهم من معرفته، بعقولهم، إلى حدِّ الآن. لماذا؟ لأنه، عزَّ وجلَّ، يقول في الآية رقم 255 من سورة البقرة : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…".
ثالثا، كثير من آيات القرآن الكريم تقترن فيها صِفتان من صِفات الله، ألا وهما "السميع" و "العليم". بمعنى أنه، سبحانه وتعالى، إلى جانب إحاطته بجميع الأشياء الموجودة في الكون أو التي ستوجد فيه مستقبلا، يسمع كل الأصوات كيفما كانت أنواعها وبأية لغة كانت، مصداقا لقوله، سبحانه وتعال : "إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (الأعلى، 7).
رابعا، من صفات الله، سبحانه وتعالى، أنه بصير، "خبير" و "حكيم". إلى جانب إحاطة علمِِه بكل شيء، الله، عزَّ وجلَّ، بصيرٌ، أي يرى كل ما في الكون من أشياء، كيفما كان حجمُها، متناهية في الكِبر أو متناهية في الصغر، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "...وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (يونس، 61). حكيمٌ، أي إذا خلق شيئا من أشياء الكون، فإنه يُتقِنه ويُحدِّد له غايةً فيها نفعٌ للبلاد والعباد. خبيرٌ، أي الذي يعلم كُنهَ الأشياء الموجودة في الكون، ظاهرة أو باطنة. بمعنى إنه، سبحانه وتعالى، يَخبُرُ جميع الأشياء التي خلقها في الكون.
وهذه بعض الآيات الكريمة التي، إضافةً إلى ما قلتُه أعلاه، تؤكِّد بأن خالقَ الكون هو الذي يعرفه بدقة :
1."…أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق، 12)
2."لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (الشورى، 12). "مقاليد" تعني مفاتيح. ومن له مفاتيح السماوات والأرض، فإنه يدبِّرها ويُغيِّرها كما يريد.
3."أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (يس، 81).
4."وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا" (النساء، 126).