احتارت الكثير من الأوساط السياسية والأكاديمية والمدنية في تشخيص علل العلاقات التاريخية والدبلوماسية والبينية بين جمهورية الجزائر والمملكة المغربية، بل وعجزت عن تحديد غايات الطرفين، وكيف يمكن استشراف حل لذلك الفتور المزمن، الذي يكبر بخط تصاعدي متسارع كلما تفاءل الشعبان بقرب انفراج يمد جسور التواصل والتعاون بينهما وبث مشاعر وقيم الإخاء والجوار بين مختلف مكوناته.
كنا نعتقد لوقت ليس باليسير، أن الاختلاف بشأن النزاع حول الصحراء، وخطابات الجزائر المستندة الى فكرة نصرة الحركات التحررية ودعمها اللامحدود لحركة سياسية مسلحة تدعى جبهة البوليساريو، تتخذ من أراضيها قاعدة خلفية لمهاجمة البلدات الصحراوية جنوب المغرب، سببا رئيسيا لاستمرار العداء بين الإخوة، وأن أي تنازل لقادة الثورة الجزائرية عن القضية الصحراوية، سيمس لا محالة من مكانتهم جماهيريا وإقليميا، ويحجم تأثيرهم على الساحة الدولية، ناهيك عن ارتدادات ذلك على الوضع الداخلي.
إن المتتبع لكرنولوجيا وسياقات التقارب والتباعد بين البلدين الجارين، ينتهي الى خلاصة مفادها امتلاكهما لعناصر تشابه وتماثل أكثر بكثير مما يفرقهما، إن كان ما يتعلق بمكونات شعبيهما ذات الأصل الأمازيغي الغالب والعربي المتجذر في المنطقة برمتها والصحراوي الحساني، الذي يشكل عامل إثراء في الجنوب المغربي والجزائري على حد سواء.
وعلى الرغم من تقاسم محطات مشرقة من نضالات الشعبين ضد المستعمر الغربي واحتضان الأراضي المغربية لقادة الثورة الجزائرية ودعمهم، واحتضان مقاومتهم جماهيريا وسياسيا، ظلت السمة الغالبة للعلاقات بين البلدين، مزيدا من الابتعاد وإظهار العداء، عوض حلحلة القضايا العالقة وعلى رأسها منازعة جبهة البوليساريو للمغرب سيادة أقاليمه الجنوبية بدعم وإسناد عسكري وسياسي ومالي جزائري سخي.
في غفلة منا جميعا، اندلعت حرب بين المغرب والجزائر استمرت لأيام، كادت أن تعصف بالسلم الإقليمي، لولا تدخلات ووساطات عربية وافريقية، ارتأت أن من شأن استمرار الأعمال العسكرية وتوسع رقعتها بين بلدين جارين قد تعصف بأمن القارة ككل، وقد لا يجد المرء عناء كبيرا في معرفة الأسباب الكامنة وراء اندلاع تلك الحرب بين الأشقاء.
فالأمر يتعلق بخيانة عهد قطعه الثوار الجزائريون لإخوانهم المغاربة، في ارتباط بمسألة الحدود المقطعة اوصالها بفعل تدخلات القوى الاستعمارية، لاقتلاع مكامن القوة فينا، استشعارا بخطر وحدة شعوبنا ومحاولة تفتيت ما يجمعنا، للانفراد بكل قطعة من أوطاننا، ووضع اليد على مقدراتنا ورسم أحلامنا ومستقبلنا في غيابنا بسبب حالة التشرذم التي تخيم على فضائنا.
لم يشأ الملك محمد الخامس يوما ان يفاوض الفرنسيين على حساب تحرير واستقلال الجزائر المستعمرة، بل وانتصر لرد الاعتبار للإخوة في النضال والمقاومة ومحاربة المستعمر ودحره خارج الأوطان، ليتسنى بعد ذلك محاورة الإخوان بشأنه استرداد حقوق المغرب المشروعة في استرجاع أراضيه التي ما زالت تشهد زقاقها وأشجارها وعصافيرها ومياهها وأهلها وكل شيء تدب فيه الحياة هناك، عبق المغرب وأنفاسه في غياب وجود رسمي لمؤسساته، وهنا يتجلى سمو وطهارة الانتماء.
لم يغب عن أذهان ثوار الجزائر يوما أن فرنسا كانت تعد العدة للاتفاق مع المغرب على حساب مقاومتهم والانقضاض على ثورتهم ومحاصرة تطلعاتهم بتحرير الأرض والعرض من مستعمر غاشم، كاد أن يمحو أثرهم من الوجود، لولا الألطاف الإلهية وتبصر وحكمة الملك محمد الخامس الذي أبى إلا أن يؤجل استكمال وحدة البلد الترابية، حتى يتمكن الثوار من تحرير الأرض والتوصل مع إخوة الدين والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك الى اتفاق يحفظ للجزائر كرامتها وهي الخارجة للتو من عقود من الاستعمار والاستغلال والبطش والاجهاز على مقومات هذا الشعب المنهك، تفويتا لفرصة انقضاض الفرنسيين على ما تبقى من جزائر الخمسينيات من القرن الماضي، عبر عملية مقايضة لئيمة المقاصد، وربما قد تكون أشبه باستنبات الكيان الصهيوني بأرض فلسطين السليبة، لولا فطنة وجسارة حكام المغرب وقناعتهم الراسخة بحتمية المصير المشترك ووجوب دحر المستعمر، لبناء مستقبل شعوب المنطقة بما يعود عليها بالخير والرفاه.
كيف يستطيع المغاربة استيعاب نكوص قادة الجزائر عن تعهداتهم بحلحلة مسألة الحدود بين الطرفين، بل والتسبب في أعمال عدائية ضد أراضي مغربية، راح ضحيتها جنود في منطقة حاسي بيضا، لم يدر بخلدهم قط أنهم سيواجهون أشقاء ورفاق سلاح في مسيرة التحرير الشاقة، في لحظة غدر بين، كادت أن تعصف بجو السلم والامن في منطقة شمال إفريقيا برمتها لولا مساعي عربية وخليجية لوأد هذا الاشتباك في مهده لئلا ينثر عدواه في أرجاء المنطقة الملتهبة أصلا جراء الاستقطاب الحاد الناتج عن إفرازات الحرب الباردة.
وقد يقول قائل، أن ما تم ذكره سالفا يدخل في إطار الترويج لموقف ووجهة نظر المملكة المغربية من الصراع المرير بين الجارين، غير أن هذا الرأي قد لا يجد سندا يرجح كفته، اعتبارا لما تواتر من معلومات حول ضلوع الجزائر في هذا الاعتداء العبثي، الذي لم يكن إلا مقدمة للعديد من مشاريع التفتيت التي أشرفت عليها السلطات الجزائرية في مختلف مراحل تكوينها، ومحاولة التوسع على حساب الجيران بخلق توترات داخلية لإيلامهم واحتواء أي تمرد قد ينتج عن هكذا تحركات.
احتضان تنظيم البوليساريو المشكل من خليط غير متجانس من الأعراق والخلفيات الثقافية والمناطقية، بعد ارتمائه في مخالب جماهيرية القذافي، ما هو إلا إحساس استدراكي للضغط على المغرب خوفا من انطلاقته نحو انتقال ديمقراطي وبناء للمؤسسات، قد يحدث فارقا كبيرا بين الدولتين، اقل ما قد يرتبه من أثر، توعية الشعب الجزائري بنواقص حكامه وتحكمهم في مصائر أفراده، واستفراد العسكر بالحكم ومقدرات البلاد، في حالة نادرة لحركة تحرر تنشد تقرير المصير لكل من احتج في شارع عام أو زقاق، بينما تخنق أنفاس شعبها الغني بثرواته الطبيعية التي ضيعها قادته في امتلاك وسائل الرفاه لهم ولأفراد عائلاتهم، ولاستمالة كل من يعلن موقفا مواليا لبوليساريو تيندوف، حتى وإن تعلق الأمر بطلبة لم ينهوا بعد دراستهم الجامعية.
وتجدر الإشارة، أ، حالة العداء المستحكم اتجاه المغرب قيادة وشعبا، لم تكن قط حالة مزاجية ، يمكن ان تختفي بانتفاء مسبباتها، بل هي عقيدة مؤسساتية، لا تتأثر بتغير الحكومات التي لا يمكنها التطلع الى الحكم دون إدراج قضية الدفاع المستميت عن البوليساريو واقتطاع جزء من الأراضي المغربية ضمن أولويات برامجها السياسية، بل إن الطريق الى رئاسة الجزائر يمر حتما عبر إبراز العداء للمغرب وحاكميه، ولا يتم التجديد لأي حاكم إلا بقدر شتمه للجار الشمالي ومحاولة الإساءة إليه، سواء داخليا أو إقليميا أو على المستوى الدولي.
فسعي الجزائر المرير الى الترامي على أراضي الصحراء رغبة في الاستحواذ على معبر مطل على القارة العجوز لتسويق ثرواتها بأقل كلفة، أعمى بصيرة حكامها وولد لديهم شعورا بتملك الصحراء وساكنتها عبر احتضان مقاول من الباطن، تمت الاستعانة به لإتمام أعمال تنفيذية، تتلخص أساسا في إلهاء المغرب على حدوده الجنوبية، لتسويق الطابع الدولتي للصراع، وخلق منافذ مقاومة دولية، عبر التأثير في مواقف وقرارات العديد من الدول الإفريقية الفقيرة آنذاك، والخارجة من انقلابات دامية، والمتعطشة للمال لإرساء حكمها بأي ثمن، كل مرة، يرتفع منسوب الغرور لدى حاكمي المرادية جراء اقتناص اعتراف هنا وهناك، لدول لا تمتلك أن تغير من حال شعوبها من أسوأ الى سيء، فما بالك بسعيها الى المطالبة بحق تقرير المصير، الذي أصبح بمثابة مسرحية هزلية في السياقات الافريقية تثير الشفقة، عبر الاعتراف به في حالات والتنكر له في حالات أخرى، ولن نعتقد خطأ، أن أي مطالبات بتنفيذ تقرير مصير ساكنة الصحراء، لا ترتب نفس الأثر على سعي شعب القبائل الممتد التواجد بأرضه لقرون، والسابق لنشأة الدولة ذاتها بمئات السنوات، للتحرر من قبضة العسكر، تعتبر ضحكا على الذقون، ومحاولة للي عنق القانون الدولي، وهي للأسف لعبة لا يتقنها النظام الجزائري، لأن خطة إضعاف المغرب منذ بدء هذا العداء المتواصل، لا تعدو ان تصبح فشلا ذريعا لجيرانه واجبارا للسلطات الجزائرية على مواجهة ارتداداته.
لم تقف طموحات حكام الجزائر عند مساندة جبهة البوليساريو للضغط على المملكة المغربية فقط، بل رجحت القناعة لدى متتبعين كثر بأن حليف صحراويي المخيمات، لن يكل أو يمل من البحث على موطأ قدم بالمحيط الأطلسي، شاءت طفلته المدللة أم أبت، ولذلك يتصرف عسكر الجزائر بمنطق السيد في مواجهة العبد الباحث عن التحرر والانفصال عن المغرب، وهو أمر لا يستقيم لاختلال العلاقة بين الطرفين، وانتقالها من علاقة دعم وإسناد الى علاقة تبعية واستعباد وإخضاع، قصد الحصول على مكاسب للجزائر بدرجة أولى، ليأتي دور البوليساريو ومشايعيه في مقام لاحق، وقد لا يجد فرصته في الحياة مع استمرار طغمة حاكمة يعميها الشره عن الوصول الى أهدافها.
إن ابتعاث الرئيس بوتفليقة الى الولايات المتحدة لتقديم مقترح تقسيم أرض الصحراء الى نصفين بين المغرب والبوليساريو في بداية الألفية الثالثة، أمر يبعث على الدهشة والاستغراب!.
ففي اعتقادنا من يقرر اقتسام الأرض او انضمامها او انفصالها هي أطراف النزاع الرئيسية وليست الضواحي، إلا أن تنظيم البوليساريو لا يقوم بأي دور يذكر إلا بإذن صريح لأجهزة الحكم الخفية في الجزائر، التي توزع الأدوار على الإطار المدني كل في مجال اختصاصه لتبيان وحدة القرار السياسي الجزائري وتماسكه في الدفاع عن موقف العسكر الثابت في عرقلة نمو وتطور المغرب، لأن من شأن كشف المستور، إشعال حرائق قد لا تخمد نيرانها قريبا في كافة محافظات الجزائر بسبب الضغط واستمرار وشراسة القضبة الأمنية والقمع والتضييق على الحريات بما يشمل واقع وسياق مخيمات تندوف.
وتتبادر إلى الذهن في هذا السياق، واقعة شهيرة تتعلق بإثارة قضية الصحراء خارج السياق في جلسة عمل لمنظمة اليونسكو، حيث دعا رئيس لجنة التراث غير المادي بالهيئة الدولية ممثل دولة الجزائر الى التقيد بموضوع الاجتماع، ومعالجة هوسه بكل ما هو مغربي، بما في ذلك أقاليم المملكة الجنوبية.
إن إصرار السلطات الجزائرية على إيذاء المغرب، لا يضاهيه سوى نهم حكامها في التحكم بمقدرات ومنافذ المنطقة ككل، في تجاهل تام لحجم وإمكانيات وقدرة جارها الشمالي ومبدأ التوازن الذي يحكم العلاقات الدولية بين مكونات المجتمع الدولي، ناهيك عن ترفع المغاربة عن تلك المحاولات المتكررة لإحراج المملكة دوليا بمناسبة مشاركاتها المظفرة في العديد من الاستحقاقات الدولية، كدورات مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة واجتماعات لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار، وغيرها من المنتديات الرفيعة المستوى، التي لا ترى دبلوماسية الجزائر من القضايا المواضيعية التي تسترعي الاهتمام بها، سوى أسطوانة مناصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها حق تقرير المصير لمجموعة بشرية، سلبت حقها منذ الوهلة الأولى في الترافع عن نفسها وإبقائها الية تنفيذية لأطماع ونزوعات عسكر لا يجيد سوى غرس خناجر الغدر في قلب مغرب عربي، لم تجتمع إرادات مؤسسيه على كلمة سواء منذ النشأة الأولى، بسبب كثرة الحساد والمرجفين الذين لا يرون في أنفسهم كفاءة لبناء أوطانهم وتأهيل شعوبهم نحو حياة الرفاه والكرامة.
لم يكن توقيع اتفاق إطلاق للنار في 20 فبراير 1964 بين البلدين الجارين، سوى إيذان ببدء تداعيات لهذا الصراع بأفق معالمه غير محددة، حيث أصبح المغرب يواجه فيه سياقات سياسية جزائرية متقلبة، تتراوح. بين الانقلابات السياسية والاضطرابات وموجات قمع تطلعات الشعب الجزائري نحو الديمقراطية، حتى ساد العسكر على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبح من شبه المستحيل الرجوع الى الحكم المدني المنبثق من إرادة الشعب.
وقد لا نهتدي لنتيجة تفضي الى حل سحري يخرج العلاقات المغربية الجزائرية من حالة الجمود المزمن، بفعل فجور السلطات الجزائرية في الخصومة وإمعانها في محاولة إذلال المملكة المغربية وإيلامها على جميع الأصعدة، بالرغم من ان كل تلك المحاولات قوبلت بنتائج صفرية، فعوض ان تسهم في إعادة قراءة الواقع والسياقات، عمقت سوداوية تفكير الطبقة السياسية الحاكمة في الجزائر، وغذت الروح الانتقامية حتى ولو أدى ذلك إلى تداعي أركان مكة الثوار بالكامل.
لن نجرم في حق بلد المليون شهيد، إن صرحنا بأن طرد الالاف من المغاربة وتجريدهم من ممتلكاتهم صبيحة عيد الأضحى في سنة من سنوات السبعينات، دون سابق إنذار، لا يضاهيه في البشاعة سوى إعدام رئيس عربي شكل نموذجا يحتذى به لحكام الجزائر في يوم عيد الأضحى كذلك، وهي لعمري ممارسة فضلى في التنكيل والقتل، استلهمتها عصابة تفتيت العراق بعد الاجتياح المعلوم، لم تكن لتهتدي اليها لولا سبق قادة الجزائر العظام.
وقد لا يتسع المجال للحديث عن مجال حقوق الإنسان لتوسع نطاقات الانتهاكات الجسيمة ودرجة بشاعتها وكثرة أعداد ضحاياها وغياب القانون عن أعمال الحكومة الرشيدة، ويرجع ذلك لحالة المزاجية التي تدار بها الدولة، وعدالة الأجهزة الأمنية بمختلف تلاوينها في توزيع الخوف والرهبة على كافة فئات الشعب لفرض الولاء لها والجهر بالعداء لبلد وشعب تجمعه مع الجزائر كل مقومات التآخي والتعايش المشترك بحكم التاريخ والجغرافيا والدين والانصهار العرقي والثقافي.
ولعل اقوى شطحات عسكر المرادية سادية، قيامه بحبس أنفاس جماهير الكرة الجزائرية ومنعهم من متابعة فريق اتحاد العاصمة في إطار منافسات قارية تبرز نقاء وطهارة اللعبة بغض النظر عن اختلافات السياسة، غير أن حراس النوايا نغصوا على شعبهم فرحته بدعوى وجود خريطة مثبتة على قماش، أصبح بفعل تدخل أمني أهوج الأشهر بعد قميص يوسف عليه السلام، غير أن قميص غزوة مطار بومدين قض من قُبُل.
غير أن توالي تلك السقطات السياسية والدبلوماسية والأخلاقية لسلطات الجزائر، قد لا ينبئ بوقوع تحول في المستقبل القريب، لأن المتتبع لما يحدث في الجارة الشرقية يكاد يجزم أن أي تغيير في بنية وعقلية المتحكمين في زمام الأمور، قد تنجم عن تداعياته كلفة سياسية واقتصادية وإنسانية ثقيلة، لن تنمحي اثارها في الأمد القريب، ولن يتبقى لنا جميعا سوى قراءة اللطيف لزوال الغمة الجاثمة على صدور الجزائريات والجزائريين لعقود.
عبد الوهاب الكاين/ كاتب صحفي وباحث في حقوق الإنسان