الاثنين 25 نوفمبر 2024
فن وثقافة

الشِّيخْ الحسين السطاتي: فن العيطة وتراث التبوريدة توأمان من رحم ترثنا اللامادي (الحلقة 3)

الشِّيخْ الحسين السطاتي: فن العيطة وتراث التبوريدة توأمان من رحم ترثنا اللامادي (الحلقة 3) الحسين السطاتي

بعد أن سافرنا في الحلقة الأولى من حوار جريدة "أنفاس بريس" مع شيخ فن العيطة الفنان المحبوب الحسين السطاتي للنبش في مسار بداياته الطفولية ببادية أولاد عبو، حيث تطرقنا لجوانب متعددة من مرحلة الطفل الحسين حول مسار طفولته التي نشأت في محيط اجتماعي وبيئي بدوي، مارس فيه شغبه وكل هواياته من داخل فضاء "لَمْسِيَّدْ" مرورا إلى تفاصيل الّلعب وسط الحقول الزراعية، والرعي وصناعة الطّين، وصولا إلى ضبطه حرفة الخياطة التقليدية، ثم تكوين مجموعته الفنية... حيث كان بوحه يمتح من ينبوع ذاكرة الشاوية، ورحلته التعليمية لمدينة برشيد ثم سطات والدار البيضاء، إلى حين حصوله على شهادة الباكالوريا، وولوجه لسلك الدرك الملكي ثم التقاعد النسبي، ليتفرغ للكتابة الأدبية في أجناس مختلفة، دون أن يفرط في التعاطي مع الطرب والنغم، كونه يفتخر بانتمائه لحقل فن العيطة.

في الحلقة الثالثة نقدم للقراء أسلوب الشيخ المحبوب الحسين السطاتي في الجمع بين فن العيطة وفن التبوريدة في عروضه الفرجوية... إليكم نص الحوار الشيق مع الشيخ الحسين السطاتي.

 

ـ كيف تقرأ حضور الخيل والفرسان في فن العيطة خاصة وفي الغناء الشعبي عامة؟

إذا كان ابناء المدينة يفتخرون ويعتززن بامتلاكهم آخر صيحات "موديلات" السيارات، ويلبسون أغلى ماركات الملابس الموقعة باسم شركات الأزياء والأحذية العالمية، فأنا بصفتي بدوي "عْرُوبِي"، أفتخر بامتلاكنا للفرس والحصان، كما أعتز بلباسي الأصيل وبالزّي التقليدي البدوي المغربي الذي يتدثر به الفرسان من "جِلْبَابْ"، و "عْمَامَةْ" و "جَبَادُورْ"، و "سِلْهَامْ"، و "قَفْطَانْ"، و "حَايْكَ" و "بَلْغَةْ"، وأفتخر أيضا أنني أتقن فن ركوب الخيل "خِيَّالْ بَّارْدِي".

طبعا لا يتناطح عنزان كون فن العيطة هو فن بدوي رعوي بامتياز، احتفى بالخيل والفرسان، على اعتبار أن الخيل تمثل في موروثنا الثقافي الشعبي رمز الوفاء والنخوة والخير، والجمال. وفي اعتقادي الشخصي أن فن العيطة هو فن حبّ وحرب. ففي جانب الحبّ نجد أن فن العيطة تناول موضوع الحب، بطريقة "أيروسية"، تسمي العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة في بعدها الإيروتيكي، ذلك البعد الإنساني/الجمالي، حيث تناولت العيطة موضوع "الجنس" بطريقة فنية أدبية، وليست غريزية، بعيدا عن الإباحية والبرنوغرافية، هذا وشبهت العيطة في بعض متونها ورقصاتها، المرأة الحسناء الفاتنة بالمهرة اليانعة والفرس الجامحة في وقفتها ونخوتها ومشيتها، كما شبهت الرجل بذلك الحصان القوي والوفي والمحارب.

 أما في جانب الحرب، فقد تناولت العيطة موضوع الحروب حيث ساهمت في المقاومة ضد المستعمر ومحاربة الظلم ضد استبداد القياد وأعوانهم، بطريقة مباشرة وغير مباشرة سواء بالشعر في المتن العيطي أو بنضال الفنانين "أشياخ وشيخات" بالمساهمة في نقل الأسلحة والتخابر مع رجال المقاومة.

 

ـ لماذا خصص شاعر فن العيطة عدة مواضيع لتوثيق الفروسية التقليدية؟

نسجل هذا المعطى على مستوى الجانب الحربي حيث تغنت العيطة بالخيل والفرسان، على اعتبار أن الخيول هي التي ساهمت بالقسط الكبير في الحرب، وهي المركوب المفضل في السهل والجبل، لهذا نجد العيطة قد أفردت للخيل وللخيالين الفرسان، الجزء الأكبر من أشعارها وألحانها وحتى في رقصاتها، و "عْيُوطْ" عديدة سميّت بالخيل، تيمّنا بهذا المخلوق الوفي والجميل، ومن بين هذه "الْعْيُوطْ" نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض عناوين القطع الغنائية التي تغنت بالخيل وهي : "رْكُوبْ الْخَيْلْ"، و "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ"، و "عْرِيسْ الْخَيْلْ"، و "مَّالِينْ الْخَيْلْ"، و "هَوَّلْنِي رْكُوبْ الْخَيْلْ"، و "سَنْحُوا الْخَيْلْ"، و "الْخَيْلْ يَا وِينْ"، و "كَادُّوا الْخَيْلْ، و "أَرَاوْ الْخَيْلْ والَبْارُودْ".

 

ـ هل هناك رقصات تراثية توثق لركوب الخيل؟

طبعا هناك العديد من الرقصات الحربية ذات الصلة بالفروسية، وقد أفردت العيطة رقصتين للخيل والخيالين الفرسان، وهما "شَطْحَةْ الْبَارُودْ"، ثم "شَطْحَةْ الْعَوْدْ"، حيث خصصت العيطة الغرباوية الحيز الأكبر لهذه الرقصة وأعني "شَطْحَةْ الْعَوْدْ"، تصل مدتها إلى نصف ساعة من الرقص المتواصل، وهي رقصة رائعة مثيرة يطلبها الجمهور دائما للمجموعة التي أترأس، كما أنني أعمل على برمجتها كفقرة خاصة في بعض حفلات الرْمَى والفرسان وسط خيمة عَلَّامْ الْخَيْلْ وخصوصا ببعض مواسم التبوريدة، أو داخل خيمة/وثاق يتسع للحركات والعرض بمناسبة عرس في البادية، وأعرضها كفقرة تراثية كذلك حتى في قاعات الحفلات الكبرى بالمدينة، لأني أعرف أن هذه الرقصة تتطلب فضاء فسيحا، ومدة زمنية أكثر من نصف ساعة، ولياقة بدنية للراقصات "الشيخات" وللموسيقيين العازفين. وهذه الرقصات تكون على أنغام موسيقية راقصة ذات ألحان على إيقاع حركات وتنقلات الخيل، حيث يبدأ الإيقاع رتيبا بطيئا ثم يتغير تدريجيا في السرعة والإرتفاع والركض ثم الجري إلى الهجمة ليختم بالسدة ونسميها كذلك بالقفل.

 

ـ ما هي دلالات ورمزية هذه الرقصات التراثية؟

هذه الرقصة تحاكي وتقلّد حركات وتنقلات الخيل خلال عروض التبوريدة بميدان "الْمَحْرَكْ"، حيث أتقمص بصفتي "الشِّيخْ الَكَمَنْجِي" دور قائد سربة الفرسان "عَلَّامْ السَّرْبَةْ"، والراقصات "الشيخات" هن بمثابة أفراس وفارسات. في هذا السياق نقوم خلال العرض الراقص الْمُمَسْرَحِ بمحاكاة وتقليد ما يجري داخل ميدان الفروسية التقليدية، حيث الراقصات يصطفن كالأفراس ويبدأن في الرقص تماشيا مع النغم، والتركيز على كلمات المتن العيطي، التي أقوم من خلالها بتمجيد الخيل والخيالين الفرسان، بما في ذلك ذكر ألوان وأنواع الخيول وجودتها وسنّها، وقوتها وفحولتها، فضلا عن استحضار كرم الخيالين الفرسان وسخائهم.

 

أيضا يحاكي رقص "الشيخات" حركات الخيول في ميدان التبوريدة، كالمشي في تبختر، والتشابك بالأيدي، والتدافع بالأكتاف، والتصادم والإحتكاك، علاوة عن تقليد أصوات الخيول كالصّهيل والحنحنة، وقد يحدث أن تحملني "الشّيخة" على ظهرها في تقليد مماثل لوضعية الفارس على صهوة الحصان، تزامنا مع إطلاق الشيخة "الْعِيَّاطَةْ"، زغاريد بين الحين والحين، وكلمات وعبارات تمتح من مفردات ثقافة "التبوريدة" كالهمهمة، والحنحنة، والصهيل، وتلك العبارات التي يتلفظ بها "مقدم السربة" والتي تسمى بالندهة.

 

في نفس السياق أقلد وأعزف أصوات صهيل الخيل، وصوت الزغاريد بأنغام الكمان، أو قد تكون هذه الأصوات مبرمجة بطريقة رقمية على آلة "الأورغ"، لنضع المتفرج المتلقي، في أجواء عروض التبوريدة. وهناك رقصات أخرى رائعة، منها، "رقصة الغزالة" و "رقصة الحمامة"، و "رقصة الحجلة"، و "رقصة النحلة"، و "رقصة الوردة" و "رقصة النعامة"، و "رقصة الأفعى"، و "رقصة الطاووس"، وغيرها من الرقصات الجميلة المثيرة والمعبرة، وقد تناولت هذا في كتابي الموسوم بـ "المتعة والحذر والحيطة في غابة العيطة".

 

ـ ما هي العلاقة التي تجمع بين فن العيطة عموما وتراث فنون التبوريدة؟

هناك علاقة وطيدة تجمع بين فن العيطة عموما وتراث فنون التبوريدة، وكما سبق ذكره ففن العيطة هو فن بدوي رعوي، يعني نشأ بالبادية وهي البيئة الريفية التي احتضنته، والخيل عادة رفيقة للإنسان البدوي في الأعمال الفلاحية؛ بما في ذلك الحرث والحصاد والدرس وجر العربات، والتنقل سواء على صهواتها أو على عربات تجرها الخيل، إضافة إلى استعمالها في فن الفروسية التقليدية "التبوريدة". وفي ثقافتنا الشعبية من يملك حصان الفروسية "عَوْدْ السْلَاحْ"، في بيته فهو من سادة الدوار، ويعد من علية القوم، لأن فن الفروسية يعد من هوايات السلاطين والملوك، وحصان "التبوريدة" يقرب صاحبه من رجال السلطة وأصحاب القرار، واحتمال كبير أن يوصله هذا الجواد إلى بلدان ودول عربية وأوربية.

نفس الشيء بالنسبة للعيطة نجدها ترافق البدوي في جميع المواسم الفلاحية، سواء كأهازيج يترنمون بها أثناء العمل الفلاحي وفي حقول الرعي، أو كمادة فنية تنشط حفلاتهم وأفراحهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحصان هو رمز للنخوة والأبهة والثراء، لأن تربية الخيل جد مكلفة للفلاح، فهو يتطلب اهتمام ورعاية وعناية خاصة، كذلك الشأن بالنسبة لفن العيطة نجده منغرس في المدشر وفي البحر والقصر. وبطبيعة الحال فإن العيطة هي فن الفلاحين والحرفيين البسطاء وكذلك هي فن السلاطين والقياد.

 

 شخصيا أجد متعتي الفنية أكثر من أي مكان آخر حينما أكون في سهرة فنية مع رْبَاعَةْ "الشِّيخَاتْ" وسط ركح خيمة كبيرة "لَوْثَاقْ"، حيث يحتضنك جمهور مولع من الخيالة والفرسان، وعشاق التبوريدة، حيث تجد لمكاحل/البنادق منتصبة في زاوية ما بجانب السروج المرصعة، وجمهور من عشاق الخيل والعيطة لتكتمل الصورة الفنية، وأحيانا ترى أمام الخيمة حتى الخيول ترقص وتجدب على نغمات العيطة، في مشاهد ولوحات فنية بديعة.

 

يتبع