الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحكيم الزاوي: بول شاتنيير.. الإختراق السلمي

عبد الحكيم الزاوي: بول شاتنيير.. الإختراق السلمي عبد الحكيم الزاوي
بموازاة الكتابات السردية العسكرية التي أنتجت حول المغرب يُمكن معاينة كتابات ذات طابع مدني حرَّرها أطباء ودكاترة كانوا يسيرون رفقة الجيوش العسكرية الفرنسية. يقترح البعض عبارة " الاختراق السلمي" على هذا التأليف، ويضم تشكيلة من الأطباء والدكاترة والمراقبين الذين كانوا في مساعدة الأهالي المحليين. ومن بين أشهر الأطباء الذين يمكن ادراجهم ضمن هذا الصنف من الكتابة نجد الدكتور بول شاتنيير Paul Chatiniere الذي عمل بين سنتي 1912 و1916 في مناطق الأطلس الكبير في إطار عمليات التهدئة العسكرية. لا يجب أن ننسى قبل شاتنيير كيف راهنت فرنسا على التأثير الأخلاقي للأطباء في توطيد سلطتها في البلاد، وفي ضمان اختراقها السلمي لدواليب القصر في المغرب. ولا أصدق على ذلك من قول هوبير ليوطي: "إن طبيبا يعادل كتيبة من الجنود".

أثناء الحملات العسكرية كانت جموع الأهالي يتحلقون حول خيمة الطبيب طالبين الحصول على الدواء؛ وكانت النساء يجلبن أطفالهن من أجل الحصول لهم عن دواء وهن يحملن أقداحا من الحليب الرائب على سبيل الترحيب. وحتى في المناطق التي كانت مشهورة باستعدائها لسلطة القواد الكبار يمكن للطبيب أن يلجها دون خوف.

سجل الدكتور شاتنيير ملاحظاته عن الحملات العسكرية في كتابه عنوانه "عبر الأطلس الكبير المغربي ". اطلع القارئ الفرنسي على تفاصيله بحر سنة 1919، وقد تضمن تقديما من طرف المارشال هوبير ليوطي: "...إن هذه المناطق التي جبتها، والتي كان بعضها شبه مجهول لدينا، لم تقم بزيارتها فقط كطبيب، ولكن كرجل إيمان. وهذا توضيح ذلك: فأنت عند زيارتهم كنت تحمل معك إلى جانب نية فعل الخير كيف تتعرف عليهم وتتفهم نفسيتهم، ولكن الأمر كان متبادلا فقد جعلت لك، حيثما عبرت، أصدقاء حقيقيين سيظلون أوفياء لذكرانا...". عقدين بعد ذلك، سيكتب لوران لوبيل أستاذ معهد الدراسات العليا: "...كتاب يُقدم نفسه للقارئ كعمل يتوفر على جمال الصياغة ودقة الملاحظة وفيض الشعور كذلك...". 

استقدم الدكتور بول شاتنيير من طرف هوبير ليوطي إلى مراكش بعد احتلالها سنة 1912 بهدف تعزيز الحضور الطبي في مناطق الأطلس الكبير، وكسب تعاطف السكان مع الوافدين الجديد. تبدأ فصول كتاب شاتنيير من مدينة مراكش: "...واحة صحراوية قد جرى نقلها إلى موقع متوحش على جبال البريني... ". ومن خلال اتصاله بسكان الأطلس الكبير، شلوح الأطلس، شلوح سوس، شلوح درعة سيصل شاتنيير إلى الاقتناع بفكرة أن هذا الجنس يمكن لفرنسا الاعتماد عليه، كما أتيحت لشاتنيير فرصة الالتقاء بقواد الأطلس الكبير وربط علاقات معهم، فقد التمس منه المدني الكلاوي معالجة بعض نسائه، ودعاه المتوكي لمساعدته على استرجاع قدراته الجنسية، وحتى في القبائل التي كان يصعب على الجيش الفرنسي اقتحامها كان الطبيب هو الذي يتكلف بقيادة عملية الاختراق. يمكن هنا أن نسرد حالة من ضمن حالات أخرى مشابهة. لم ترضخ قبيلة أنفلوس في الأطلس الكبير لتهدئة الفرنسيين، وجرى توثر حاد في العلاقة بين الطرفين، حينها قرر شاتنيير الذهاب بنفسه إلى شيخ القبيلة، وبعد لقاء بارد، واستقبال فاتر، وأمام لباقة شاتنيير انفرجت أسارير الشيخ شيئا فشيئا، وأسرَّ له ببعض الآلام وجرى تمكينه من بعض الأدوية، وزال التوتر بينهما.

عبر سلسلة جولات شاتنيير في الأطلس الكبير يمكن أن نقف معه عند معطيات وتفاصيل غنية عن حياة سكان الأطلس الكبير. يصف شاتنيير حفلات الاستقبال والموسيقى والرقص واللباس والسكن والمياه والقصبات...

رافق الدكتور شاتنيير الكولونيل لاموث في رحلته إلى سوس، ومنها كانت له صدفة اللقاء مع جبال الأطلس الكبير. حينما نقرأ مذكرات الدكتور بول شاتنيير يقر في أذهاننا بأننا لسنا أمام طبيب يجيد تشخيص الداء واقتراح دوائه، بله أمام كاتب من طراز خاص يجيد رسم المشاهد والمناظر الطبيعية، ومزج الألوان والأشكال، وامتاع القارئ ومؤانسته. لننصت إلى حديثه عن وادي نفيس ووادي سوس حتى تتضح هذه المعاينة الوصفية: "...كان عمق الوادي المتوحش مرصعا ببساتين أشجار الزيتون الخضراء ونباتات الدفلى المزهرة التي تنبجس من بين أحجار النهر في شكل أجمات على امتداد البصر. وبدت ورود الباقات المنثورة في زرقة الماء اللازوردية، تحت سماء صافية وشديدة الزرقة، وهي تتناغم مع الألوان الخبازية للأبخرة التي تجلل هامات الجبال ذات الأشجار العالية الخضراء... ". وبعد اختراق منعرجات جبل ويشدان واجتياز مفاوز قبائل كندافة يظهر وادي سوس: "...وعلى حين غرة، يظهر لأعيننا المنبهرة وادي سوس ممتدا من الشرق إلى الغرب، وعلى طول مجرى نهر سوس الذي ينعرج وسط الحقول المضببة المزروعة حديثا، تتوالى أشجار الزيتون وتتناثر القرى فتبدو مثل بقع فاتحة على أديم الخضرة الداكنة. وباتجاه الشرق بنهض نتوء صخري يحجب منطلق الوادي. وفي مقابلتنا تمتد سلسلة جبال الأطلس الكبير جرداء وقاحلة... وفي الأسفل تغطي أشجار الأركان المنحدرات. وبما أن الأشجار مستديرة الشكل ومتناثرة على أرض صلصالية جافة فإن أجماتها كانت تبدو من بعد مثل مساحة بيضاء مرصعة بنقط حمراء... ".

في طريق عبوره من تلوات إلى ورززات ينقل إلينا بول شاتنيير هذا المشهد:"...ليس هناك من نباتات تنمو في هذه البقاع. فقط أسوار صخرية عالية تحصر مدى النظر من الجهتين، وأكاليل حجرية سوداء وحمراء تطوق المكان الذي صار يبدو كما لو أنه حريقا مهولا قد اكتسحه... " وبتواصل المسير: "...يتسع الشِّعب، وتعود الحياة إلى الظهور متخذة شكل سحابة عريضة خضراء...وتلتمع الثلوج تحت الضوء الملتهب لشمس صارت الآن صحراوية... 
 
الدكتور عبد الحكيم الزاوي/ باحث وناقد