في علاقة إيران بالصراع بالشرق الأوسط لابد من تدقيق المواقف بعيدا عن العاطفة وعن القراءات السطحية التي تسوق الوهم بعيدا عن تعقب حقيقة العلاقات الدولية التي يرعاها عراب العالم الولايات المتحده الأمريكية . وعليه أسجل ما يلي :
* الدولة الفارسية قديمة جدا ولها تقاليد عريقة جدا في التعامل مع القوى العظمى منذ العهد الساساني إلى الأن ، وبالتالي شرعيتها التاريخية جعلتها تراكم الكثير من الخبرة البرغماتية في تدبير النزاعات الدولية منذ أزمنة غابرة وإلى الأن وبأشكال مختلفة لهدف واحد .
* الدولة الفارسية لها عقيدة راسخة وفق أصول الإيمان الشيعي الذي يشكل سندا صلبا في علاقاتها مع غيرها من الدول ، حتى إنه في التاريخ الراهن إبان الحرب ضد العراق المسنود حينها من الولايات المتحدة الأمريكية كانت إيران تتعامل بيقظة مع الإتحاد السوفياتي ومع باقي القوى العظمى ذات الصيت في صناعة القرار العالمي خاصة الصين والهند. ورغم الدعم السخي من " الحلفاء " ( هم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ) لصالح عراق صدام حسين إلا أن إيران صمدت كثيرا حتى انتهت الحرب وفق رزنامة التخطيط الأمريكي ، وثبت فينا بعد خسارة العراق واستفادة إيران بفضل " الخيانة " الأمريكية للعراق ، وهي حقيقة جزء من معاهدة مضمرة بين طهران وواشنطن .
* العلاقات بين إيران ، كنظام صفوي توسعي بخلفية عقائدية شيعية وبأهداف كبرى في خضم سعيها إلى تصدير الثورة ، والولايات المتحدة الأمريكية ذلك " الطاغوت " وقوة " الإستكبار " على حد قول الصفويين أنفسهم ؛ ليست علاقات صراع بالمعنى البسيط كما يسوق له إعلاميا ، بل علاقات وطيدة من الأسفل منذ التحالف المضمر ضد " الإلحاد الشيوعي " السوفياتي في منطقة القوقاز وقزوين وأفغانسان تحديداً حيث بفضل المقاومة الإسلامية قمت إزاحة الإتحاد السوفياتي وانتصرت الولايات المتحدة الأمريكية . لذلك كل انجراف نحو اعتماد ما يروج من بروباغوندا لإشاعة الحرب الإيرانية - الأمريكية سيذهب في الإتجاه المخالف لحقيقة ما يقع بين أمريكا ، التي تدير العالم بالعقل الإستراتيجي ، وإيران ، ذات درجة عالية من الذكاء الإستراتيجي أيضا ، في معاملة ظاهرها نقيض باطنها ؛ وبالتالي هما معا طرفي معادلة جيو - استراتيجية ذكية لا يفهمها إلا من يتجاوز سياجات ما يسوق له إعلاميا من طرف الإعلام هنا وهناك سواء الأمريكي - الإسرائيلي - الأروبي أو الشيعي الصفوي - حزب الله .
* ٱيات الله الخميني عندما أعلن عن الثورة الإيرانية الإسلامية يوم 7 يناير 1978 بالإطاحة بالنظام الملكي مع " الشاه محمد رضا بهلوي " كان عصرئذ قد رجع من فرنسا في منفاه بقرية " نوفل لوشاتو " تحت حماية دقيقة من المخابرات الفرنسية أولا ثم الإنجليزية لحظة انتقاله من على مثن الطائرة وبحضور عناصر من الموساد الإسرائيلي من فرنسا نحو إيران قصد إعلان الثورة التي وضعت الحجر الأساس لنظام يوصف في الأدبيات العقدية والإيديولوجية ب " نظام ولاية الفقيه " ؛ ومن ثم حصل التوافق استراتيجيا على توحيد الصف في تناول القضايا الشائكة في العالم رغم ما يبدو من بريق خلاف ترعاه الماكينة الإعلامية الأمريكية عن قصد ولأهداف أهمها تفكيك العالم الإسلامي السني كما حصل مع هبوب رياح الفوضى الخلاقة كما نظر لها برنارد لويس وكسينجر منذ عقود ونفدها أولا صقور البيت الأبيض من طينة رامسفيلد وديكٓ تشيني وكونداليزا رايس وكولن باوول ، وثانيا كما نفدها الجيل الثاني من الصقور مع أحداث ما يسمى إعلاميا بالربيع العربي الذي جعل محور واشنطن - تل أبيب يقدم حسني مبارك قربانا رغم كونه الحليف الأول ( العميل الأول ) لمخور واشنطن - تل أبيب ، وكذا التضحية بزين العابدين بنعلي الإبن البار لبورقيبة وحليف الإيليزي وكل هذا بشمال إفريقيا في كل من مصر وتونس مع ثورة الياسمين التي أشعلها شكلا الوعزيزي لكن عمقا خلفها العقل الإستراتيجي الأمريكي ، مع التضحية باليمن بعد الحسم مع رئيسها على عبد الله صالح بهدف عزل المملكة السعودية التي تحاصَر هنالك من طرفين هما إيران من جهة والحوثيين باليمن من جهة أخرى ضمن الحدود المباشرة للمملكة والتي رضخت لابتزاز دونالد ترامب فقدمت عمولات ضخمة من أجل إعادة ترتيب حدودها بدعم أمريكي مباشر . في حين ، على نقيض كل ذلك ، ظلت حدود إيران ٱمنة جدا رغم صعوبة المعادلات في بحر قزوين بمحاذاة روسيا بمنطق أخر مضبوط إيقاعه ومنحاه .
* منذ الثورة الإسلامية المدعومة أمريكيا ضد " الإلحاد " السوفياتي ، لم يسبق لإيران رغم قوة خطابات التهديد والوعيد أن دخلت في مواجهة عسكرية ضد قوى الإستكبار على حد قول نظام ولاية الفقيه ، بحيث يسجل التاريخ الديني للشيعة مواقف ذكية ( دهاء سياسي ) لإيران في علاقتها مع " الطاغوت " الأمريكي . لهذا نجد الطاغوت نفسه هو من قدم العراق على طبق من ذهب لإيران مباشرة بعد إعدام مقتدى الصدر مع قوات الكوموندو الأمريكية لرئيس العراق السني صدام حسين صبيحة عبد الأضحى الذي لا يخلوا من دلالات قوية في الأنتربولوجيا الدينية لكونه العيد الذي يجمع اليهود بالمسلمين بمرجعية أبراهام عليه السلام وقصة الدبح العظيم ؛ ولسان حال حلف طهران - واشنطن - تل أبيب يقول : " اليوم نضحي بصدام على غرار تصحية إبراهيم بإبنه إسماعيل الذي قال " يا أبتي إفعل ما تؤمر " / الأية ، وهو ما قالته طهران لواشنطن ضدا على العراق الذي شكل نمودجا لحضارة إسلامية سنية ( العالم السني مستهدف على نقيض الشيعي) إنطلقت منذ الإنتقال من دمشق نحو بغداد ومن الأمويين نحو العباسيين في سياق كان فيه الشيعة الصفويين يخططون ضدا على العراق . وعليه نجح التحالف السري الصفوي - الامريكي - الإسرائيلي على إعادة تقسيم بلاد الشرق الأوسط والشرق الأدنى بين إسرائيل التي تفعل ما تشاء بالمنطقة وإيران التي أخذت العراق واليمن حتى كادت أن تأخذ أجزاء من أراضي المملكة السعودية لولا انبطاح محمد بن سلمان رائد الحركة الإصلاحية بدعم أمريكي لإملاءات واشنطن مقابل درء إيران عن دعم الحوثيين باليمن ضد الحدود السعودية .
* أخطر نتيجة مؤلمة استنتجها ( بل وجب إستنتاجها ) زعماء حماس في هذه الحرب المعلنة إسرائيليا منذ شهور هي أن كل الصراخ الذي طالما عبر عنه حزب الله من خلال الخطابات الحماسية لحسن نصر الله وخلفه نظام ولاية الفقيه مجرد بروباغوندا مذهبية لا ترقى إلى مستوى تحالف استراتيجي على أساس مذهبي - عقدي ، والدليل هو أنه بعد مضي شهور من حرب إبادة ضد النساء والأطفال بغزة الضحية لم تحرك إيران عتادها إلا في سياق تلطيف الفضيحة بالتهديدات الشكلية وهو نفسه ما وقع ما حسن نصر الله ؛ والضحية هي غزة - حماس التي حضيت بالخراب من خلال عشرات ألاف من القتلى والجرحى والمعطوبين علاوة على دمار مطلق في البنيات التحتية أمام أنظار إيران وحزب الله لدرجة حصل انتظار تدخل جنوب إفريقيا لتسجيل دعوى مستعجلة بالقضاء الجنائي الدولي ضد إسرائيل . وبناء عليه لن يكون ثمة من أفق للحرب ضد غزة إلا إرجاع قطاع غزة إلى زمن العصر الوسيط بغية شرعنة تحرك الدول الهشة للمطالبة بالجلوس إلى المفاوضات في سقف حدود 1967 لصالح الدولتين كما أراضي ذلك تل أبيب التي تخطط لإسرائيل العظمى وفق مرجعيات التلمود لصالح شعب الله المختار بأرض الميعاد في حضرة أورشليم مناط مورد النزاع الجيو - بوليتك .
ختاما مفروض على كل عقل راجح تجاوز كل ما يسوق له إعلاميا ، سواء من الإعلام الغربي أو من إعلام الشيعة ، ذلك أن الإعلام جزء من معركة كبرى تاريخية - ثقافية - هوياتية - إقتصادية - حضارية - استراتيجية . وبالتالي الحقائق تصنع في ردهات البانتاغون ومعاهد البحث الإستراتيجي ومختبرات إدارة الأزمات الدولية ، وليس حتما في حلقات الإعلام الغبي كما يرُوج في كثير من قنوات التحليل الموجه والتضليل الإستراتيجي .
توجيه : لقد كتب ميشل فوكو كتابأ غير مشهور مباشرة بعد نجاح الثورة الإسلامية عام 1978 تحت عنوان " إيران الثورة باسم الله " ؛ لمن له الرغبة في تعميق فهم منطق اشتغال نظام ولاية الفقيه .