نشر حزب العدالة والتنمية مذكرة ينتقد فيها اقتراحات المجلس الوطني لحقوق الإنسان المتعلقة بتعديل مدونة الأسرة. والمذكرة هي عبارة عن تهجّماته وافتراءات على المجلس ورئيسته السيدة أمينة بوعياش، الغاية منها عرقلة صدور مدونة عصرية ترقى بالتشريعات المغربية حتى تساير تطور المجتمع وتتلاءم مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. وتمثل هذه المذكرة صرخة اليأس الأخيرة للبيجيدي بعدما أدرك أن بقية الأطراف السياسية والمدنية ركبت قطار التغيير وانطلقت. انتهى مجال مناورات البيجيدي لكبح عملية التغيير التي يشهدها المجتمع المغربي الذي ظل عصيا على موجات الأخونة والوهْبنة والسلْفنة/البدْوَنة التي استهدفته على مدى خمسة عقود. لهذا خلت مذكرة البيجيدي ومقترحاته من أي اجتهاد بنّاء يستحضر مقاصد الشريعة وينفتح على قيم العصر وثقافة حقوق الإنسان. إذ جاءت اقتراحاته مترجمة لمواقفه المناهضة لحقوق النساء والمشرعنة لظلمهن الاقتصادي والاجتماعي ولاستغلالهن الجنسي. فالحزب، كبقية الإسلاميين، يناهض منع تزويج القاصرات وإلغاء التعصيب من حيث كونه أكل أموال الإناث بالباطل، واقتسام الممتلكات عند الطلاق أو الوفاة، كما ناهض من قبل الطلاق القضائي، وولاية المرأة على نفسها في الزواج أو ولايتها على أولادها عند الطلاق. إن تبخيس المرأة ومناهضة حقوقها عقيدة إيديولوجية يتشبع بها البيجيدي ويريد فرضها على المجتمع المغربي باسم الدين والدفاع عن الشريعة، بينما الدين بريء منها.
ويمكن إجمال أوجه التهافت والافتراء التي حبلت بها المذكرة إياها كالتالي:
افتراءات تمُس بالرسالة الملكية.
أ ـ جعل المدونة نصا تأسيسا غير قابل للمراجعة: وهذا افتراء لا مراء فيه نقرأه في الجملة التالية كما وردت في مذكرة البيجيدي: "إذ أن المرجعية والمنهجية المؤطرة لتعديل المدونة من طرف جلالة الملك راعت بأن مدونة الأسرة باعتبارها نصا تأسيسيا غير قابل للمراجعة إلا في الجوانب القانونية والقضائية بما لا يخل بمرجعيتها التشريعية القائمة على الشريعة الإسلامية". وهذا ليس فقط فهما خاطئا لمضمون الرسالة الملكية ومغزاها، بل افتراء مقصودٌ الغايةُ منه التشويش على مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛ ومن ثم شرعنة الهجوم عليها. في حين أن الرسالة الملكية لا تعتبر المدونة "نصا تأسيسا غير قابل للمراجعة"، كما افترى عليها البيجيدي، وإنما تخضع "لمرجعيات ومرتكزات" غير قابلة للتغيير. ولا تقصد الرسالة الملكية بتلك المرجعيات "نصا تأسيسيا" بقدر ما يتعلق الأمر "بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام النابعة" من الدين الإسلامي ومن القيم الكونية، كما هو واضح في منطوق الرسالة "ومن هذا المنطلق، فإن المرجعيات والمرتكزات تظل دون تغيير. ويتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب".
ب ـ جعل الشريعة الإسلامية وليس مقاصدها المرجع الأوحد للمدونة: والغاية من هذا الافتراء إغلاق باب الاجتهاد والإبقاء على وضعية النساء على حالها رغم جهود الدولة والحركات النسائية من أجل النهوض بها والقضاء على كل أشكال العنف والتمييز القائمين على النوع. هكذا اعتبر البيجيدي " أن تعديل مدونة الأسرة في إطار المرجعية الإسلامية، ليس اختيارا اجتهاديا، وإنما هو الإطار المرجعي الإلزامي الذي تنطلق منه مدونة الأسرة في حد ذاتها، فمقتضيات المدونة تغطي أحكام الزواج والطلاق والولاية والنفقة والحضانة والإرث والوصية وغيرها كما هي مقررة في الشريعة الإسلامية، ولذلك فلا حاجة للتذكير بأن أي تعديل أو تغيير يتعلق بنصوص المدونة ينبغي أن يتم في إطار المرجعية الإسلامية، ولا يقبل نهائيا من مؤسسة دستورية أن تسمح لنفسها باقتراح بعض الأمور التي لا تراعي الأحكام القطعية للشريعة الإسلامية". إن البيجيدي، يستعمل أسلوب الافتراء هنا لتغليط الرأي العام، من جهة، ومن أخرى لتسويغ تهجماته على أعضاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان وعلى رأسهم السيدة بوعياش. فالرسالة الملكية واضحة في مبناها ومعناها، من كونها تشدد على أن تتم المراجعة "في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي" كالتالي:" فنحن حريصون على أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية". ذلك أن الاجتهاد المنفتح لا يتم إلا في إطار مقاصد الشريعة لكونها تستحضر مصلحة المجتمع وكرامة الأفراد وحرياتهم.
ج ـ جعل الرسالة الملكية تحصر مراجعة المدونة فيما هو مسطري وقانوني وقضائي: افتراء مكشوف من البيجيدي ليُوهم الرأي العام بأن الرسالة الملكية حددت مجال مراجعة المدونة في الجوانب التقنية/ المسطرية التي لا تمس جوهر الاختلالات التي كشف عنها تطبيق مدونة الأسرة. إذ جاء في مذكرة البيجيدي هذا الافتراء كالتالي: "إذ أن المرجعية والمنهجية المؤطرة لتعديل المدونة من طرف جلالة الملك راعت بأن مدونة الأسرة باعتبارها نصا تأسيسيا غير قابل للمراجعة إلا في الجوانب القانونية والقضائية.. وهو ما يعني أننا أمام تعديلات محصورة فيما هو مسطري وقانوني وقضائي ارتباطا بسوء التطبيق لأسباب سوسيولوجية". في حين أن الرسالة الملكية جعلت من "عدم التطبيق الصحيح" للمدونة واحدا من العوائق التي تحول دون تحقيق أهدافها وليست كلها كالتالي: “وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها، ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة".
الافتراء على مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
بالغ البيجيدي في افتراءاته التي تجاوزت مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان لتشمل الشريعة الإسلامية نفسها التي يدعو إلى التقيد بها.
أ ـ اتهام المذكرة بـ" التجاوز الفج وغير المقبول للخطابات والتوجيهات الملكية السامية المتواترة والمؤطرة لورش مراجعة مدونة الأسرة". الأمر الذي يؤكد أن هدف البيجيدي من افتراءاته وتهجماته هذه هو التصدي لكل الآراء والمواقف والاجتهادات التي تستحضر مقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئ العدل والمساواة في مراجعة المدونة حتى تساير تطور المجتمع وتتلاءم مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، كما جاء في الرسالة الملكية: " فإن مدونة الأسرة أضحت اليوم في حاجة إلى إعادة النظر بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني". ومن ثم، فإن مذكرة المجلس تظل ملتزمة بـ"الخطابات والتوجيهات الملكية السامية". بل إن مذكرة البيجيدي هي التي تتجاوز الخطابات الملكية وتناقضها في منطلقاتها وفي أهدافها، وخاصة أهداف الرسالة الملكية في موضوع تعديل مدونة الأسرة، والمتمثلة في إصلاح الاختلالات وتعديل المقتضيات التي لم تعد تساير تطور المجتمع. وقد شددت الرسالة على هذا كالتالي: "فإن التأهيل المنشود، يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية.. وإننا واثقون بأن إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالميا". لقد فتحت الرسالة الملكية آفاق أرحب لممارسة الاجتهاد المنفتح والبناء للمواءمة بين صلاحية المرجعية الإسلامية وبين قيم ومبادئ حقوق الإنسان في بعدها العالمي.