الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ: 20 سنة بعد الإنصاف والمصالحة وسؤال الصحافة

جمال المحافظ: 20 سنة بعد الإنصاف والمصالحة وسؤال الصحافة جمال المحافظ
يشكل تخليد المغرب ومن خلاله الحركة الحقوقية، الذكرى 20 لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، تكون مناسبة لاستحضار هذه التجربة الفريدة ومدى إسهامها في تحقيق الإنصاف والعدالة وعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة التي طالت حقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من سنة 1956 إلى نهاية 1999 .
ليس الغرض مقاربة عند هذه التجربة ومميزاتها، وتدعياتها على المشهد الحقوقي، بقدر ما هو ملاحظة، أنه إذا كان من بين الأهداف المنشودة، أن ينعكس أثر هذه التجربة، على ترسيخ الديمقراطية وسيادة القانون، وضمان الالتزام المتواصل بحقوق الإنسان، فإن من بين الملاحظات التي يمكن ابداؤها بخصوص حصيلة هيئة الانصاف والمصالحة، عدم الاهتمام، بدور الصحافة والاعلام العمومي وتسخيرهما أحيان أخرى خلال تلك المرحلة، للدعاية وممارسة التعتيم على انتهاكات حقوق الانسان واستخدامها أحيانا كآلية للتشهير والتضليل، خاصة وأن من مهام الهيئة، " الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات".
لذا كان حريا بهيئة الانصاف والمصالحة، أن تدرج قضايا الصحافة والإعلام، ضمن انشغالاتها، خاصة وأن من مهامها " الكشف عن الحقيقة بخصوص الانتهاكات الجسيمة" من خلال إجراء التحريات وتلقى الإفادات والاطلاع على الأرشيفات واستيقاء المعلومات والمعطيات من مختلف المصادر، وذلك من أجل " إثبات نوعية ومدى جسامة تلك الانتهاكات، في سياقها، في ضوء معايير وقيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية ودولة الحق والقانون".
بيد أن هيئة الانصاف والمصالحة، اقتصرت على التركيز على رصد المقتضيات القانونية والتنظيمية المتعلقة بتنظيم حرية الصحافة، منذ ظهير 15 نونبر 1958 وإلى غاية سنة 1977 . وفي هذا الصدد سجلت في تقريرها الختامي، أن مقتضيات ظهير الحريات العامة لسنة 1958، "استهدفت" تقوية المراقبة الادارية للأفراد والجماعات وتشديد العقوبات في حالة الخروقات، و" أضعفت" بالتالي من الضمانات القانونية للحقوق المرتبطة بحرية الصحافة. كما أن التعديل المدخل بمقتضى ظهير 28 ماي 1960، خول لوزير الداخلية، أن يأمر بتوقيف كل صحيفة أو دورية، إذا وقع المس بالأسس المؤسسية أو السياسية أو الدينية للمملكة. وفي هذه الحالة، فإنه يمكن منع النشر بقرار من الوزير الأول، إذا تم حجز الجريدة بسبب المس بالنظام العام.
ومن جهة أخرى، فإن التعديل الذي جاء به ظهير 13 نونبر 1963 ، مدد أجل تقادم الدعوى العمومية بالنسبة لجنح الصحافة، وذلك برفعه من خمسة أشهر إلى سنة . و"اختفت" من المشروع الحكومي من جهة أخرى الفقرة الأخيرة من الفصل 76 والتي كانت تستثنى في النص الأصلي المتابعات المتعلقة بجنح الصحافة.
ومن بين التراجعات التي جاءت بها تعديلات ظهير 1973 تشديد العقوبات السالبة للحرية ورفع مبلغ الغرامات في الجنح ذات الصلة بممارسة حرية الصحافة، فضلا عن توقيف الصحيفة بمبادرة من وكيل الملك، في حالة عدم تسديد الغرامة المحكوم بها داخل أجل خمسة عشر يوما من تاريخ الحكم. وفي حالات الإدانة المبنية على تعدد الجنح، يمكن للمحكمة أن تأمر بتوقيف النشر لمدة ثلاثة أشهر.
من جهة أخرى اختفت من المشروع الحكومي الفقرة الأخيرة من الفصل 76 والتي كانت تستثني في النص الأصلي المتابعات بجنح الصحافة. ويترتب عن ذلك أن وكيل الملك بات بإمكانه الأمر بوضع صحفيين رهن الاعتقال الاحتياطي ومتابعتهم في إطار ما يسمى بمسطرة التلبس.
وأكدت الهيئة في تقريرها الختامي ما وصفته ب"ممارسات تعسفية للإدارة على مستوى حرية الصحافة"، إن الرقابة المسبقة المفروضة على الجرائد والصحف والمطبقة طيلة سنوات عديدة،" لم يتم الاستناد في ممارستها إلى أساس قانوني" موضحة أنه كان على مدير الصحيفة أو الدورية، أن يسلم لرجال الشرطة نسخة من النشرة وأن ينتظر منها أوامرها قبل مباشرة السحب.
وذكرت هيئة الإنصاف والمصالحة في هذا الصدد، بأن " هذا الإجراء التعسفي" لم يرفع إلا في سنة 1977، عشية الانتخابات البرلمانية. مشيرة إلى أن الحجز المنصوص عليه في القانون يتم الأمر به شفويا، أما هذا الإجراء الإداري فمن المفروض ألا يتخذ إلا بناء على قرار كتابي لوزير الداخلية يبلغ إلى المسؤول عن النشر.
فضلا عن الجانب التشريعي، توقفت الهيئة، على " دور القضاء في التضييق على ممارسة الحريات" وهو ما أدى تفسير بعض قضاة الحكم لمقتضيات القانون - تحث تأثير الهاجس الأمني- إلى التضييق على نطاق الضمانات القانونية المتاحة والمس من الناحية الواقعية ببعض المبادئ الدستورية".
ففي العديد من المحاكمات المرتبطة بالممارسة العادية للحريات العامة، والتي تم إجراؤها بالاستناد إلى النصوص التشريعية المذكورة أعلاه، تم اللجوء الى تطبيق ضيق لها، بالرغم من تنافي مقتضياتها مع النص التشريعي الصادر بعد الاستقلال، كما أن انتقادات بسيطة لسير العدالة والإدارة اعتبرت آنذاك بمثابة أخبار كاذبة ونال أصحابها عقوبات قاسية بالحبس النافذ استنادا إلى قانون الصحافة.
وهكذا ظل موضوع قانون الصحافة، خلال تلك الفترة من القوانين الأكثر عرضة للتراجعات، حيث لحقته منذ سنة 1958 تعديلات عديدة أبرزها تمت سنة 1973، وهمت بالخصوص تشديد القيود بزيادة العقوبات والغرامات، وتمكين السلطة التنفيذية من إمكانية توقيف الصحف ومنعها، دون عرض الموضوع على القضاء.
وفي هذا السياق ذكرت هيئة الإنصاف والمصالحة، بأن هذا القانون خضع لانتقادات قانونية وحقوقية واسعة قبل أن يفتح موضوع مراجعته في إطار اللجنة الوزارية للحريات، مرورا بالمجلس الوزاري الحكومي، وقبل الإحالة على البرلمان في دورة الخريف لعام 2001. وبينت في هذا السياق أن الإصلاحات التي همت قانون الصحافة، شملت أربعة مجالات رئيسية، تنص على مبادئ أساسية تخص، حق المواطن في الإعلام وحق وسائل الإعلام في الوصول إلى مصادر الخبر والحصول على المعلومات من مختلف مصادرها ما لم تكن سرية بمقتضى القانون، علاوة التأكيد على ممارسة الحريات في إطار مبادئ الدستور وأحكام القانون وأخلاقيات المهنة وعلى أن تنقل وسائل الإعلام الأخبار، بصدق وأمانة.
وبالنسبة لاختصاص القضاء في القضايا المثارة، فإن هذه الإصلاحات مست جوانب تخص إعمال المبادئ منها إلغاء صلاحية السلطة التنفيذية في توقيف أو منع الصحف وجعل هذا الاختصاص بيد القضاء، وربط إمكانية حجز الصحف من طرف وزير الداخلية بقرار معلل قابل للطعن أمام المحاكم الإدارية بشكل استعجالي علاوة على إلغاء العقوبات الحبسية لعدد كبير من الجنح، والمقتضيات التي كانت تجعل مدير النشر يقع تحت طائلة توقيف الجريدة، بإيداع مبلغ الغرامات والتعويضات المحكوم بها في ظرف خمسة عشر يوما منذ تاريخ الحكم ابتدائيا.
كما جرى تقليص آجال تقادم الدعوى العمومية الى ستة أشهر بدل سنة، في الجنح والمخالفات
والغاء بعض المقتضيات التي كانت تتيح لجهة المتابعة أو للمحكمة سلطة تقديرية واسعة للمتابعة أو المعاقبة باعتبارها تندرج في القضايا التي من شأنها الإخلال بالأمن والنظام العام مع تمديد آجال اثبات القذف وتعزيز حقوق الغير باعتبارها حقوقا إنسانية.
هذه الإصلاحات شملت كذلك، إدماج مقتضيات تخص تحريم التحريض على الكراهية والعنف بسبب الجنس أو الأصل او اللون أو الانتماء العرقي أو الديني، وتشديد حماية حرمة الحياة الخاصة.
غير أن هيئة الإنصاف والمصالحة، لاحظت مع ذلك أنه " رغم الضمانات المهمة التي لحقت قانون الصحافة، بقيت جملة من القضايا معلقة حيث لم يحصل خلال المداولات البرلمانية بشأنها، اتفاق سياسي" ، ومن ذلك، " موضوع تسليم الوصل على التصريح بالصحف وما يخص الوصل المؤقت الفوري والنهائي، وكذا عدم تدقيق بعض الجرائم كالمس بالدين الإسلامي و المؤسسة الملكية أو الوحدة الترابية". كما أثارت الممارسة بصفة خاصة إشكالات أخرى ، تخص احترام حقوق الغير والحاجة الى سلطة للفصل التأديبي قبل الإحالة على القضاء.
وفي الوقت الذى يلاحظ أن هيئة الانصاف والمصالحة في تقريرها الختامي اقتصرت في حديثها عن حرية الصحافة على الصحافة المكتوبة، أهملت دور الإعلام العمومي خلال تلك الفترة ، حيث لم تحاول الإجابة عن مدى تمكن وسائل الإعلام العمومية، من ترجمة مقتضيات ومبادئ الخدمة العمومية، وإلى أي حد التزمت في معالجتها لقضايا حقوق الإنسان، بقواعد الموضوعية والحياد والتعددية والتنوع، وتدعيم قيم الديمقراطية والمواطنة وتكافئ الفرص وتحقيق العدالة المجالية، وعدم التحيز والاستقلالية التحريرية، وهي المبادئ التي تؤطر تقديم الخدمة العمومية.
فبعد مرور 20 سنة على هذه التجربة النوعية في المسار الوطني، يعرف المشهد الإعلامي تحولات كبيرة ومتسارعة، سيكون من المفيد جدا، لتجاوز هذا النقص، أولا دراسة المعالجة الإعلامية لهذه التجربة وكذلك الانكباب على التحليل العلمي لوثائق الهيئة التي سلمت لأرشيف المغرب، من طرف المؤرخين والباحثين، الصحفيين والإعلاميين، وذلك بهدف الإسهام في تعميق البحث والتحليل لمسار حقوق الإنسان واستخلاص الدروس والممارسات الفضلى من أجل تعزيز الديمقراطية ودولة الحق والقانون، وذلك اعتبارا لأهمية الأرشيف التي لا تكمن فقط في كونه الشاهد الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لدراسة أحداث الماضي، وإنما كذلك لكونه يضمن الشفافية، ويشكل مادة أساسية لحفظ حقوق الأفراد والجماعات، كما قال إدريس اليزمي الرئيس السابق للمجلس الوطني لحقوق الانسان في حفل تسليم الدفعة الأولى من أرشيف هيئة الانصاف والمصالحة سنة 2017، وذلك لأن عمليات حفظ وتنظيم وتيسير الولوج الى الأرشيف، تعد رهانا أساسيا، لإعادة ترتيب عناصر الذاكرة الجماعية وكتابة التاريخ الراهن وترسيخ المصالحة.
بصفة عامة، تظل هيئة الإنصاف والمصالحة، " واحدة من أبرز المحطات الفاصلة في تاريخنا الراهن. تجربة نموذجية وفريدة ورائدة، في سياقاتها، في مقارباتها ومقوماتها، في دلالاتها، وفي الأثر الذي خلفته" كما صرحت بذلك رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أمينة بوعياش، بمناسبة إطلاق فعاليات تخليد الذكرى العشرين لهذه الهيئة التي كان جلالة الملك محمد السادس، قد قال في خطابه بمناسبة تنصيب أعضائها في السابع من يناير 2004، " نضع اللبنة الأخيرة للطي النهائي لملف شائك، ضمن مسار انطلق منذ بداية التسعينات، والذي شكل ترسيخه أول ما اتخذناه من قرارات، غداة اعتلائنا العرش".