- في واحدة من دردشاتي الحميمية مع حكيم اليسار الماركسي المغربي، أذكر أنني سألته عن نوعية العلاقة التي يقيمها مع السياسة؟ وهل يجد فيها ما يفيده في إثبات شئ ما يدل عليه كذات وكشخص ؟ ...
كما أذكر أيضا أنه بعد سؤالي هذا أخذ إبراهيم لنفسه برهة غير طويلة كي يجيبني بكل الود بما يلي : لا أخفيك رفيقي أن علاقتي بالسياسة كانت دائما علاقة توثر وضغط ، أنا مارست السياسة دائما من مدخل الواجب وليس من باب المتعة والمؤانسة ، فالسياسة في تقديري كانت تبدو لي دوما حقلا شائكا من المسؤولية التاريخية الخطأ فيه مكلف والربح فيه والمكاسب غير دائمة...
-وكلما كنت أعود إلى التذكر والذكرى من خلال شريط محطات لاتنسى جمعتني بالراحل، كنت ألتقط فعلا خيط الحقيقة في كلامه عن نفسه ، إذ من يعرف هذا القائد ذو النزعة الجماعية الديمقراطية ، أو يتعرف عليه سيلمس وبدون صعوبة أنه يختلف عن جل رفاقه ، من جيله أو من الأجيال الأخرى التي ستلتحق في أوقات متفرقة ومتفاوتة زمنيا بحركات اليسار المغربي ...
- فهو مثلا ، وكما كان يحلو لبعض" عشاقه " أن يصفوه به ، كائن سياسي يحضر باسترسال منتج في المشهدية النضالية، لكنه كان في ذات الوقت لا يظهر دون حدود ، فهو لا يصعد - مثلا - للمنصات المقترحة عليه إلا إذا كان محاضرا أو مرافعا عن أطروحة أو منتجا لرأي أو حاملا لمقترح حل وسط بخصوص قضية خلافية قد يؤدي الاستفحال فيها إلى خسارات جارحة...
- وقد بدا لي مع توالي السنين أن ميله الشخصي هذا نحو التخفي والإقامة في الظلال قد جعل من الصعب على العديد ممن جعلوه " موضوع اهتمام معرفي سياسي أو إعلامي متخصص " أن يحصلوا على ما يكفيهم من زاد المعطيات عنه كقوة هادئة تعيش وسط بيئة حيوية حركية متقلبة وصاخبة دون أن تتخلى عن ماهيتها الرزينة والثقيلة...
- ولتوضيح الأمور وتيسير سبيل فهم ما أقوله عن هاته
" الخصوصية الفردية " للراحل والتي تشكلت واستوت كطبائع سلوكية عبر عقود من الوقت القاسي، لابد من وضع الرجل في تقابل مع من كانوا يحتلون معه الفضاء السياسي اليساري الحركي والنظري ، رفاقه في حلقات التجربة التنظيمية المشتركة ، ورفاق المحيط المذهبي الواسع الذي ضم تيارات المنظمات الماركسية اللينينية والماركسية الماوية والتروتسكية وحتى المجموعات التي ستعرف جداليا بالفوضوية أو اللاسلطوية فيما بعد... فمن هذا المنظار يمكن أن نشهد لإبراهيم المبثوث في العديد من التقارير وكواليس إخراجها عن قدرة قوية في البناء الذاتي لمواقفه ، وهذا مالمسته في شهادات الذين عايشوه في أزمنة السرية والمنفى والعودة بعدها للبلاد ، وأيضا بالمعايشة أثناء متابعتي له منذ مطلع التسعينيات أثناء وبعد تأسيس الكثلة الديمقراطيةثم الرجوع إلى بناء مشروع القطب اليساري الديمقراطي الواسع، وصولا إلى تأسيس حزب اليسار الإشتراكي الموحد ومابعده من تجريبات توحيدية أخرى مضافة ...
- اليوم أستعيد بصفاء صور تلك اللقاءات التي أخذنا، بعد مغادرة الأسر، سنة 1990 نحضرها ونتابعها بالمقر الجهوي لمنظمة العمل الديمقراطي بالدارالبيضاء... وهناك في خضم الحركية النشيطة للرفاق الذين استقبلونا بكل الحفاوة الرفاقية ،تعرفت لأول مرة على صوت هذا الذي كان يسميه رفاق منظمة العمل قياديوها وأطرها الوطنيين بالحكيم ، نعم أنصتت لنبرة في التحليل يملكها صاحبنا مختلفة غير دوغمائية و لاجازمة ، وكان الموضوع المطروح للنقاش مشروع التفكير في قضايا السؤال الدستوري لتلك اللحظة التاريخية...كان دائما يؤكد لي أن مايهمه في البناء السياسي هو الإدراك الإستراتيجي الواسع المفتوح على المدى البعيد دون السقوط في خطأ البقاء هناك وترك الواقع الراهن بعيدا عن فعلنا ، وفي تقديره أن سلامة أي خط سياسي تتجسد عمليا في قدرة أصحابه على تملك ناصيات التأثيرالمتعدد الإتجاهات لتغيير موازين القوى في اتجاه الأصلح والأقوى والأمثل، وإلا سيسقطون في آفة الإنعزال وإنتاج الأوهام....
- منذ ذلك الوقت وحتى افتراقاتنا الأخيرة ، لم يحدث لي ان وجدت إبراهيم وقد تخلى عن هذه البراديغمات التي شدته إلى نسقيته رغم أنه حصل لنا مرارا أن تصارعنا واختلفنا معه حول قضايا فكرية سياسية ذات مقام وطبيعة جوهرية عن أولوية الديمقراطية أم الوطنية ، عن التحالفات وعلاقتها بالطبقات، عن النظرية العملية أم النظرية المجردة، عن ديمقراطية التنظيمات الاشتراكية ، الدستور الديمقراطي والانتقال إليه ، الحراكات الجماهيرية ومفهوم السيادة الشعبية الديمقراطية...الخ ...
فكان يعود دوما من منزله بعد كل اختلاف وهو يحمل مقترحا لتعديل مقترحه السابق ومقترح صياغة مختلفة لما وصلنا إليه في الحوار والجدل السابق..
- ولكم كان عجبي كبيرا حين علمت بأن رفيقنا هذا كان بحكم احترامه للخلافات مع الرفاق، كان يستثمر طاقة المؤرخ فيه التي هي حرفته المعرفية بحيث كان يخصص ملفا لكل قضية تكون على ورقة المجادلات فيطلق عمليات من التحري والاستقصاء ليطور نظره ورؤيته للقضايا...
- وفي هذا الباب - حين تسأله عن جدوى كل هذا التعب مادام الفكر هو انعكاس تبعي لقوة الواقع في آخر الرحلة - يقنعك صاحبنا الثوري فعلا ونظرا دفاعا عن منهجيته تلك بعرض رأيه البسيط الذي يقول فحواه إن السياسة اجتهاد وبحث وليست عملية صراعية خصامية فقط واستعداد مادي لاحتلال المواقع والفضاء الإجتماعي المباشر...
- وكنت كلما سمعته في مثل هذه المحطات الساخنة أحس بمتعة معرفية وهو يشرح منهجياته في النظر السياسي حيث كان يعرض و يستعيد كل التراث المعرفي الذي ورثه عن السابقين وأحسن قراءته جيدا
(غربا وشرقا شمالا وجنوبا ) والذي نجد من بين جواهره الثمينة ما كان قد نبهته قراءته العجيبة لفقيه الحركة الوطنية المختار السوسي الذي أعجب بمتونه البحثية التي لخصها في قولته الشهيرة " العلم (المعرفة والنظر ) صيد والكتابة قيده.."
- أفليست السياسة اليوم علم يتحرك بسلامة وصلاح المعارف الواسعة والشاملة كي يفهم كل الأزمنة الحاضرة والماضية عبر القدرة على استعادة التجارب الانسانية التي يبقى ثقلها حاضرا في حقول وأزمنة العمل السياسي العملي والنظري على السواء... ؟؟
- و هكذا عشنا درس السياسة خارج ديوانها القديم مع راحلنا، ونحن في الميدان نواجه مراحل فارقة وفرصا فريدة ، كادت في بعض الأحيان أن تصب في نهر التقدم المغربي الحر لكنها في جل الأحيان ضاعت ثمارها منا كما عبر عن ذلك رفيقه وصاحبه سيد الأسماء ورائدها العفيف الذي رحل عنا هو الآخر قبل استكمال أربعينية رفيق طريقه ومنفاه الذي نستحضره مناقبه السامية في هذا النص الذاتي جدا... عشنا معه زمن الكثلة الديمقراطية وهو يرافع عنها كسقف وطني ضد التفرد بالسلطة وحكمها الفردي، وفي ذات الوقت وهو يفتح ممرات النقد الصارم لأفقها المحدود آنذاك ...كما عشنا معه -بالموازاة مع تلك الصيرورة - انخراطه اللامشروط لبعث وتنشيط الإتصالات والحوارات المتعددة المسالك مع رفاق الرحلة اليسارية العنيدة وهم يستجمعون القوى الباقية من مراحل الرصاص لكي يفتحوا أفقا من شأنه أن ينعش جسد السياسة المغربية الذي هتك أعضاءه طول أمد دولة الإستبداد ...
- وأذكر في جلسة معه حول هذا الورش اليساري أني سألته عن معنى سياسة ما اصطلح عليه آنذاك بالتموقع المزدوج لرفاق المنظمة داخل الكتلة ووسط اليسار الراديكالي الماركسي ، هل هو مجرد تكتيك أم تصرف سياسي له معناه ضمن بنية اختيارات أوسع ؟ في جوابه المرح طبعا لم يبد ياسين أي انزعاج بل إنه أكد لي أن هذا السؤال يؤرقني أنا أيضا وفي نهاية المطاف علينا أن ندبر هذه الوضعيات المركبة في وضعنا السياسي المغربي المحجوز بجرعة من الذكاء الذي يفيد صيرورات التحول الديمقراطي المجتمعي وبدون اللجوء إلى الانعزال ...فاليسار هو بيتنا الأول بكل ماله وما عليه لكن على يسارنا أن يفتح الأبواب للتوسع والانتشار والالتقاء مع الحركات المجتمعية ووجوده جوهري في هذه المعادلة الكبيرة السياسية والوجودية....وحين يتوقف سريان الدم في عروق الكتلة علينا أن نسير في اتجاه التقاءات أخرى لاتفرط في ماراكمته الكتلة بل وتستثمره للقفز على جدارات أخرى...
- ومن أجمل ما سيبقى ذكره على هدى هذا الخط العام لمبدئية الأخلاق في السياسة وتاريخها المتعدد هي صورة ومواقف إبراهيم في جلسات المجالس الوطنية لليسار الإشتراكي الموحد بعد انطلاق حركة فبراير وماسيليها حراكيا وسياسيا ومدنيا ودستوريا ... وستبقى جملته الشهيرة التي كررنا قولها في نفس الوقت وفي نفس المكان وكل منا بطريقته الخاصة بمناسبة نقاش الوثيقة الدستورية التي اقترحها القصر من أجل الاستفتاء عليها شعبيا ...الجملة التي تقول إن الوثيقة الدستورية التي نطمح أن تكون ملكا للمغاربة وتشرف الشعب والبلاد هي أن تكون واضحة حاسمة في سؤال الفصل الجازم للسلط وللسؤال التاريخي المطروح منذ الستينيات والذي تعذبت أرواح العديد من أجله بل ومنها من سقطت، أي سؤال من يحكم المغرب
وأي نظام سيتم تأسيسه لذلك ، والدستور على كل حال ليس قصيدة شعرية مليئة بالاستعارات والصور الوديعة....
- اليوم وأنا أستعيد ملامحه الوديعة المسكونة بالخجل الصارم أعتبر نفسي أني كنت محظوظا أن القدر رتب لي فرصة اللقاء به والتعرف عليه كمعلم جسور ودينامو خفي يحرك الآلات الباردة في صراع السياسة كي تصبح وسيلة لبناء وطن حر وشعب سعيد ...
وهذا الأمر ليس بالشئ الهين في حياتنا النضالية المتواضعة والمملوءة أنفة وعزة......
- نعم كم كنت محظوظا بهذا المعلم الناذر في زمن الخصاص.. المعلم الذي أتقن إلى حد سليم وعلمنا فن العزف الجماعي على بيانو السياسة...
فهل تعلمنا منه علم السياسة أم ترانا فقدنا روح التعلم ونكهة موسيقاها...
- فسلام عليك أيها الروح العالية ...ياسيد البسمة والرحلة ..يا حاملا للجمرة والحرقة فمن سيعيد
لنا وهجك حول مدفئة وخبز وزيتون وقهوة الأجداد...
لك السلام الأبدي...