السبت 14 ديسمبر 2024
كتاب الرأي

محمد بنمبارك: نتنياهو وخيار الحرب على غزة

محمد بنمبارك: نتنياهو وخيار الحرب على غزة محمد بنمبارك

 يخطئ من يعتقد بأن حرب إسرائيل على غزة هدفها حماس، فقد ثبت مع دخول العدوان شهره الخامس، أنها أكثر من حرب على قطاع وفصيل فلسطيني، أو دفاعا عن النفس أو انتقاما لعملية 7 أكتوبر، بل هي حرب رئيس الوزراء نتنياهو، التي دخلها بعناوين وغايات متعددة.

 

   ــ نتنياهو والعرب والفلسطينيين:

  جاءت هذه الحرب ضد القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وضد فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية، وضد حل الدولتين وضد السلام وضد منطقة الشرق الأوسط وشعوبها، وضد قادة العرب دون استثناء، وضد قرارات القمة العربية الإسلامية بالرياض، وضد مبادرة السلام العربية، وضد الأمة العربية والإسلامية، لدرجة الاستهتار والغطرسة والإمعان في الإذلال والتحطيم النفسي والمعنوي.

 

    ــ نتنياهو والمنتظم الدولي: 

 جاءت الحرب أيضا ضد القوانين والعدالة الدولية وضد القيم الإنسانية، وضد المحاكم الدولية، وضد الأمم المتحدة وأمينها العام، وضد مجلس الأمن، وضد المجتمع الدولي، وضد شعوب أمريكا وأوروبا، وضد الروس والصينيين، وضد كل من عارض إسرائيل/ نتنياهو، في غياب من يوقف شرارة عدوانيته.

  

   ــ نتنياهو وآلة الدمار الشامل:

 غزا نتنياهو، احتل، قصف، دمر، قتل، ذبح، فتك، شرّد، أباد، هجّر، توعد، اعتقل، نكّل، احتقر، جوّع، عطّش، عذّب، اقتلع الزرع والشجر، قطع الماء والطاقة والغذاء وحبس الانفاس وحرم الإنسان حقه في الحياة، ضحاياه أبرياء وبالجُملة أطفال، شيوخ، نساء، أطباء، ممرضين، مدرسين، وصحفيين، أباد عائلات بأكملها دمّر المساكن والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمباني الإدارية والخدمات وسيارات الإسعاف، والطُرق والأسواق والمتاجر والبنوك وصادر الممتلكات والأموال، عاث فسادا في الأرض ارتكب كل أصناف الجرائم وإرهاب الدولة، وتفاخر بجرائمه. فكانت بذلك حرب إبادة وتدمير شامل للمجتمع الفلسطيني هي الأفظع على مر التاريخ.

 باتت غزة اليوم مكانا تنعدم فيها شروط الحياة بعد أن حرق نتنياهو الأرض والزرع، فلا مأوى ولا مستشفى...، تتعدد اللاآت أمام عودة واستقرار الغزاوي، فالموقف يتطلب سنوات لإعادة الإعمار أمام هول الكارثة الإنسانية والعمرانية، وعلى فلسطينيي غزة خوض معركة جديدة ضد الموت ومكافحة الخراب والبيئة المتعفنة التي خلفها جيش الاحتلال، إِنْ غادر.

لم تسلم الضفة الغربية والقدس وجنين من جحيم حرب نتنياهو، فقد تزامنت الحرب مع إرهاب وبطش الاحتلال وعنف المستوطنين مما تسبب بمقتل المئات واعتقال آلاف وانتزاع أراضيهم وطردهم.

هذا الواقع المأساوي يمثل أحد الأهداف الرئيسية لنتنياهو من الحرب، المرتبط أساسا بتهجير الفلسطينيين إلى مصروإنهاء وجودهم، ليأتي الدور بعد ذلك على الضفة الغربية المهدد سكانها أيضا بالترانسفير إلى الوطن البديل/ الأردن. هو مخطط استراتيجي لقادة إسرائيل بجعل أرض فلسطين بأكملها موطنا لليهود، فالذي يراه العرب بعيدا تراه إسرائيل قريبا.

 

     ــ نتنياهو والوساطات:

لم تنفع كل أشكال الوساطات والتدخلات الدولية والعربية لوقف جحيم الحرب، فالوساطة القطرية والمصرية اعتمدت فقط على ورقة الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، التي لم يوليها نتنياهو أهمية، فتنكر لأسراه وعانَدَ ضغوطات الداخل من جانب أسر الأسرى وقادة أجهزة الامن التي كانت تُلِح على صفقات تبادل الأسرى مع حماس، لكنه فضل التضحية بهم مقابل استمرار العدوان. متغافلا أن إطالة أمد الحرب صنف إسرائيل كدولة مارقة ونتنياهو / هتلر الجديد، لاسيما لدى شعوب الدول الغربية.

 أما الوساطة الأمريكية فظلت في حدود النصائح وتعبير عن قلق، ولم ترتق إلى ممارسة الضغوط، لذلك افتقرت إلى التأثير المباشر على مجريات حرب حظي فيها نتنياهو منذ البداية بدعم أمريكي لامحدود مالي، عسكري، لوجستي وثلاث مرات فيتو مجلس الأمن. وقد أجمعت الآراء على أن نتنياهو ما كان له أن يتصرف بهذه الحرية ويرفع من سقف جرائم حربه ويرفض الوساطات والحلول لولا الدعم واليد الأمريكية الممدودة وبسخاء،

 

وقد أثار الفيتو الأمريكي الثالث داخل مجلس الأمن ضد قرار وقف إطلاق النار استنكار العالم على موقفها اللاأخلاقي المؤيد للحرب، وأظهر مدى نفاق الرئيس "جو بايدن" وتلاعبه بمأساة شعب يئن تحت وطأة حصار وحرب مدمرة وجرائم إبادة مخالفة للقانون الدولي الإنساني، أصبح طرفا أساسيا فيها دون منازع. ورغم إكراهات الانتخابات الرئاسية بعد أشهر، وتدني شعبية الرئيس "بايدن" أمام الرأي العام الأمريكي جراء غزة، وتراجع حظوظ إعادة انتخابه، حال تمكن غريمه " دونالد ترامب" من دخول المعركة الانتخابية كمنافس. فإن بايدن لم يتردد في استخدام الفيتو الثالث دفاعا عن حرب نتنياهو.

 كان بإمكان الوساطات الدولية أن تكون أكثر قوة ونجاعة وردعا ومساهمة لوقف الحرب، لكن دعم قادة الدول الأوربية لنتنياهو عطَّل دورهم، أما الروس والصينيون فاكتفوا بدور المتفرج في موقف يدعو للاستغراب، باستثناء تدخلاتهم الإيجابية بمجلس الأمن، لكن الفاجعة الكبرى تمثلت في التراجع المخيف للدول العربية، الذي ساهم إلى حد كبير في تشجيع نتنياهو على الذهاب بعيدا في الحرب رغم ما تمتلكه من أوراق ضغط مؤثرة.

 

    ــ نتنياهو وجبهات جديدة في الحرب:

 1 ــ وكالة الأونروا: اتهمت إسرائيل 12 موظفا من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بغزة بالمشاركة في هجوم 7 أكتوبر، باعتبارهم أعضاء بحركة حماس. وسرت هذه التهمة كالنار في الهشيم بعد تضخيمها، فقد استعجل مدير "أونروا" بطرد الموظفين المتهمين، وسارعت 18 دولة غربية بقيادة واشنطن بتعليق مساعداتها للوكالة بما يمثل 52 %من ميزانيتها. الخدعة الإسرائيلية، ترمي إلى الطعن في شرعية الوكالة، وصولاً إلى التخلص منها وإخراجها من المعادلة، من أجل تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإلغاء حقهم المشروع بالعودة، طبقا للقرار الأممي رقم 194.

 إسرائيل منزعجة أيضا من دور الوكالة بحكم أنها الشاهد الميداني الرئيسي على الجرائم الإسرائيلية، ويتم اعتماد تقاريرها لدى منظمات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، وهذا أحد الأسباب التي جعلت نتنياهو يسعى إلى الإسراع لإنهاء مهمة الأونروا.

 

 2 ــ عملية رفح المرتقبة: أعلن نتنياهو عزمه القيام بعملية عسكرية برية بمدينة رفح على الحدود المصرية، معتبرا أنها المعقل الأخير لحماس. وتضم رفح نحو 1.5 مليون من النازحين كملاذ أخير لهم فرارا من الحرب، ورغم تحذيرات الأمم المتحدة من أن ذلك سيتسبب بمجزرة وكارثة إنسانية، فإن التهديدات الإسرائيلية بالاجتياح العسكري قائمة. وترمي علمية رفح إلى تمشيطها والبحث عن الانفاق وتدميرها، ومن جهة ثانية دفع حركة حماس لتقديم تنازلات بشأن إطلاق الأسرى الإسرائيليين واستسلامها. لكن هذا الهدف يبدو بعيد المنال بعد كل الذي جرى بغزة، فحماس تتريث في التفاوض ولا تندفع وتُمارس بدورها لعبة الضغوط على الطرف الإسرائيلي. وملف الأسرى الإسرائيليين رهانها الأساسي في تحقيق نصر على إسرائيل، فإذا نجحت خطة تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين والإفراج عن القيادات الوازنة كمروان البرغوتي وأحمد سعدات وغيرهم، سيكون له الأثر البالغ على تأكيد شعبيتها وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، لذلك لن تحرق حماس أوراقها بتلاعبات نتنياهو وتحت أية ضغوط أمريكية عربية.

 أما مصر المعنية مباشرة باقتحام رفح، فأصبحت على مرمى النيران الإسرائيلية، وباتت قيادتها مطالبة باتخاذ موقف شجاع تجاه نتنياهو، فالأمن القومي المصري بات مهددا، في ظل احتمالية نزوح واسعة النطاق للفلسطينيين إلى الأراضي المصرية. ولدى القاهرة ما يكفي من الأوراق السياسية لوقف مطامع نتنياهو بالمنطقة، وفي مقدمتها اتفاقية " كامب ديفيد" التي تمنع إسرائيل من اقتحام رفح عسكريا. إذا كان حكام مصر قد اعتقدوا في البداية أن حرب نتنياهو على غزة شأن إسرائيلي فلسطيني، فإنها انتقلت اليوم إلى عقر دارهم.

 

  3ــ محكمة العدل الدولية:

 منذ القرار الابتدائي لهذه المحكمة في 26 يناير، كان يتوقع أن تخفض إسرائيل من عدوانها، لكن لوحظ أن نتنياهو صعد من وتيرة هجماته، دون أي مراعاة لمضامين قرار المحكمة الذي طالب إسرائيل بعدة إجراءات للتخفيف من معاناة الفلسطينيين، وتقديم تقرير في غضون شهر. ويبدو أن نتنياهو يحاول التهرب فيما هو مُطالبٌ به، ولا شك أن دفاعه ينكب على إعداد تقارير فنية إجرائية قانونية للتجاوب مع المحكمة، والتأكيد بأن الحكومة أصدرت تعليمات للجيش بتجنب المدنيين وبالسماح بدخول المساعدات وغيرها من الادعاءات، التي يفترض أن تتصدى لها منظمات حقوق الإنسان وتقارير " أونروا" المراقب المباشر للأوضاع بالأراضي الفلسطينية المحتلة.

 في المقابل على قضاة هذه المحكمة في الجولة القادمة، طلب وقف الحرب الذي هو وقف للإبادة الجماعية، وليس منح إسرائيل مهلة جديدة لاتخاذ تدابير مؤقتة والعودة إلى المحكمة لاحقاً. لقد أظهر التاريخ أن إسرائيل لا تلتزم بقواعد القانون الدولي، ويُعتبَر حالها استثناء عصيا عن المساءلة والعقاب في المنظومة الدولية، وسيكون هذا المآل أسوأ التوقعات.

 

 4 ــ لعبة التفاوض حول أسرى إسرائيل دون مقابل:

 يعمد نتنياهو على إفشال مسلسل المفاوضات مع حماس عبر الوساطة الأمريكية المصرية القطرية، بالاعتماد على نهج الحرب التي يرى فيها الحل الوحيد لاسترجاع الاسرى دون مقابل بغاية الخروج منتصرا، ويعتقد أنه كلما تشدد تكتيكيا كلما أرغم حماس على إلى إبداء المرونة في موقفها، لذلك فكل تقدم في المفاوضات بات يزعجه فيبادر إلى إفشاله. وما الوفود التي يرسلها إلى باريس والقاهرة والدوحة إلا من أجل التظاهر أمام عائلات الرهائن بجديته في التفاوض وتحميل مسؤولية التعثر إلى حركة حماس. ولا تمثل خرجاته الإعلامية وأحاديثه عن الأحاسيس العميقة والأخلاق وتعاطفه مع المخطوفين وعائلاتهم سوى دعاية سياسية واستهلاك إعلامي، لكن المقربين منه يدعونه إلى التركيز على تحرير المخطوفين والابتعاد عن هذه المهاترات. ويدرك نتنياهو جيدا أن كل تقدم في المفاوضات يفضي إلى حل مشكل الأسرى بين الطرفين ويوقف إطلاق النار، يشكل خطرا على حكمه وعلى مستقبله السياسي، وما يترتب عنه متاعب ومساءلات حول الفساد و7 أكتوبر وغيرها، ومتابعات قضائية بالداخل وملاحقات قضائية لإسرائيل دوليا.

نتنياهو الذي قاد حرب الموت والدمار بحثا عن انتصار قَذِرْ لذاته، مصيره كمجرم حرب مزبلة التاريخ. وقد وصفت صحيفة " هآرتس" العبرية نتنياهو ب " رجل دولة فاشل أدت نظرته للعالم إلى دفع إسرائيل إلى حافة الهاوية"، وذلك تعليقا على قرار حكومته فرض قيود على دخول المصلين الى المسجد الاقصى خلال شهر رمضان.

محمد بنمبارك،   دبلوماسي سابق