تعتبر المعاينات، أو ما يصطلح عليه في مفهوم القانون بـ "الوقوف على عين المكان"، إجراء من إجراءات تحقيق الدعوى طبقا للفصل 55 من قانون المسطرة المدنية، بدليل منطوق هذا الفصل الذي نص على ما يلي: "يمكن للمحكمة بناء على طلب الأطراف أو أحدهم أو تلقائيا أن تأمر قبل البت في جوهر الدعوى بإجراء خبرة أو وقوف على عين المكان أو بحث أو تحقيق خطوط أو أي إجراء آخر من إجراءات التحقيق".
وقد نصت مقتضيات الفصل 56 من نفس القانون على ما يلي: "يأمر القاضي المقرر أو القاضي المكلف بالقضية، شفويا أو برسالة مضمونة من كتابة الضبط، الطرف الذي طلب منه إجراء من إجراءات التحقيق المشار إليها في الفصل 55 أو الأطراف الذين وقع اتفاق بينهم على طلب الإجراء تلقائيا، بإيداع مبلغ مسبق يحدده لتسديد صوائر الإجراء المأمور به عدا إذا كان الأطراف أو أحدهم استفاد من المساعدة القضائية. يصرف النظر عن الإجراء -في حالة عدم إيداع هذا المبلغ في الأجل المحدد من طرف القاضي- للبت في الدعوى، ويمكن رفض الطلب الذي يصدر الأمر بإجراء التحقيق فيه".
وما يستشف من صريح هذين الفصلين، هو أن إجراء المعاينات شأنه شأن باقي إجراءات التحقيق المنصوص عليها في الفصل 55 أعلاه، يستوجب أن يتضمن الأمر به تحديد مصاريفه التي يتعين أن تؤدى مسبقا من لدن طالبه، وهذه المصاريف تشمل، قانونا، مصاريف تنقل القضاة إلى عين المكان، وذلك لاعتبارات عديدة، أهمها؛ أن القاضي وكاتب الضبط الذي سيرافقه، فضلا عن الخبراء في أغلب الحالات، يتنقلون خارج مقار عملهم، وفي كثير من الأحيان خارج المجال الحضري بعشرات الكيلومترات إن لم تكن المئات كما في بعض الدوائر الاستئنافية (ورزازات، الرشيدية، العيون، فاس، تطوان .. إلخ)، ويستعملون وسائلهم الخاصة أو وسائل نقل عمومية، مع ما يستغرق ذلك من وقت وجهد.
ولهذا الاعتبارات وغيرها، جاء النص صريحا في القانون الصادر سنة 1984 المتعلق بالمصاريف القضائية في القضايا المدنية والتجارية والإدارية للتأكيد على أن مصاريف التنقل لإجراء المعاينات يؤديها الطرف الذي يطلب القضاء به من المحكمة، في تناغم تام مع مقتضيات الفصل 56 أعلاه، وكذا لتنظيم كيفية أداء تلك المصاريف ومشمولات نطاقها، وذلك بموجب مقتضيات الفصل 12 منه، بقوله: "كلما وجب أن يؤدى مقدما إلى القضاة وكتاب الضبط والخبراء والمترجمين وغيرهم من الوكلاء القضائيين أو إلى الشهود مصاريف أو تعويضات عن التنقل أو أجور أو مكافآت يستحيل تحديد مبلغها سلفا بكل دقة، تولى كاتب الضبط أو القاضي، إذا طلب الطرف ذلك، تقدير مبلغها على وجه التقريب، ويقوم الطرف بإيداع المبلغ المحدد لدى كاتب الضبط ويتسلم منه مخالصة تقتطع من السجل ذي الأرومة المستعمل في محاسبة كتابات الضبط، ويحصر الحساب نهائيا من قبل كاتب الضبط ثم يؤشر عليه القاضي ويحدد المبلغ الواجب أداؤه. ويدرج في مداخيل الخزينة ويعتبر كسبا نهائيا لها كل رصيد لم يطالب به الطرف خلال الستة أشهر التالية لإعلامه من لدن كاتب الضبط بالتصفية النهائية للمصاريف".
وهو عين ما أقره، مجملا، الفصل 6 من نفس القانون، والذي جاء متناغما ومكملا لذات الفصل 56 من قانون المسطرة المدنية، وكذلك للفصل 12 الآنف، حيث نص، صراحة، على أن طالب إجراء المعاينات هو الذي يؤدي مصاريف تنقل القضاة بشكل مسبق بالإضافة إلى أداء الرسوم القضائية العادية، ونصُّ فقرته الثانية كما يلي: "غير أن الطرف الطالب يؤدي مقدما مصاريف تنقل القضاة والوكلاء القضائيين".
ولوضوح وصراحة هذه القواعد القانونية الواجبة التطبيق دون غيرها، لم تفتأ محكمة النقض المغربية، باعتبارها الجهة الموكول إليها قانونا توحيد الاجتهاد القضائي، عن تكريس مقتضيات تلك القواعد بين مناسبة وأخرى، وذلك في معرض مراقبتها لمدى تطبيق مقتضيات الفصل 56 من قانون المسطرة المدنية تطبيقا سليما من لدن محاكم الموضوع، خصوصها في شقه المتعلق بلزوم أداء مصاريف تنقل القضاة ومن سيرافقهم (كاتب الضبط والخبير) لإجراء المعاينة المأمور بها، وذلك من قبل الطرف الذي طالب المحكمة إصدار أمرها بهذا الإجراء بشكل مسبق وداخل أجل محدد وإلا صرفت نظرها عن إجراء المعاينة بالمرة.
ومن بين الاجتهادات الكثيرة لمحكمة النقض التي كرست هذا التطبيق القانوني وأقرته باعتباره تطبيقا سليما للقانون، نجد قرارها الصادر بتاريخ 09 يناير 2008، تحت عدد 88، في الملف المدني عدد 2694-1-1-2005، والذي عبرت، بمقتضاه، عن ذلك صراحة؛ بل، ووصفت مصاريف التنقل لإجراء المعاينة بـ "الأتعاب"؛ وذلك بقولها: "لكن ردا على الوسيلتين معا لتداخلهما، فإن تبليغ الأمر بأداء أتعاب بالوقوف على عين المكان لمحامي الطاعنين يعتبر تبليغا صحيحا وقانونيا وأن الطاعنين بعدم أدائهم أتعاب المعاينة قد فوتوا على أنفسهم فرصة تطبيق حججهم عل محل النزاع ولذلك فإن المحكمة ولما لها من سلطة في تقييم الأدلة واستخلاص قضائها منها حين عللت قرارها بأنها "أصدرت بتاريخ 23-11-2004 قرارا تمهيديا بإجراء تحقيق بالبحث بعين المكان بواسطة المستشار المقرر وبرفقة خبير قصد تطبيق حجج المستأنفين على المدعى فيه، إلا أن هؤلاء تقاعسوا عن أداء مصاريف التنقل رغم توصلهم بالأمر بالدفع داخل الأجل المحدد لهم في 15يوما"، فإنه نتيجة لما ذكر كله، يكون القرار معللا وغير خارق للفصل المستدل به، وتبقى معه باقي علله المنتقدة عللا زائدة يستقيم القضاء بدونها، وما بالوسيلتين بالتالي غير جدير بالاعتبار" (منشور بالموقع الرسمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية).
لذلك، فاستيفاء مصاريف تنقل القضاة وكتاب الضبط والخبراء لإجراء المعاينة هو مقرر بمقتضى نصوص قانونية صريحة، فضلا عن اجتهادات محكمة النقض المتواترة. وبالتالي، فمن غير المستساغ القول بأن ذلك مخالف للفصل 3 من قانون المصاريف المشار إليه أعلاه، والذي ينص على ما يلي: "لا يجوز استيفاء أي مبلغ غير مقرر أو يجاوز ما هو مقرر صراحة في هذا الملحق"؛ ذلك أن مصاريف إجراء المعاينات الواجب أداؤها مسبقا من قبل أطراف الدعوى تنفيذا لأمر المحكمة، وفق المفصل سالفا، تعتبر مستثناة من مقتضيات الملحق المشار إليه، ولا أدل على هذا الاستثناء، هو إفراد تنظيمه بنصوص خاصة كـ: الفصل 56 من قانون المسطرة المدنية، والفصلين 6 و12 من قانون المصاريف القضائية في القضايا المدنية والتجارية والإدارية، وقد تم بسط مقتضيات هذا الفصول كاملة أعلاه.
عبد الرزاق الجباري/ رئيس "نادي قضاة المغرب"