يطرح كتاب " محمد الحيحي .. ذاكرة حياة " الذي يصدر قريبا كيف تتحول إشكالية الذاكرة الى نبراس للأجيال الصاعدة، وأفق في التعاطي مع إشكالية الذاكرة ومدى الاستئناس بها في كتابة التاريخ الوطني، من خلال النبش في مسارات شخصيات تركت بصماتها على صفحات الحياة السياسية والحقوقية والاجتماعية.
وتأتي أهمية إصدار مؤلف من هذا النوع، مساهمة في ملء النقص الحاصل في الكتابة حول رموز وطنية، كان لها دور مهم في الحياة السياسية والحقوقية والجمعوية، وجعل الذاكرة الحية تسعف في كتابة التاريخ خاصة في ظل ما يلاحظ من انتعاش واهتمام متزايد بالذّاكرة وقضاياها منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي خاصة من لدن وسائل الاعلام، سعيا منها في اماطة اللثام عن صفحات من الماضي، قليلا ما يتم الانتباه إليها، وبقية بعيدة عن ميادين الدراسة والبحث العلمي.
حاجة مجتمعية
ولن نجانب الصواب بالقول بأن استعادة الذاكرة في هذه المرحلة التاريخية التي تتميز بتحولات متسارعة، يعد شأنا عاما وحاجة مجتمعية كذلك، على اعتبار أن ذلك يساهم في بناء التاريخ المشترك، عبر التوقف عند محطات شكلت في إبانها ولازالت على ما يبدو هما وطنيا جماعيا.
وإذا كان من المفروض التأكيد على ضرورة التمييز بين التاريخ كعلم، يعتمد على مناهج وقواعد محددة في التعاطي مع أسئلة الذاكرة التاريخية، فإن التوقف عند أي كتابة حول الذاكرة استنادا على تذكر زمن معين، ومرحلة تاريخية وأحداث بعينها، فإنه في غالب الأحيان ما يلاحظ ما تختلط فيها العواطف والمشاهد والمواقف كذلك.
إلا أن كتابة المذكرات من طرف شخصيات عامة، ساهمت في تدبير الشأن العام، أو كانوا من أقطاب المعارضة، يرتبط أشد الارتباط بارتفاع منسوب الحرية، فالكتابة عن الذاكرة، يزدهر في البلدان الديمقراطية وتحترم حرية التعبير، على خلاف البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية أو التي تعاني من هشاشة ديمقراطية مزمنة، ويطغى فيها التخوف وتوجس مبالغ فيه من أية محاولة لاستعادة مراحل معينة من الماضي بمآسيه وبعنفوانه أيضا.
الذاكرة والحرية
ف"المجال الحيوي" لهذه الذاكرة غالبا تأثثه حوارات إعلامية وكذلك ما ينشر بالصحافة من سير ذاتية، ومذكرات، وانتاجات أدبية وسينمائية وأعمال أكاديمية علمية، وذلك بغية تسليط الضوء على الأحداث والوقائع خاصة منها ما يكون محل جدل وخلاف بين الفرقاء.
بيد أنه إذا كانت الكتابات الصحافية، تسعف الباحث في الانتباه الى وقائع من مسار التاريخ السياسي و الاجتماعي والإعلامي، فإنها غالبا ما تخضع لقراءات متعددة، وتحليلات مختلفة، يكون البعض منها مؤدلجا أو خارج النص من خلال التركيز على مواقف الصحافي أو الكاتب، وأحيانا أخرى تكون متحاملة، ولا تنفذ الى عمق ما هو منشور، على الرغم من قيام أصحابه، بما يلزم وما لا يلزم من احترازات ورقابة ذاتية.
نقلة نوعية
وإذا كان اللجوء للصحافة لإثارة انتباه الرأي العام إلى جوانب معينة من الحياة السياسية والحقوقية والمجتمعية، غالبا ما تخضع لقراءات وتحليلات تختلف من توجه لآخر، فإنه من الملحوظ، أن ما كانت تنشره الصحف في تسعينات القرن الماضي، تميز بجرأة كبيرة في تناول قضايا كانت تعتبر من المحرمات، بسبب ما كان يعتقد آنذاك بأنه "خطوطا حمراء"، رافقه كذلك إفراط في ممارسة الرقابة الذاتية في ما كان يعالج من قضايا التي غالبا ما كانت معززة بصور وشهادات لأسماء كانت فاعلة في هذه الإحداث أو عاصرتها.
فهذه الحفريات الصحافية كانت في " الزمن الورقي " تحظى باهتمام متزايد من فئات واسعة من الرأي العام، ومكنت آنذاك من إحداث نقلة نوعية في انعاش التفكير والبحث، وهو ما ساهم في توسيع قاعدة القراء والمشاهدين. وسجلت بالمقابل إقبالا واسعا على الصحافة، رافقه تطورا واضحا في الأداء المهني، واعتمادا متزايدا على فعاليات أكاديمية وإعلامية في تحليل المادة الصحفية، والاستناد على مقاربة ترتكز على قواعد المنهج التوثيقي، في الوقت الذي تعزز المشهد الاعلامي، بالتحاق جيل جديد من الصحفيين بمهنة المتاعب، وهو ما وسع من قاعدة الصحافيين خاصة المتوفرين على شهادات وتكوين من مستوى عال.
وظائف وجدل
وإذا كانت الصحافة قد تمكنت في ظل انشغالها بقضايا الذاكرة واشكالياتها من أن تنفض الغبار عن ملفات الماضي، وتطرح تساؤلات حول ظروفها وتداعياتها، فإنها أثارت بالمقابل جدلا واسعا في أوساط الطبقة السياسية، حول وظائف الصحافة، ودور الصحفي في تناول هذه الأحداث، التي عادة ما اعتبرت حقلا خالصا للمؤرخين الذين لبس بعضهم جبة الصحافي، على الرغم من أن تحرير المادة الصحفية، تختلف عن الكتابة التاريخية، لاعتبارات متعددة منها تعامل الصحافة الفوري مع الأحداث واعتماد الصحافي على أدوات ومنهجية وأسلوبا معينا، لمواكبة أحداث ووقائع الماضي، وتحويلها إلى مادة إعلامية، وجعلها في متناول وادراك مختلف فئات القراء والمستمعين والمشاهدين وفيما بعد المبحرين في الشبكة العنكبوتية.
خلخلة اليقينيات
فالمكتسبات التي شهدها المجال الحقوقي والسياسي والاجتماعي، في تسعينات القرن الماضي، نتيجة التحولات الوطنية والدولية، ساهمت في خلق هذه الدينامية الإعلامية التي تعززت بميلاد منابر اعلامية جديدة، وسعت من العرض الصحفي، مما فتح باب التنافس الإعلامي على مصراعيه، وخلقت واقعا جديدا، وأدت كذلك الى خلخلة يقينيات سادت لردح من الزمن حول فصول وأحداث الماضي، أعيد ترميمها في ملفات نشرتها الصحافة.
وبالعودة الى كتاب " محمد الحيحي .. ذاكرة حياة " وهو من تأليف كل من الصحفي جمال المحافظ والفاعل الحقوقي عبد الرزاق الحنوشي، فإن الكاتبين، وإن كان يسلطان فيه الضوء حول مسارات وامتدادات، الفقيد مربي الأجيال وصهر الشهيد المهدي بن بركة في المجالات السياسية والحقوقية والتربوية والجمعوية، فإنه يشكل رصدا من خلال نحو 50 شهادة لوقائع تاريخية، تشكل جانبا من تاريخ مغرب ما بين أربعينات وأواسط تسعينات القرن الماضي . كما يعد هذا المؤلف الذي يوجد قيد الطبع مساهمة في جعل التراث الذي خلفه محمد الحيحي مؤسس المجتمع المدني التطوعي ذاكرة حية، وفي ترسيخ ثقافة الوفاء والاعتراف.