العلاقات المغربية الاسبانية قديمة ومتشعبة تتداخل فيها عوامل التاريخ والسياسة والأرض والحدود والحروب والهجرة والتركة الاستعمارية والذاكرة، ثم المصالح المشتركة وصراع القوة والنفوذ والتجادبات، ويتداخل فيها الحاضر والمستقبل بحسابات الماضي المثقل بالجراح والكبوات.
وقد تحكمت في هذه العلاقات على مدى ما يقرب من خمسين عاما الماضية هواجس الخلافات والصراع حول مشاكل متعددة، مرتبطة بعقدة قضية الصحراء لدى الاسبان، ملف المدينتين المحلتين سبتة ومليلية، أزمة جزيرة ليلى 2002، والهجرة السرية، واتفاقيات الصيد البحري، ثم الواقعة التي انتفض فيها المغرب في وجه اسبانيا شهر أبريل 2021 وصلت حد القطيعة، تلك المرتبطة بتداعيات استقبال اسبانيا لزعيم البوليساريو ابراهيم غالي، متخفيا بجواز سفر مزور بتواطؤ مفضوح مع النظام الجزائري.
كانت بالفعل أزمة شديدة استخدم فيها المغرب كل أنواع الدفاع السياسي والدبلوماسي والأمني والاقتصادي والتجاري. بل ذهب بعيدا حين فتح أبوابه للهجرة إلى سبتة، وحاصر موانئ اسبانيا الجنوبية ومدينتي سبتة ومليلية عندما دفع بالجالية المغربية إلى العودة إلى الوطن عبر موانئ فرنسا وإيطاليا، مما حرم المجالس البلدية الاسبانية بالجنوب من عائدات مالية بالمليارات من الأورو، وكبدها خسائر فادحة.
عملية كسر عظم استمرت زهاء السنة خاضها المغرب مع الاسبان شغلت الطبقة السياسية والعسكرية بين مؤيد ومعارض، تحولت معها الأنظار والبلاغات والتصريحات السياسية والأمنية والدبلوماسية إلى الرباط، التي صمدت في وجه العاصفة ورفعت سقف التحدي إلى أبعد الحدود، أظهر فيها جلالة الملك محمد السادس حنكته وعزمه وإرادته القوية في مواجهة اسبانيا دون مواربة أو تردد عن الدفاع عن مصالح المغرب، كاشفا للإسبان أن دبلوماسية التسامح وغض الطرف والانحناء للعاصفة والتودد قد ولت. مخيرا اسبانيا بين القطيعة مع الماضي في ملف الصحراء المغربية كعنوان لباقي مجالات التعاون أو لاشيء.
إلى أن جاء البيان المشترك ليوم السابع من أبريل 2022، الذي انتقل بالعلاقات المغربية الإسبانية إلى عهد جديد، لماذا بالتحديد، لأن الأمر يتعلق بالتحول السياسي النوعي الكبير في الموقف الإسباني من قضية الصحراء المغربية، وما سيترتب عنه من متغيرات في الحسابات القديمة التي كانت تتحكم في مسار العلاقات بين الرباط ومدريد على كل المستويات، ليتشارك البلدان في تقاسم لحظة تاريخية تؤسس لمرحلة في العلاقات المغربية الاسبانية. مرحلة تتميز بالشفافية والوضوح، والانتقال من مرحلة سوء الفهم والافتراق والتباعد إلى مرحلة التفاهم والتقارب والتطلع نحو المستقبل الواعد والقطيعة مع الماضي.
فقد أصدرت الحكومة/ الدولة الاسبانية بيانا صريحا واضحا أكدت من خلاله على: "تعترف إسبانيا بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وبالجهود الجادة وذات المصداقية للمغرب في إطار الأمم المتحدة لإيجاد حل متوافق بشأنه. وفي هذا الإطار، تعتبر إسبانيا المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وذات المصداقية لحل هذا النزاع."
تعزز هذا البيان بمحطة فبراير 2023، حين انعقدت الدورة 12 للاجتماع رفيع المستوى بين البلدين، انتهى إلى التوقيع على 19 اتفاقية في العديد من مجالات متنوعة للتعاون، جاءت لتكريس الشراكة الإستراتيجية والدينامية الجديدة بين البلدين، بعد التوصل إلى تفاهم عام منفتح حول الإطار العام الذي يحكم هذه العلاقات حاضرا ومستقبلا.
في هاتين المحطتين الهامتين ابتعد المغرب وإسبانيا عن الحديث والخوض في قضية مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، واكتفى البيان المشترك في بنده الثالث بالإشارة إلى أنه: "سيتم الاستئناف الكامل للحركة العادية للأفراد والبضائع بشكل منظم، بما فيها الترتيبات المناسبة للمراقبة الجمركية وللأشخاص على المستوى البري والبحري."
إذا كان العرف الدولي يقتضي تصفية ملف الاستعمار بين دولتين بشكل كامل ونهائي، فإن إسبانيا شدت عن هذه القاعدة، بعد أن ظلت تتلكأ وتتردد في التعامل مع ملف تحرير كافة مناطق المغرب التي احتلتها بشماله وجنوبه. فلجأت إلى سياسة المماطلة والتنطع والتأجيل وفق مسلسل متقطع عسير معقد وخلافي أرهق العلاقات بين البلدين. فبعد أن فكت عقدتها إزاء ملف الصحراء المغربية ظلت مع ذلك قضية الوحدة الترابية للمغرب غير مكتملة حتى يومنا هذا، باستمرار احتلال مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية. وظلت الحكومات الإسبانية المتعاقبة تنهج سياسة مناهضة مناوئة للمغرب، خلفت الكثير من المتاعب والتصدع بين الدولتين.
فتحرير التراب الوطني من الاستعمار الإسباني لم يأت دفعة واحدة، بل جاء على مراحل وخلال سنوات: 1956 المنطقة الشمالية، 1958 طرفاية، 1969 سيدي إفني، 1975 منطقة الساقية الحمراء بموجب اتفاق مدريد الثلاثي اسباني مغربي موريتاني معزز بالمسيرة الخضراء، و1979 منطقة وادي الذهب بعد انسحاب موريتانيا، و2022 الاعتراف بمغربية الصحراء وبمبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية.
لكن التركة الاستعمارية الاسبانية لم يتم تصفيتها بعد في ظل استمرار احتلال مدينتي سبتة (1580 م) ومليلية (1497 م) ثم الجزر المغربية ذات المواقع الإستراتيجية، والتي تدخل في حيز المياه الإقليمية المغربية ولا تبعد عن الساحل المغربي إلا بمئات الأمتار القليلة. في هذا السياق يقول الأديب المغربي محمد برادة في إحدى رواياته: "يخيل لي أحيانا وأن الاسبان يحافظون على ملفي الصحراء وسبتة ومليلية وكأنهم يعانقون الصليب".
وقد تعددت المبادرات والنداءات المغربية من أجل استكمال تحرير ما تبقى لدى اسبانيا من مدن وثغور محتلة، لكنها لم تجد آذانا صاغية من جانب مدريد، التي تصر على معارضة الجلوس إلى طاولة التفاوض مع المغرب حول وضعية المدينتين سبتة ومليلية والجزر الصغيرة بالضفة الجنوبية المتوسطية، على كافة المستويات وأشكال الحوار السلمي، فقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن اقترح أواسط الثمانينيات من القرن الماضي فتح نقاش على مستوى خلية تفكير، على شاكلة التجربة البريطانية / الصينية لحل مشكلة "هونغ كونغ". كما سبق للملك محمد السادس في خطاب العرش سنة 2002 أن دعا إلى "تشكيل خلية مشتركة لإنهاء وتسوية قضية سبتة ومليلية والجزر التي تعد أراض مغربية، بما يحفظ الحقوق التاريخية والسيادية للمملكة المغربية، والمصالح الإسبانية في إطار التوافق".
الردود الإسبانية على المطالب المغربية تأتي متعددة الأشكال والمناحي، بعضها استفزازي، كزيارة ملك إسبانيا خوان كارلوس إلى مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين سنة 2007، واعتماد مجموعة من التدابير الهادفة إلى ترسيخ الوضع الاستعماري للمدينتين، كتطبيق قانون الأجانب المتعلق بأسبنة سبتة ومليلية عام 1985، ومنح حكم ذاتي لهما، وإخضاعهما لمجال التغطية العسكرية للناتو واتخاذ جملة من التحركات العسكرية المقلقة على الحدود مع المدينتين. وبالرغم من هذه الاستفزازات العسكرية الاسبانية، فإن حلف شمال الأطلسي «الناتو» لا يعترف بانتماء سبتة ومليلية إلى التراب الإسباني، ولا يشملهما بالحماية عكس باقي الأراضي الإسبانية.
تحاول إسبانيا من جهة أخرى إقحام الاتحاد الأوربي في هذا الملف عبر تصريحات لكبار المسؤولين بهذا الاتحاد للتأكيد على أن سبتة ومليلية تدخل ضمن الحدود الأوربية. وقد زكى «جوزيب بوريل» الممثل السامي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية الأوروبية، موقف نائبه اليوناني «مارغريتيس شيناس» بشأن تبعية مدينتي سبتة ومليلية لإسبانيا والاتحاد الأوروبي، وقال في هذا الصدد إن «مؤسسات الاتحاد الأوروبي أعادت التأكيد علنا على الموقف الرسمي المعروف جيدا بشأن أهمية حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي»، معتبرا أن تصريحات «شيناس» بأن سبتة ومليلية «مدينتَين إسبانيتَين» كان الهدف منها التأكيد على أنها «أراض تابعة للاتحاد الأوروبي وتشكل جزء من حدوده الخارجية». وهو مــا يطرح تساؤلات حول دوافع هذا التدخل من داخل الاتحاد الأوربي في هذا الملف ذو الطبيعة الثنائية الصرفة. في الوقت الذي ظل فيه المغرب يشدد على عدم وجود حدود برية بينه وبين اسبانيا، مؤكدا ان مدينتي سبتة ومليلية تعتبران ثغران محتلان ولا يمكن الحديث عن حدود بل عن نقط عبور بسيطة.
لا يبدو والحالة هاته بروز أية مؤشرات على استعداد اسباني للحوار مع المغرب، في الوقت الذي تسعى فيه إسبانيا إلى عقد لقاءات سرية مع بريطانيا لتصفية ملف استعمار جبل طارق. ففي إحدى تصريحات المغفور له الحسن الثاني، ربط بشكل أساسي بين مستقبل جبل طارق ومستقبل سبتة ومليلية. فبقدر حرص إسبانيا على استعادة جزء من أراضيها بقدر حرص المغرب على استعادة جزء من ترابه.
الرفض الإسباني القوي للمبادرات المغربية الداعية إلى حل هذا المشكل التاريخي بالاستمرار في احتلال سبتة ومليلية، دفع المغرب إلى تغيير نهجه في التعامل مع هذا الملف، الذي لم يكن مرتبطا فقط بمسألة تصفية استعمار، بل إن المدينتين شكلا لسنوات طويلة نزيفا للاقتصاد الوطني.
وإدراكا من المغرب بأهمية سبتة ومليلية، اللتان تضمان الكثير من السكان من ذوي الأصول المغربية واعتناقها للديانة الإسلامية، وبكون المدينتين يعتمدان بشكل كبير على المغرب من الناحية الاقتصادية والأمنية وبارتباط رفاهية ساكنتها وازدهار نشاطها التجاري والسياحي ببلدنا، فقد تم العمل منذ عقدين من الزمن على تفادي سياسة المواجهة والتخفيض من لغة النداءات للحوار والتفاوض، باعتماد إستراتيجية مغايرة تركز على الاقتصاد كقوة ضاربة، وهي سياسة تتوخى النهوض بمنطقة الشمال وإنجاز مشاريع كبرى لتحقيق نهضة اقتصادية شاملة لتحسين المؤشرات السوسيوـ اقتصادية، مما سيكون له الأثر الإيجابي على ساكنة المنطقة.
ولابد أن نسجل هنا كذلك الدور المحوري الذي يضطلع به المغرب في قضايا مكافحة الهجرة غير الشرعية ومحاربة المنظمات الإرهابية التي تتاجر في البشر. فمدينتي سبتة ومليلية أصبحتا نقطتي جذب للمهاجرين المغاربة والأفارقة الذين يحاولون العبور إلى أوروبا. واسبانيا تعتمد كثيرا على المغرب في إبعاد المهاجرين عن الحدود بلعب دور الدركي.
عرفت منطقة الشمال والجهة الشرقية تحولا كبيرا بفضل المشاريع الاقتصادية الكبرى التي تم إطلاقها والبنيات التحية الهائلة المنجزة. وقد اعتبرت تقارير اسبانية عدة تهتم بشؤون مدينتي سبتة ومليلية أن إنجاز هذه المشاريع من شأنه أن يخنق اقتصاد المدينتين ويؤثر على الحركية التجارية والسياحية بهـما.
ومن أهم وأضخم المشاريع الاقتصادية الكبرى التي تم إنجازها، نجد ميناء طنجة المتوسط الأكبر في إفريقيا وفي حوض البحر المتوسط من حيث تدبير ومعالجة الحاويات، يشكل قطبا صناعيا لأكثر من 1100 شركة عالمية تنشط في مجالات مختلفة «صناعة السيارات، الطائرات، النسيج واللوجيستيك والخدمات بمعاملات تفوق 5 مليارات أورو»، مما أصبح يشكل تهديدا لموانئ الشحن الاسبانية.
ويأتي كذلك مشروع تهيئة موقع بحيرة «مارشيكا» الذي غير ملامح مدينة الناظور القريبة لمدينة مليلية، والذي أصبح من أبرز الوجهات السياحية المهمة في منطقة البحر المتوسط عبر خلق حركية اقتصادية تتأسس على السياحة «وحدات سكنية وفندقية، ميناء ترفيهي، محلات تجارية استقطبت كبار العلامات التجارية العالمية، كورنيش الناظور، ....»، هذا إضافة إلى الشروع في إنجاز ميناء الناظور غرب المتوسط الذي سيجعل من المدينة قطبا وطنيا ودوليا للاستثمار.
النهضة التنموية شملت كذلك البنيات التحتية الطرقية وإعادة هيكلة وترميم مدن الشمال وتشييد العديد من المنشآت السياحية والمؤسسات التجارية والاجتماعية والصحية وغيرها، مما جعلها، بامتياز، قبلة للمستثمرين وللسياح الوطنيين والأجانب.
السياسة التنموية المنتهجة في أقاليمنا الشمالية لم تكن عبثا أو من قبيل الصدفة، بل كانت مخططا مدروسا وذا أبعاد إستراتيجية محكمة توخت، بالإضافة إلى أهداف التنمية المعلنة، تضييق الخناق على المدينتين المحتلتين وإعادة تحويل بيئة التهريب المعيشي بالمناطق الحدودية المحاذية لمدينتي سبتة ومليلية بالأساس إلى أنشطة منظمة لتحقيق تنمية اقتصادية، والتموقع بالتالي كمنافس استراتيجي لإسبانيا التي أصبحت تعترف بأن المغرب يتجه ليصبح قوة إقليمية في المنطقة وسيكون قادرا على فرض كلمته على بلدان الجوار.
ويأتي الحديث هنا عن القرار الهام والشجاع الذي اتخذته السلطات المغربية بإغلاق معبري سبتة ومليلية سنة 2020،وذلك كجواب مباشر وترجمة على أرض الواقع لسياسته المنتهجة منذ سنوات لتنمية مدن الشمال. هذا القرار يؤشر على تحول كبير للمغرب في كيفية التعامل مع المدينتين المحتلتين، أساسا من خلال القطع مع ظاهرة التهريب أو ما يصطلح عليه بالتهريب المعيشي الذي كرس خلال العقود الأربع الأخيرة أشكالا مختلفة من القهر والآلام والمعاناة وظروف العمل المحفوفة بالمخاطر (أزيد من 3500 امرأة تحمل السلع الاسبانية في أكياس ضخمة فوق ظهورهن إضافة إلى 200 طفل قاصر في معبر سبتة، وذلك حسب تقرير برلماني)، كما كلف الاقتصاد الوطني خسائر مهمة (حسب إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، فإن تدفق السلع عبر المدينتين يمثل ما بين 15 و20 مليار درهم في السنة، أي ما يعادل 2 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي. أما عن دخول البضائع فتقدر بأزيد من 1600 طن يوميا لكل من سبتة ومليلية، وتشمل مواد غذائية، ملابس، سجائر، مشروبات كحولية، قطع غيار السيارات، عجلات مطاطية، أدوات التجهيز، المنتجات الصحية ومستحضرات التجميل، الأجهزة الإلكترونية وغيرها).
يضاف إلى ذلك، المخاطر الصحية الكبيرة الناتجة عن استهلاك المواطن المغربي لمنتجات مهربة، ممنوعة من التسويق داخل المدينتين المحتلتين، لكونها غير خاضعة للرقابة (تزوير مغلفات المنتجات المهربة وتاريخ انتهاء الصلاحية) وكونها لا تحترم معايير السلامة الصحية المعمول بها.
رئيس حكومة سبتة خوان فيفاس قال: "إن ما تعيشه المدينة الخاضعة للنفوذ الاسباني خطير جدا وهو ما يقتضي تدخل الحكومة المركزية لمدريد من أجل تدارك الأمر، معتبرا أن المدينة لا يمكن أن تصمد أمام الوضع الذي تعيشه المنطقة على المستوى الحدودي".
أما رئيس الحكومة المحلية لمليلية فقال إنه: "في حالة استمرار إغلاق الجمارك البرية المفتوحة منذ 50 سنة ستتكبد المدينة خسائر بالملايين". تقارير اسبانية تحدثت عن أن قيمة المعاملات التجارية للتهريب المعيشي تبلغ لمدينة مليلية وحدها أكثر من ملياري أورو (2,2 مليار دولار).
فإذا كان إغلاق معبري سبتة ومليلية قد أدى في البداية، وهذا معطى طبيعي، إلى ركود اقتصادي وبطالة أساسا في المدن المجاورة التي كانت تستفيد بشكل كبير من التهريب (الناظور، تطوان، الفنيدق والمضيق)، فإن السلطات العمومية قد بادرت إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الآنية في محاولة للحد من تداعيات هذه الأزمة، من خلال إدماج النساء المتضررات من إيقاف المعبرين عبر عقود عمل في وحدات للنسيج وغيرها من القطاعات وتمكينها من مصدر دخل آخر ومستدام. كما أن المشاريع الهيكلية الكبرى المنجزة بكافة مناطق الشمال والجهة الشرقية قد سعت إلى إيجاد فرص للشغل، وبالتالي استيعاب العديد من اليد العاملة في شتى القطاعات، هذا إضافة إلى البرامج الاجتماعية الموفرة لفرص الشغل كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والاستفادة من تدابير الدعم بالنسبة لحاملي المشاريع.
إن وضع مدينتي سبتة ومليلية سيظل كما هو عليه الآن. فمواقف كلا البلدين، المغرب وإسبانيا، واضحة لا لبس فيها، لكن هذا الواقع لم يمنع من تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وبناء جسور التعاون في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والبيئية وغيرها، رغم محاولات بعض السياسيين والأحزاب اليمينية، من قبيل الحزب الشعبي و"فوكس"، من استغلال هذا الملف للتشويش على العلاقات المغربية الاسبانية، عبر ممارسة الضغوط على رئيس الحكومة المعـاد انــتخابه، السيد "بيدرو سانشيز" الذي يسعى إلى الاستفادة من الدور الريادي للمغرب في المنطقة، ورغبته في الحفاظ على مصالح بلاده الحيوية المشتركة مع المغرب، بالإضافة إلى سعيه إلى كسب الرباط كشريك استراتيجي من أجل ضمان منصة جنوبية قادرة على تكريس التعاون وتوسيع الاستثمار والتبادل التجاري في مختلف القطاعات، والتركيز على القضايا المتعلقة بالأمن ومكافحة الإرهاب والمخدرات والهجرة غير الشرعية.
ومن الناحية السياسية، ومنذ الاتفاق المغربي الاسباني التاريخي (أبريل 2022) تواصل الصحافة الاسبانية المقربة من اليمين وشخصيات سياسية بالبرلمان، ممارسة ضغوطها على الحكومة اليسارية التي يقودها السيد «سانشيز» لفك ما تراه لغزا أو شفرة هذا الاتفاق، وتطالب بمعرفة تفاصيل رسالته إلى جلالة الملك في الرابع عشر من شهر مارس 2022، والتي أعلن فيها دعم إسبانيا لمقترح الحكم الذاتي، كما ظلت تلك الصحف تتابع تفاصيل ما ورد في رسالة وزارة الخارجية الاسبانية إلى نظيرتها المغربية، التي تتطرق لموضوع مغربية مدينتي سبتة ومليلية. وللابتعاد بالعلاقات بين البلدين عن المناوئين لهذا التوجه السيادي للحكومة، ردت الأخيرة على هؤلاء بالرفض في كشف أو نشر الوثيقة معتبرين أن من شأنها الإضرار بالعلاقات الخارجية مع المغرب.
ومن شأن إعادة انتخاب «بيدرو سانشير» على رأس الحكومة مجددا بعد نيله ثقة البرلمان منتصف نونبر 2023، أن يعزز مسار العلاقات بين البلدين وتحصينها من الأصوات المناوئة من داخل إسبانيا للتقارب مع المغرب، ويفتح آفاق واسعة للتعاون في شتى المجالات، من بينها إعادة تنشيط مشروع الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق، الذي سيكون بمثابة حلقة الوصل ليس فقط بين المغرب واسبانيا بل بين قارتين إفريقيا وأوروبا.
أما بشأن وضعية المدينين السليبتين فإن المغرب سيظل ينهج سياسة الصمت إزاء هذا الملـف، والتلـويح من حين لآخر للإسبان بأن هــذا الصمت لا يعني طي الملف. ففي غياب الحوار بين البلدين حول مستقبل المدينتين، سيبقى هذا المشكل في نظر المغاربة يتفاقم ويلعب دور العائق أمام تطور العلاقات الثنائية. لم ترق المطالب المغربية بعد إلى مستوى تدويل الملف واللجوء إلى المحاكم الدولية، فالانشغال المغربي بالأساس مركز على القضية الوطنية الأولى الصحراء، فلا مجال لتشتيت الجهود وتوسيع جبهات النزاع، والإسبان يدركون ذلك جيدا.
محمد بنمبارك/ دبلوماسي سابق