ألف ابن قيم الجوزية "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" (2)، في القرن الرابع عشر الميلادي، ليجعله دليلا يشمل أسماء المحبة ومعانيها ودرجاتها مستندا، في ذلك، إلى آيات من القرآن الكريم، ووقائع من سيرة النبي والصحابة والخلفاء، وإلى أمثال وطرائف وأبيات من الشعر العربي... وقد افتتحه بحمد الله "الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلا، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلا" (ابن قيم، ص 3)، موزعا المحبين إلى من هو "محب الرحمان، ومحب الأوثان، ومحب النيران، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب النسوان، ومحب الصبيان، ومحب الأثمان (أي الأموال)، ومحب الإيمان، ومحب الألحان، ومحب القرآن" (ابن قيم، ص 11). ويشير ابن قيم إلى أن الله قد فضل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين، مؤكدا أن هذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس. كما "يصلح عونا على الدين وعلى الدنيا، ومرقاة للذة العاجلة ولذة العقبى".
ليس هذا الكتاب هوى عابرا، أو نزهة في التاريخ التأليفي لصاحبه، بل هو تجسيد للأبعاد المتعددة في إنتاج فقيه حنبلي، عالم مفسر اشتهر باعتباره أكبر تلامذة ابن تيمية، بل إن بعض رواة سيرته يعتبرونه "المعظم على المذهب الحنبلي" بعد هذا الأخير. كما أن هذا الكتاب ليس أول مصنف من نوعه. بل لقد سبقته كتب عديدة من بينها، على سبيل التذكير، "طوق الحمامة" لابن حزم، و"مصارع العشاق" لأحمد السراج، و"تزيين الأسواق بتفصيل أسواق العشاق" لداود الأنطاكي، و"ذم الهوى" لابن الجوزي. لكن ما يميز "روضة المحبين"، بشهادة باحثين وفقهاء، منهجية البحث وسلاسة الأسلوب، وكثافة الاستشهادات والإحالات على التراث الديني والأدبي العربي.
أما هندسة الكتاب فقد جعلها ابن قيم تتوزع إلى سبعة وعشرين بابا من عناوينها:
في أسماء المحبة. في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها ونسبتها. في أن سر العالم العلوي والسفلي. في دواعي المحبة. في ذكر المناظرة بين القلب والعين وحقيقة العشق. في سكرة العشاق. في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله. في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين. في ذكر فضيلة الجمال. في علامات المحبة وشواهدها. في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالمحب، وعدم التشريك بينه. في ارتكاب سبل الحرام، وما يفضي إليه من المفاسد والآلام. في من ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا، أو أعاضه الله خيرا منه... (ابن قيم، ص 9).
أما باب الصدارة المخصص لأسماء المحبة الخمسين (3)، والتي اعتمدتها فاطمة المرنيسي، فيوردها ابن القيم على هذا النحو:
المحبة والعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف والمقة والوجد والكلَف والتتيم والعشق والجوى والدنَف والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدَم والغمرات والوهَل والشجن واللاعَج والاكتئاب والوصَب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفُتون والجنون واللمم والخبل والرسيس والداء المخامر والود والخُلة والخلم والغرام والهيام والتدليه والوله. ثم هناك الاسم الخمسون: التعبد الذي "هو غاية الحب وغاية الذل... ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز وجل" (ابن قيم، ص 36).
لكن لماذا اختارت المرنيسي العودة إلى هذا الكتاب سنة 2011 في سياق ما سمي "الربيع العربي" لتقدمه ملخصا باقتضاب شديد للقارئ العربي والأجنبي؟
هناك عاملان:
الأول: مرتبط بالتوجه الفكري العام كما رسمته أبحاث وكتابات فاطمة المرنيسي التي اهتمت، منذ بدايتها، بقضايا المرأة والمجتمع، وبتفاصيل الانتهاكات داخل فضاءات العمل والحريم والجنس، تماما كما عبرت عن ذلك إصداراتها وحضورها الأكاديمي دوليا. وضمن هذا السياق تحديدا كانت قد خصصت لموضوع الحب، وبشكل مباشر، كتابا عن الحب في البلاد الإسلامية (4).
أما العامل الثاني لاختيار المرنيسي "روضة المحبين..." فمرده يعود إلى أن كتاب ابن قيم يجيب بمضمونه، وعبر سياق كتابته، عن سؤال العلاقة بين الحب والسلطة، والقيادة تحديدا. وذلك في المقدمة الوازنة التي تعتبر حجر الزاوية في كتابها، والتي افتتحتها بسؤال "ما هو الحب؟" لتربطه مباشرة بزاوية النظر التي اختارتها للموضوع، والمتجهة أساسا نحو مساءلة العلاقة المفترضة للحب بالسلطة، وبقيادة الشعوب تحديدا.
تتساءل المرنيسي: "لماذا نال الحب كل هذا الاهتمام لدى قادة أمم مختلفة؟ سواء تعلق الأمر بأباطرة الصين، أو أكاسرة الفرس، أو خلفاء العرب في العصور القديمة، أو بالشركات متعددة الجنسيات التي تتحكم في اقتصاد العالم خلال الفترة الراهنة؟" (المرنيسي، ص 120). ثم تضيف:
- هل هناك علاقة سحرية بين الحب والسلطة؟
- هل هناك ارتباط بين الحب والقيادة؟
- هل يجب أن يكون الحاكم محبوبا من طرف محكوميه لكي ينجح (الطرفان) معا في إنجاز مشروع مشترك؟
تورد المؤلفة، في معرض الجواب عن هذه الأسئلة، رأيا لأحد الخبراء الاستراتيجيين الصينيين (5) الذي خلص في كتابه "فن الحرب" إلى "أن المصدر الخفي لسلطة القائد لا يعود البتة إلى قوته العسكرية. بل يعود، على العكس من ذلك، إلى حبه وتعاطفه مع الناس الذين يحكمهم، مؤكدا "أن العلاقة السحرية بين القائد وهؤلاء الناس تستلزم الحب وتجلياته: إن من يعاملني بالرعاية والعطف هو قائدي. أما الذي يسىء معاملتي فهو عدوي" (المرنيسي، ص 120).
تورد كذلك، وفي نفس السياق، انشغال الخليفة العباسي المأمون، الذي تسلم مقاليد الحكم شابا، بسؤال "ما هو الحب؟"، بقدر انشغاله بشؤون الحكم وأسئلة الرياضيات والفلك. ولذلك دفع الكثير من المال لامتلاك القدرة على فك ألغاز الحكم، وللتمكن من الإجابة على كل الأسئلة التي كانت تطرح في مجالس "بيت الحكمة". و"بالتالي، ليس من الغريب في شيء أن نعترف بأن أحد عوامل الانتشار السريع الذي عرفه الإسلام في العصر العباسي خلال القرن التاسع، يعود في أحد أسبابه إلى الاستفادة من معارف الأمم الأخرى في فك رموز الحب" (المرنيسي، ص 119)، ولذلك "ليس من المدهش البتة أن يذكر المأمون كبطل في كتاب "روضة المحبين" (المرنيسي، ص 118).
ليس فقط الإصرار على إبراز العلاقة بين الحب والسلطة والقيادة هو السبب المباشر لتأليف الكتاب، بل هناك سبب آخر عند ابن القيم الذي ولد سنة 1292م، أي بعد مرور ثلاثة عقود على غزو بغداد وتدميرها من طرف المغول. السبب كما ترى المرنيسي: "تذكير الغزاة بأن نجاح كل قائد رهين بالحب". عبر ذلك يبرز، بالتوازي، سياق إعدادها ل"روضة المحبين" حيث الرسالة تتمثل في "أن الانهيار مآل كل حاكم يخضع لأهوائه. إنها نبوءة تنطبق بشكل كامل على ثورة الربيع العربي 2011 لأن الحب والكرامة شكّلا مطلبين استراتيجيين فيها" (المرنيسي، ص 118). ومن ثم تشيد المرنيسي بالمشاركة الوازنة للنساء في تلك الأحداث لتؤكد أن الغرب كان قد أدرك، منذ حوالي ثلاثة عقود، الارتباط بين الديمقراطية والحب الرومانسي، وبأن نجاح الزوج العربي، والقائد السياسي أصبح رهينا بمدى قدرته على الاستجابة للانتظارات.
فاطمة المرنيسي هي أيضا لا تريد أن يكون الكتاب نزهة مرحة فقط، أو استراحة محارب. بل هو بعض رسائلها على ضوء "الربيع العربي".
هذا النص فصل من كتاب سيصدر قريبا لمحمد بهجاجي ضمن كتاب يهم الشأن الثقافي المغربي، وقد خص المؤلف بنشره تحديدا" أنفاس بريس" و"الوطن الآن".
[1] فاطمة المرنيسي، "خمسون اسما للمحبة – روضة المحبين لابن قيم الجوزية"، منشورات مرسم، الرباط 2011. ترجمت المقدمة إلى العربية فاطمة الزهراء ازريويل. ترجم نصوص ابن قيم إلى الفرنسية عبد الكريم القصري، ثريا إقبال ورشيد الشرايبي. أما تصميم الكتاب، فقد أفرد لكل اسم من أسماء الحب الخمسين صفحة توجز تعريفات ابن قيم بخطوط ضمن لوحات فنية من إنجاز الفنان محمد إدعلي.
2 ابن قيم الجوزية "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 3، 2003. وهي الطبعة التي اعتمدناها في هذه القراءة.
3 يوضح ابن قيم أن هناك أسماء أخرى غير هذه لم يذكرها فهي ليست من أسماء الحب. "إنما هي من موجباته وأحكامه فتركنا ذكرها". المرجع نفسه،
4 L'Amour dans les pays musulmans : A travers le miroir des textes anciens : Le Fennec - Casablanca 2007.
5 هو سان تزو San Tzu من القرن السادس قبل الميلاد كما تعرفنا به المؤلفة.