شهادتي مجروحة في الدكتور سمير فرج لأنني أحبه بكل بساطة، فهو صديق عزيز ومن أنبل وأطيب الناس الذين قابلتهم في حياتي، بالإضافة إلى أنه فنان حقيقي بتصرفاته وروحه وخفة دمه، هنا مقالة كتبتها حول فنه ومساره في السينما المصرية كواحد من أفضل مديري التصوير في مصر والعالم العربي:
السينما ببساطة هي لغة فنية محمّلة بالمعاني والرؤى الفلسفية والفكرية والثقافية... لغة لا تخاطب المُتلقي سوى عبر تقنيات بصرية، هذه الأخيرة التي تشكل جسرا جماليا مفعما بالأحاسيس والمشاعر بين تلك المعاني والجمهور، وبدون هذا الجسر لن يستطيع المتلقي العبور الى الضفة الأخرى وفهم مكنونات وتشظيات مضامين المعنى المراد توصيله من طرف صانع الفيلم، وهنا تكمن سلطة الصورة في بعدها التقني والجمالي، وبدونها لا يمكننا الحديث عن السينما أصلا. ولخلق هذه اللغة/الصورة، وتشكيل مفرداتها وإبراز جُملها لابد لها من وجود مايسترو يتحكم في عملية بنائها، وهذا المايسترو هو ما نلقبه بمدير التصوير.
مدير التصوير ليس تقنيا، تُختزل مهاراته في آلات التصوير وحسب، بل هو أعمق من ذلك بكثير فهو يتجاوز الآلة الى كل ماهو حسي وفني، الآلة في يده ليست سوى واسطة من الوسائط أما التصوير الفعلي فيرتكز بشكل أساسي على الإبتكار والموهبة والإبداع والحس الجمالي، ليس كل من يستطيع التعامل مع الكاميرا هو فنان بالضرورة، فترويض الكاميرا فنيا وإبداعيا وجعلها آلة مدجّنة لعكس الرؤى المكتوبة والمتخيلة لدى مخرج العمل، هي التي تفرق بين موهبة هذا المصور أو ذاك. لذا نجد فرقا إبداعيا كبيرا وشاسعا بين مدراء التصوير في التقاط الصوّر وخلق الكادرات واستخدام الضوء والزوايا الى غير ذلك، فلكلٍّ مدرسته وأسلوبه الخاص الذي يتميز به، فأسلوب مدير التصوير ايمانويل لوبزكي مثلا الذي ترشح لثمانية جوائز أوسكار، وفاز بثلاثة منها، ليس هو أسلوب روبرت ريتشاردسون الذي ترشح لتسعة جوائز أوسكار وفاز بثلاثة منها أيضا، ونفس الشيء نجده في عالمنا العربي.
بين مدراء التصوير الذي تألقوا وكرسوا أسماءهم في المجال السينمائي المصري والعربي ككل، نجد الدكتور سمير فرج، الذي برز اسمه في مرحلة سينمائية كانت شديدة الصعوبة تقنيا بسبب أساليبها الكلاسيكية القديمة، وبرز أكثر في المرحلة التي تلتها، أي المرحلة الأكثر حداثة وتطورا، فجمعت تجربته بين مرحلتين، ووضع اسمه بجانب أسماء كبيرة في فن التصوير السينمائي أنذاك، كتلك التي عايشت بدورها هذا التحول، هناك مثلا رمسيس مرزوق، ومحسن نصر، وسعيد الشيمي وغيرهم. كانت بدايات التصوير عند الدكتور سمير فرج متأثرة بأسلوب مدير التصوير الكبير عبدالحليم نصر، لتأتي بعدها المرحلة الأكاديمية التي تبلورت في المعهد العالي للسينما وفتحت له آفاقا وأساليب جديدة غير تقليدية، اكتشف من خلالها تقنيات مبتكرة في فن التصوير، كتلك التي بدأت في نهاية الخمسينيات وانفردت باستخدامها تيارات عالمية شكلت في ذلك الوقت ظواهر سينمائية غير مألوفة كالموجة الجديدة في فرنسا والواقعية الجديدة في إيطالية.
سمير فرج ليس مصورا فحسب، فخبرته النظرية التي اكتسبها في المعهد، وايضا خبرته العملية التي نشأت تحت عباءة العديد من الاساتذة الكبار في فن التصوير السينمائي، وكذا تدرجه بالاشتغال في العديد من الوظائف، من إضاءة، وتصوير مجموعة من الأفلام من أواسط الستينات الى أواسط السبعينات... وكلها عناصر ساعدته على اكتساب مهارات تقنية في هذا المجال أولا، ثم مهارات فنية أضيفت الى الموهبة الفطرية التي أبان عليها أثناء تنقله من مهمة الى مهمة، وعمل الى عمل، هذا التراكم المشبع بالخبرة والموهبة وحب الكاميرا، جعل منه واحدا من أفضل مديري التصوير في مصر والعالم العربي.
قال المخرج الكبير أحمد يحيى صاحب فيلم ''حتى لا يطير الدخان'' وفيلم ''يا عزيزي كلنا لصوص'' وغيرهما من الاعمال المعروفة : ( يعتبر الدكتور سمير فرج من المصورين الذين يحرصون على طلب نسخة السيناريو قبل التصوير بفترة كافية، ويقوم بقراءة السيناريو عدة مرات حتى يعيش جو الفيلم وشخصياته وأماكن تصوير الأحداث، وبعد ذلك يقوم بمناقشتها مع المخرج عدة مرات حتى يصل الى الشكل البصري والضوئي للفيلم عامة...) هكذا يعيش الدكتور سمير فرج أجواء العمل قبل البدء في التصوير فدراسة السيناريو جيدا للوقوف على كل مشهد ولقطة فيه، يستوجب الصبر، والاجتهاد، وطاقة إبداعية خلاّقة، ومخيلة فنية واسعة، قادرة على استيعاب رؤية المخرج قبل تحويلها عملياّ الى صورة متكاملة الأبعاد من الناحية الضوئية والتقنية والفنية والجمالية...
فرج لم يحترف التقاط الصور بمعانيها التقنية والدرامية فقط، فقبل ذلك وحتى تكتمل هذه المعاني وتزداد جمالا وتشبعا بالحياة احترف أيضا الرسم بالإضاءة والكتابة بالظلال، فالإضاءة بالنسبة إليه هي تلك التعويذة السحرية التي لابد من اتقانها والوقوف على كل مفردة من مفرداتها وإلا أصيبت اللقطات المصورة باللعنات الفنية، فالصورة تستقي جماليتها من فن الإضاءة، هذا الأخير الذي يحسن سمير فرج التلاعب به بحرفية عالية مما يجعل للصورة قيمة ابداعية تولد من رحم الضوء، بل ليس هذا فحسب فاختياره الاحترافي للزوايا يساعد أيضا على ضبط اللقطة بما يتناسب ورؤية العمل وكذا منحها القيمة التي تتماشى ورؤيته كمبدع متحكم في خلق الصورة وضبط مكوناتها.
إذا ما تتبعنا المسار التطوري للأعمال المتراكمة للدكتور سمير فرج، سنجد هناك لمسة مشتركة بينهم تُميز فنه وابداعه وتشير الى لغته التصويرية التي بقي وفيّاً لها إلى آخر أعماله، دون المساس باختلاف الرؤى الإخراجية والدرامية التي يتطلبها كل فيلم، فلكل عمل سينمائي طابعه الخاص بطبيعة الحال، لكن كما قلت تجد بصمة سمير فرج واضحة في كل الاعمال التي اشتغل فيها، فمن فيلم ''الظلال في الجانب الآخر'' 1974، مرورا بأفلام مثل ''عندما يسقط الجسد'' 1976، و''رحلة النسيان'' 1978، و''وتمضي الأحزان'' 1979، و''حب لا يرى الشمس'' 1980، و''الغول''1983، و''النمر الأسود'' 1984، و''البيه البواب'' 1987، و''المولد'' 1989، و''الإرهابي''1994...الى بداية الألفينات التي استهلها بفيلم''يمين طلاق''2000، تجد لقطات محددة يستعملها سمير فرج بفنية عالية، قد تتفاوت بما تتطلبه تفاصيل هذا العمل أو ذاك، فمثلا نجد اختياره المتكرر للقطة العامة كلقطة تأسيسية توضيحية تربط الشخوص بكل مكونات فضاء التصوير فيما يلحق من لقطات ومشاهد، وقد تميز بها هذا الفنان وأعطاها روحا جمالية أكثر تميزا تنضاف الى نسقها الدرامي، فكيفية التقاطها واختيار الزوايا والإضاءة من طرفه تجعل منها لوحة فنية أكثر منها لقطة تقنية محشورة داخل كل اللقطات المكونة للفيلم، وهناك أيضا اللقطات القريبة جدا لوجوه وملامح الشخصيات التي تجعلني شخصيا إما أنفر منها أو أتقبلها حسب أسلوب وطريقة التقاطها، فهي من اللقطات المعقدة والأكثر تأثيرا على المتلقي، فمن خلالها ندخل الى المعالم النفسية للشخصية، ونتعرف على ردود أفعالها بطريقة واضحة، ونبحر داخل انفعالاتها مما يربطنا بها عاطفيا طيلة مسار الفيلم، لذا يكون دائما الحذر في نقلها مطلوبا بالاختيار المتقن للماكياج وللضوء والظل وللزاوية المستخدمة... وغيرها من العناصر، هذه اللقطة عند سمير فرج تتغلغل داخل نفسيتك بنعومة وسلاسة دون أن تشعر بالنفور منها، فحتى تصوير القبح لديه بهذه التقنية يكون أكثر رأفة بمشاعر المُشاهد دون التأثير على هدفها وغايتها في البناء الدرامي.
يبقى اسم سمير فرج اسما متداولا في الفيلموغرافيا المصرية، عرف كيف يقتنص رؤى الكثير من كبار المخرجين المصريين ويروي قصصهم بحدس فني عالٍ من خلال عدسته، لذا تجد بصمته الإبداعية منتشرة في الكثير من روائعهم السينمائية.
لم يتوقف الدكتور سمير فرج ولم يتقاعد عن العمل في هذا المجال كما فعل الكثير من أقرانه وأبناء جيله، بل ما زال مستمرا في العطاء ونشر تجربته وخبرته في مجال التصوير السينمائي، فكما نهل من تجارب أساتذة كبار سبقوه في هذا الميدان، هو الآن يعتبر مرجعا ينهل منه طلبة وشباب اليوم المهتم بالسينما والتصوير.
من أعماله السينمائية المعروفة فيلم ''الباطنية'' (1980) للمخرج حسام الدين مصطفى، فيلم ''الغول'' (1983) للمخرج سمير سيف، فيلم ''النمر الأسود'' (1984) للمخرج عاطف سالم، فيلم ''البدرون'' (1987) للمخرج عاطف الطيب، فيلم ''البيه البواب'' (1987) للمخرج حسن إبراهيم، فيلم المولد (1989) للمخرج سمير سيف، فيلم شمس'' الزناتي'' (1991) للمخرج سمير سيف، فيلم ''بخيت وعديلة'' (1995) للمخرج نادر جلال... وغيرها كثير فقد تجاوزت اعماله الفنية بمختلف أجناسها أكثر من 140 عملا.