في سياق تشريعي إتسم بالغموض والتكتم، طفت إلى السطح مسودة مشروع قانون تنظيم مهنة المحاماة، فكانت لحظة غير مسبوقة و فاصلة ليس فقط، في تاريخ صياغة نصوص قانون المهنة ، بل في تاريخ رسالة المحاماة ذاتها. فنحن اليوم لسنا أمام مجرد تعديل تقني أو تحيين إجرائي يواكب تطور العصر، بل إزاء تصور جديد لوظيفة المحامي وموقعه داخل منظومة العدالة، تصور ينزع عن قصد إلى تقزيم الدور التاريخي للمحاماة ورسالتها، وتحويلها من مهنة مستقلة إلى مجرد نشاط "مهني" منضبط بمنطق الإدارة والتراتبية والإمتثال.
إن أي قراءة متأنية لما راج تسربات سابقة لبعض مضامين المشروع، وما أحاط به من سرية غير مبررة، وما جاءت به المسودة التي ثم تداولها مؤخرا، يكشف بجلاء عن إنقلاب هادئ على فلسفة المحاماة كـمهنة حرة مستقلة تشارك في تحقيق العدالة، إلى إختزال وتقزيم يعتبرها مجرد حلقة تقنية داخل الجهاز القضائي، تخضع لمنطق الضبط أكثر مما تستند إلى منطق الإستقلال. هذا التحول، إن تم تكريسه تشريعيا ، لن يمس المحامين وحدهم ، بل يمس جوهر الحق في الدفاع باعتباره حق دستوري وضمانة أساسية من ضمانات المحاكمة العادلة.
إن أخطر ما يطبع هذا المشروع هو المنهج الذي ولد به. فالتشريع الذي يصاغ في الغرف المغلقة، بعيدا عن النقاش العمومي الحقيقي، وبمنأى عن إشراك القاعدة العريضة للمحامين، يفقد منذ البداية مشروعيته الأخلاقية والمهنية.
إن أخطر ما يطبع هذا المشروع هو المنهج الذي ولد به. فالتشريع الذي يصاغ في الغرف المغلقة، بعيدا عن النقاش العمومي الحقيقي، وبمنأى عن إشراك القاعدة العريضة للمحامين، يفقد منذ البداية مشروعيته الأخلاقية والمهنية.
إن استقلال المحاماة لا يهدد فقط بالنصوص التي كشفت عنها مسودة المشروع ، بل يقوض كذلك حين يصادر حق المحامين في المشاركة الفعلية في صياغة القانون الذي سينظم وجودهم ومستقبلهم. فكيف يتصور الحديث عن مهنة حرة، بينما يفرض عليها قانونها بمنطق فوقي أقرب إلى الوصاية منه إلى التنظيم؟
إن النزوع إلى نقل مراكز القرار الجوهرية من الهيئات المنتخبة إلى الإدارة، سواء تعلق الأمر بولوج المهنة أو بتأديب المحامين أو بتقييد أدواتهم الجماعية في التعبير والاحتجاج، يعكس فلسفة تشريعية قائمة على الريبة من المحامي لا على الثقة فيه. وهو منطق يتناقض جذريا مع الدور الدستوري للمحاماة باعتبارها شريك في تحقيق العدالة، لا تابع من توابعها. فالمحامي الذي ينتزع منه حقه في تنظيم مهنته بإرادته الحرة وفي الدفاع عن شروط ممارستها، يتحول تدريجيا إلى فاعل منزوع المبادرة، محكوم بمنطق الإمتثال بدل منطق الدفاع.
ولا يقل خطورة عن ذلك، ما يحمله المشروع من نزعة نخبوية عمرية مغلقة، تقحم السن كشرط غير مبرر لتحمل المسؤوليات المهنية، في تجاهل صارخ لمعيار الكفاءة والإستحقاق. هذا التوجه لا يعكس حرص "المشرع" على تقديم الحكمة أو التجربة، بقدر ما يعكس رغبة في إعادة إنتاج نفس النخب داخل نفس المواقع، وإقصاء جيل كامل من المحامين الشباب عن المشاركة في تدبير شؤون مهنتهم، وهو ما يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص، ويحول الهيئات المهنية إلى فضاءات مغلقة تفتقد للدينامية والتجديد.
إن تقييد أدوات الفعل الجماعي للمحامين، سواء تعلق الأمر بالمقاطعة أو بأشكال التعبير الإحتجاجي، لا يمكن قراءته إلا بإعتباره محاولة لتجريد المحاماة من بعدها النضالي التاريخي. فالمحاماة لم تكن يوما من الأيام مهنة صامتة أو محايدة، بل كانت دائما في قلب معارك الحقوق والحريات. وكل محاولة لتحويل المحامي إلى فاعل “عسكري” لا يحتج ولا يعترض، هي في حقيقتها محاولة لإفراغ رسالة المحاماة من مضمونها، وتحويل البدلة السوداء من رمز للحرية والدفاع إلى مجرد زي وظيفي بلا روح.
إننا أمام مشروع لا يستهدف تحديث المهنة بقدر ما يسعى إلى إعادة ضبطها داخل حدود مرسومة سلفا، حدود تجعل من الإستقلال عبئا تقيلا، ومن الجرأة المهنية مخاطرة، ومن الدفاع الحقيقي عن الحقوق فعل غير مرغوب فيه. وهو تصور يتناقض مع حاجات العدالة في مغرب يرفع دستوره من سقف الحقوق والحريات، والذي يتطلب دفاع قوي ومستقل، لا دفاع مروض ومقيد.
إن رفض هذا المشروع، و رفض فلسفته المؤطرة، ومن وجهة نظر متواضعة،لا يعتبر موقف فئوي ولا رد فعل محافظ، بل هو موقف مبدئي دفاعا عن المحاماة كرسالة قبل أن تكون مهنة. رسالة تقوم على الإستقلال والجرأة والمساءلة، والوقوف في وجه كل أشكال التعسف أيا كان مصدرها.
ختاما، المحاماة التي تفقد إستقلالها تفقد قدرتها على الدفاع، والدفاع الذي يفرغ من مضمونه يتحول إلى إجراء شكلي، لا إلى ضمانة حقيقية للحقوق والحريات.
وعليه، فإن المعركة الدائرة اليوم حول مشروع قانون المحاماة ليست معركة حول صياغة مواد وفصول، بل هي معركة حول أي نموذج للعدالة نريد؟ عدالة تدار بمنطق إداري مغلق، أم عدالة تشاركية يكون فيها المحامي فاعل حر ، لا مجرد تابع و صامت. وفي خضم النقاش المهني الجاد حول ما تم تلكشف عنه كمسودة مشروع قانون يجعلناأمام خيار واحد و أوحد، لا للصمت، لأن الصمت هنا ليس حياد ، بل تخلي عن جوهر الرسالة وخيانة لتاريخ نضال من أجل مهنة حرة مستقلة.
د/ الحسين بكار السباعي، محام بهيئة المحامين لدى محاكم الإستئناف بأكادير وكلميم والعيون.
مقبول لدى محكمة النقض.

