الآن فقط أفهم لماذا اهتم ابن خلدون بالمدينة والتمدن وربطهما في مقدمته بالمدنية. نحن الذين نركز أساسا في كتاباته ومواكباته التاريخية على العصبية ودورات التاريخ.
والآن فقط استوعب بالكامل لماذا ارتبطت الديموقراطية لدى اليونان ارتباطا صميميا بإدارة المدينة.
والآن فقط أعي بالكامل لماذا اهتم الفلاسفة الإغريق بالمدينة، ولماذا ترابطت لديهم الفلسفة بالتفكير الهندسي وبعلوم الهندسة بما هي تفكير في التناسق والتناغم والتوازن وجمال الأركان والزوايا وأماكن العيش والكسب.
مناسبة هذا الكلام جولة مشيا على الأقدام في بعض مدننا الشمالية خلال الأسبوع المنصرم، وما وقفت عليه من تشوهات تطال المجال الحضري، بعضها استفزاز للذوق العام والمقاييس الدنيا للمدينة والتمدن:
ارتفاعات غير متساوية للمباني في نفس الشارع. ألوان واجهات بقوس قزح. احتلال يكاد يصير طبيعيا للأرصفة والملك العام بمآت الآلاف من المنتوجات من كل صنف.
ارتدادات reculs، وتدلي شرفات طولا أو عرضا حسب الرغبات في العديد من العمارات والأبنية. أتربة تبقى مركونة لأيام وأسابيع بعد نهاية أوراش البناءات. بقع غير مبنية لا تعرف أي شكل من أشكال التسييج. مخازن حديدية للأزبال ترشح بكل النفايات بما فيها المقطرة لسوائل تزكم الأنوف. محل لصرف العملات وإرسال النقود يستضيف بجانبه بائع حمص وزريعة في عرض واحد من أقدم وأعرق الشوارع بعاصمة البوغاز. قاعات سينمائية تتحول إلى عمارات بطوابق ومقاهي وحتى إلى مرائب، وكأنه ليس هناك أي ادإمكانية لتوظيف ثقافي ملائم لهوية وتاريخ تلك الأمكنة.
ارتفاعات غير متساوية للمباني في نفس الشارع. ألوان واجهات بقوس قزح. احتلال يكاد يصير طبيعيا للأرصفة والملك العام بمآت الآلاف من المنتوجات من كل صنف.
ارتدادات reculs، وتدلي شرفات طولا أو عرضا حسب الرغبات في العديد من العمارات والأبنية. أتربة تبقى مركونة لأيام وأسابيع بعد نهاية أوراش البناءات. بقع غير مبنية لا تعرف أي شكل من أشكال التسييج. مخازن حديدية للأزبال ترشح بكل النفايات بما فيها المقطرة لسوائل تزكم الأنوف. محل لصرف العملات وإرسال النقود يستضيف بجانبه بائع حمص وزريعة في عرض واحد من أقدم وأعرق الشوارع بعاصمة البوغاز. قاعات سينمائية تتحول إلى عمارات بطوابق ومقاهي وحتى إلى مرائب، وكأنه ليس هناك أي ادإمكانية لتوظيف ثقافي ملائم لهوية وتاريخ تلك الأمكنة.
وهذا مجرد غيض من فيض من مشاهدات تحكي نوع التشوهات التي تطال مدننا إجمالا إذا ما استثنينا بعض الأحياء ال huppés والمحظوظة في العواصم الجهوية والاقليمية الكبرى.
وليس مهما أن نقف فقط على توزيع المسؤوليات بخصوص هذه الانزلاقات والانفلاتات الحضرية (جماعات ترابية.سلطات وصاية.منتجو المجال الحضري بمختلف أصنافهم.مهندسون.منعشون.اضافة الى الساكنة ذاتها )
وليس مهما أن نقف فقط على توزيع المسؤوليات بخصوص هذه الانزلاقات والانفلاتات الحضرية (جماعات ترابية.سلطات وصاية.منتجو المجال الحضري بمختلف أصنافهم.مهندسون.منعشون.اضافة الى الساكنة ذاتها )
ما هو مقلق هو أن نلاحظ كيف يحصل تدريجيا التطبيع مع أشكال التشوهات وكيف تتحول الى واقع يومي لا يرتفع، يكيف الثقافة الحضرية وينأى بها في الوعي العام عن المستلزمات والضوابط والقواعد والنماذج المفروض أن تحكم رؤية المديني للمدينة، وفي مقدمتها التخصص الوظيفي وعقلانية الزوناج zonage والنظافة وأماكن الترفيه العمومي والتفاعل الاجتماعي في الفضاء العام.
المقلق أن تصبح المدن في وضعية لا تؤهلها لأن تنتج السلوكات المدينية، وهي وظيفتها الأولى منذ الاغريق كما أسلفنا في بداية هذا الحديث.
وليس من باب الانسجام في التطور العام بالتأكيد أن تتطور البلاد على مستوى عدد من التجهيزات والبنيات التحتية في الطرق السيارة وباقي مرافق النقل مثلا ؛ وأن تخطأ الموعد مع المدينة والتطور المديني وفقا للأعراف والمقاييس والمعايير والأذواق المرتبطة عادة بمسلسل التمدن .
وأشعر احيانا، أنا الذي عشت مراحل من ماضي بعض مدن الشمال القديمة، كما لو أن الحس والجمالية الحضرية تضائلت رغم التطور الكمي للمباني والتجزئات والتجهيزات .
وأصل إلى الأهم والأكثر استرعاء للانتباه، وأعرج مجددا على المدينة والفلسفة والهندسة عند الاغريق، وأقول هل يمكننا أن ننتظر تطورا حاسما في الفكر الديموقراطي والحس المدني المرافق له، إذا ما نحن تركنا الحبل على الغارب في التطور العشوائي للمدن. ولم ننتبه الى أن الديموقراطية من عدد من الوجوه الحاسمة هي بنت المدينة والتطور المديني المنسجم والمولد للسلوك المديني. والذي في حضوره يتعمق الوعي الديموقراطي الحقوقي ويمتد في كل التراب ويتجذر. وفي غيابه تتعقد مهام البناء الديموقراطي وتصير محاصرة من كل جانب ومن كل مكون اجتماعي؟!