لم يتخيل أكثر الناس سوء نية أن تكون صفتنا للجهوية «المقدمة» هي أول جدار يوضع في وجه الدولة الجديدة، المنتظر بزوغها من دستور المملكة الجديد.
فقد تعودنا أن نحلم، مع كل منعطف تاريخي جديد، باقتراب تغيير طبيعة الدولة، وخروجها من ترددها الذي طبعها طيلة 50 سنة ( بعض الترددات وردت في تقرير رسمي حول الخمسينية، بالرغم من نواقصه)، وكان القرار التاريخي هو أن يتم التغيير في طبيعة الدولة، عبر توزيع السلط والاقتراب من الملكية البرلمانية، (قدر المستطاع التاريخي ).. وعبر الجهوية المتقدمة.
وكان الهدف هو دولة فدرالية تسمح للجغرافية وتدبير المجال بصناعة التاريخ، أي جانب الثالوث المؤسساتي الآخر( الجماعات، الجهوية، البرلمان).
لم نعد نتحدث عن البرلمان، إلا كشكل من أشكال تدبير اللحظة التي أفرزته.
ولم نعد نعول عليه كثيرا في التوجه نحو تغيير طبيعة الدولة..
في مجال الجماعات، جاءت أوراق الامتحان أقل بكثير (انظر نص المشروع في عددي اليوم والأمس) مما توقعنا، وصار واضحا أن عناصر العطب والتعثر كثيرة وفادحة.
ومن المثير حقا أن يكون ذلك ضمن منظومة تبعث على القلق، تمس الضلع الثالث : الجهوية.
من المحقق أننا نضع، في ميزان التقدير التاريخي، أحلامنا في مهب النسبية ونعترف مسبقا بأنها لا تولد أبدا كواقع، بل تستوجب دائما من ينزلها على أرض هذا الواقع.
لكن الجهوية، كشكل تدبير مجالي وسياسي وترابي وثقافي، الخ، دشن حضورها في مغرب التسعينات، باعتبارها مؤسسة دستورية (1996)، وكان ذلك يعني أنها ارتقت إلى أكبر من جماعة.
وكان ذلك يعني أنها مطالبة بأن تسير باتجاه .. الكيان القوي، الذي يأكل من المركز ويقضم منه لفائدة التنمية .. أو لفائدة الانتقال الديمقراطي .
في إسبانيا مثلا، كانت المصالحة الوطنية والجهوية المتقدمة رافعتين أساسيتين للانتقال الديموقراطي.
وليس مصادفة أن المصالحة الوطنية، في المغرب بدأت في 1996، عندما صوتت القوى اليسارية والديموقراطية وامتدادات الحركة الوطنية ( وعلى رأسها الاتحاد) على الدستور بنعم، فانطلقت المصالحة التي ستعرفها أوجها مع مجيء العهد الجديد. وهي نفس السنة (1996) التي عرفت تأصيل الجهوية دستوريا.
ومن التزامن السياسي والقدري الذي لا يمكن أن تخطأه العين، هو أن الجهوية، في إسبانيا ذاتها، كانت من أجل .. الجواب عن النزعات الانفصالية في إقليمي الباسك وكاطالونيا.
ولا شك أن السيد عزيمان، القاريء الفطن والاستراتيجي لتاريخ إسبانيا، يعرف ذلك، واستحضره عندما كان يقرأ تجارب الجيران في تدبير الجهوية..
ويعرف، أيضا أن مسار المقاس حول الجهوية، كان واسعا، والتفكير فيه عميقا، قبل مجيء الدستور.
وقد شاركت القوى السياسية، الحية منها على وجه الخصوص، في تداول وطني واسع، تحكمت فيه، أو في جزء منه على الأقل تطلعات التغيير والتقدم وتقديم الحل الوطني لنزعات الانفصال.
ورفع الدستور من القدرة المؤسساتية للجهوية، من حيث المبدأ، ولم تغب عنه أن المغرب يقترح «فدرالية» لا تقول اسمها للحل.
ولم يغب عن الأنظار أن الجهوية المتقدمة، تسير في ركاب مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدم به المغرب لحل معضلة الصحراء المفتعلة، بعد دخول الأمم المتحدة على الخط واستعمال المعايير الدولية في كل ما يتعلق بالصحراء (حقوق الإنسان نموذجا) في الحكم على مقترحات بلادنا وعلى الأوضاع في الأقاليم الجنوبية.
ومن المنطقي أن تفكر القوى السياسية الوطنية بأن الجهوية هي، في الأقاليم غير المنازع عليها، التجسيد الحي والفعلي لمقترح الحكم الذاتي.
الحقيقة التي صدمت الرأي العام والمهتمين أن الجهوية المقدمة- وليس المتقدمة- تضرب مقترح الحكم الذاتي في الصميم: سيسهل، ولا شك، على الأعداء أن يسخروا منا، عندما يتحدثون إلى الأخرين: انظروا، هذه مقترحاتهم في المناطق غير المتنازع عليها، تعود إلى الوراء، فكيف ستكون المقترحات لحل النزعات الانفصالية، وهل يعقل أنها ستذهب بعيدا إلى حد التطبيق وقيام الحكم الجهوي الذاتي؟
علينا أن ننتظر من الآلة الدعائية المناهضة لنا سلوكا من هذا القبيل، ولكن قبلها، علينا أن نمتحن ذكاءنا الجماعي ،وهو يقرأ المشروع المقترح.
إنه ضربة كبيرة لمقترح الحكم الذاتي الذي نقدمه للعالم.
ومن طرح هذا المشروع أن يجمعه من فضاء العرض العمومي، وعليه أن يقدم الجواب: من كان وراء هذا النسف الداخلي لمقترح نفتخر به وهو أذاتنا الكبرى في حرب الرمال الديبلوماسية ضد أعداء الوحدة الوطنية؟
كنا نحلم أيضا، عندما اعتبرنا أن مقترح الحكم الذاتي، سينهل من الجهوية المتقدمة (كإمكانية مادية ملموسة وفعلية بيننا، التي ستكون بدورها طريقتنا في حل معضلة ... المغرب الكبير!
كتاب الرأي