الأربعاء 27 نوفمبر 2024
فن وثقافة

كتابات تحتفل بالمبنى كمعنى في تشكل نصوص الكاتب عبد العزيز كوكاس

كتابات تحتفل بالمبنى كمعنى في تشكل نصوص الكاتب عبد العزيز كوكاس
الاحتفاء بمنتوج الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس هو احتفاء بكتابة نوعية، كتابة مغايرة، لا تبشر بالحدث، ولا يهمها التقاط السطحي العابر، لذلك فإن العديد من مقالاته التي كتبها منذ منتصف التسعينيات، التي صدرت تباعا في سلسلة "أحلام غير منتهية الصلاحية" بأجزائها الثلاثة حتى الآن: "أحلام غير منتهية الصلاحية: في وصف حالتنا"، "براد المخزن ونخبة السكر"، ثم الجزء الثالث الصادر حديثا تحت وسم "ليكن هناك نور"، في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة، تؤشر على أن الكاتب كان يلتقط في مقالاته الصحافية التحليلية والسياسية نسغ مكون بنيوي للأحداث والوقائع الجارية في المغرب، بحيث تموت الأحداث اليومية والوقائع الجارية التي كتب عنها، ولكن يظل الجوهري ثابتا يتحكم في وقائع مغايرة متفرقة في الزمن، لكن ماهيتها تظل هي نفسها، وهذا ما يفسر الإقبال عليها من طرف القراء حتى ممن يكونون قد ولدوا في غير الزمن الذي كتبت فيه، لأنها تستمر في الإجابة على أسئلتهم وعلى قلقهم وتقول ما يشعرون به اليوم، يقول كوكاس في تقديم الجزء الأول من سلسلة "أحلام غير منتهية الصلاحية": "نشر هذه المقالات اليوم، ليس وراءه أي ملمح بطولي أو سعي لتمجيد الذات الكاتبة أو استقطاب المديح، نعم قد يقوم نشر هذه المقالات في كتاب كتعويض موضوعي عن الكتابة الصحفية في الزمن الحالي بنفس روح المغامرة وبذات البراءة التي كانت لهذه الكتابات التي أضعها بين يدي القارئ اليوم.. هل لأن الزمان وأهله قد تغيرا أم لأني أنا المعني بالتغير؟"
لقد رسخ الإعلامي والكاتب كوكاس الأسلوب الماتع الذي قاده صحافيون كبار من حجم محمد باهي، عبد الرفيع جواهري، عبد الجبار السحيمي والعربي المساري على سبيل المثال لا الحصر، أسلوب يجمع بين الفائدة والمتعة، بين واجب نقل المعلومات وتحليل الأخبار وتتبع الوقائع وبين الملمح الإبداعي الذي يستفيد من ممكنات اللغة الأدبية ويوظف زخمها الاستعاري، لقد رفع كوكاس المقالة السياسية إلى دائرة الأدب. لذلك يقول المفكر عبد السلام بنعبد العالي في تقديم كتاب "ليكن هناك نور": "تتميز كتابات الأخ عبد العزيز كوكاس بكونها تهتم بالمبنى بقدر ما تهتم بالمعنى، حتى أننا نعجز في بعض الأحيان عن تفسير إعجابنا بنصوصه، فلا نستطيع أن نرد ذلك إلى انبهارنا أمام صياغتها، أم إلى اقتناعنا بأفكارها، وما إذا كان الأمر يعود إلى جمال العبارة، أم إلى عمق الفكرة.
ما يزيد هذه الكتابة حيوية، هو أنها لا تكتفي بعرض أفكار مجردة. فهي لا تكتب من أجل الكتابة، وإنما تحاول ملاحقة تطور الأحداث ومعانقة الحياة الفعلية بأسلوب حي، فتجمع بين طراوة الحدث وطراوة الكتابة".
بُعد آخر ملفت للانتباه في مقالات كوكاس ذات المنحى التحليلي الصحافي، وهو السخرية، فلا ندري أحيانا هل يجب أن نضحك أم نبكي على أنفسنا وعلى واقعنا المازوم الذي يستقطر آلامه في كتابات أنيقة ساخرة، فيما يلتقطه قلم عبد العزيز كوكاس، كتابة تجترح الألم من قلب الفكاهة، تولد الضحك والباروديا من قلم المأساة، وقد كان الراحل محمد سبيلا محقا وهو يقول عن كتابات كوكاس بنفس فكري عميق الدلالة: "مهما تكن صلبا وصمودا فإن أسلوبا فاتنا أخّاذا كهذا الذي يكتب به ومن خلاله الصديق عبد العزيز كوكاس، سيعصف بك وسيقذفك إلى عوالمه الطربة والضاربة في أعماق الخيال، تطرب للحزن وتحزن للطرب، تأخذك المفارقات الدلالية واللفظية الجميلة التي يتسقّطها عزيز ببراعة صائد الدلالات المحترف، وعندما يتمكن منك الأسلوب وتتراخى مقاوماتك.. تجد نفسك وأنت تستلذ هذه الأطياف وتستطيبها وكأن هواء خلابا يداعبك مثل نسمات فكرية عذبة، تهب عليك من كل فج فتسلم عقلك وذائقتك الأدبية لتستمرئ هذه الألاعيب الدلالية المتموجة". تذكرنا هذه الكتابات بما كان يخطه الراحل عبد الجبار السحيمي بخط يده وعبد الرفيع جواهري في نافذته الشهيرة كل أربعاء.. كتابة وظيفتها الأساسية هي نقد الواقع المتخلف وأشكال الفساد ورصد كل أشكال الاختلال في تدبير السياسات العمومية، ليس من أجل زراعة اليأس ولكن لخلق الأمل في التغيير والبناء الديمقراطي الذي ظل كوكاس يؤمن بحيويته لبلد مثل المغرب، كتابة تخز الجرح من أجل خلق الأمل، لذلك لا غرابة أن يحمل كتابه الصادر حديثا عنوان "ليكن هناك نور".
ما يميز نصوص الكاتب والناقد المغربي عبد العزيز كوكاس سواء في كتاباته الإبداعية أو الصحافية أو النقدية هو عناوينه المختارة بدقة فائقة، كانت إبداعا أو صحافة أو سياسة أو نقدا، من "سطوة العتمة"، "الصحو مثير للضجر" و"حبل قصر للمشنقة" ورائحة الله" الكتب الإبداعية، إلى كتابيه النقديين "اللعب في مملكة السلطان.. في امتداح النص"، و"فتنة بذرة جمال النص.. محاولات في مداعبة النص"، وفي كتابه الفكري "في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر"، حتى كتبه الصحافية والسياسية: "براد المخزن ونخبة السكر"، "أحلام غير منتهية الصلاحية" و"ليكن هناك نور"، العنوان ليس مجرد حلية نزين بها جيد النص في كتابات كوكاس، بل هو بنفسه معنى جمالي حمال أوجه، صناعة فيها خلق ووجع ومتعة ومخاض عسير، عناوين مثل المصيدة التي تنتصب حولنا، توقعنا في شرك حبالها، نسقط مذعنين  مستسلمين لغوايتها، وكوكاس الذي يشاركني العديد من نصوصه لا يرضى بالعنوان إلا بعد أن تصدر كتبه، بل إنه قد يتشبث بعنوان حتى قبل أن يجمع شذرات مؤلفه، وسأحكي لكم سرا شاطرني فيه الصديق المبدع عبد العزيز، في كتابه الأخير الشعري، كان قد رسا قراره على عنوان "لو كان بالإمكان"، وأنجز غلاف الكتاب الذي حصل على إيداعه القانوني تحت هذا المسمى، وحين بدأت ماكينة المطبعة تدور، طلب كوكاس توقيف الطبع، وغيّر الغلاف بسبب تغيير العنوان الذي أصبح هو "رائحة الله" بدل "لو كان بالإمكان"، أما بخصوص كتابه الشذري الصادر خلال هذا الشهر نفسه، فقد بشّر الكاتب به في حوارات له عام 2009، والكتاب لم يكتمل بعد، وكتبت عنه الجرائد حتى قبل أن يرى النور، وظل متشبثا بغواية العنوان حتى استوى الكتاب الشذري البديع عام 2023، وعلى ما يجري في عمليات البيع، أقول لكم لا تثقوا بوعود البيع لدى منتوج كوكاس حتى يتم المنجز كاملا، لأن المبدع قلق جدا اتجاه عناوينه.
ينفتح نص "ليكن هناك نور" على قلق أسئلة جيل مشاكس، تحيل المواضيع التي قاربها كوكاس على تنوع وتعدد في مجلات الكتابة بين السياسي والاجتماعي والثقافي، ويهيمن عليها التناول الفكري العميق الذي يتجاوز دوما الأحداث العابرة التي تقاربها الصحافة، فقد اعتاد الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس، تجاوز القشور التي تقدم نفسها على السطح، ليتوجه رأسا نحو البنيات الأعمق المحركة للأحداث أو للوقائع السياسية أو الاجتماعية التي تهتم بها الصحافة عامة، منتهجا أسلوبا بديعا عرف به وبصم من خلاله عن هوية خاصة في الكتابة الصحافية، كان المرحوم عبد الجبار السحيمي يصفها بـ "المدرسة الكوكاسية"، غير أن الكاتب كوكاس ظل دوما يرفض أن يسند إليه هذا السبق الإبداعي إن صح القول ويعتبر نفسه ليس صحافي لقيطا بل وليد مدرسة باذخة ويعتبر السحيمي أحد أقطابها، يقول في رسالة يرد بها على رسالة للراحل السحيمي: "من رحم خط يدك جاءت كتاباتي، من الكتابات الأنيقة لمحمد باهي ولد أسلوبي الذي وصمت بالمدرسة الكوكاسية، فما أنا إلا من غزية إن غزت غزيت، وإن غوت غويت".