الأربعاء 27 نوفمبر 2024
فن وثقافة

كتاب ”رحلتي من بئر أم اكرين إلى طنجة” .. وصف لرحلة في الزمان والمكان

كتاب ”رحلتي من بئر أم  اكرين إلى طنجة” .. وصف لرحلة في الزمان والمكان الصحفي عبد الكريم المالكي وغلاف الكتاب
اعتبر الصحفي عبد الكريم المالكي، إن السيرة الذاتية للأستاذ سيداتي أباحاج موضوع كتابه ”رحلتي من بئر أم اكرين إلى طنجة”، لم تكن مجرد مذكرات، بل كانت كذلك وصفا لرحلة في الزمان والمكان ضمنها المؤلف معطيات تاريخية وجغرافية وبشرية عن المحطات التي مر بها.
وأوضح المالكي، رئيس تحرير سابق بوكالة المغرب العربي للأنباء، والأستاذ الزائر بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، في معرض قراءته لمضامين الإصدار الجديد، خلال اللقاء الذي نظمه نادي الصحافة، يوم الأربعاء 12 يوليوز 2023، بالمكتبة الوطنية للمملكة بالرباط، أنه في كل محطة من محطات هذه الرحلة يتحدث المؤلف بأسلوب شيق ولغة سلسة واضحة عن اقتصاد وعادات وحياة سكانها متوسلا في ذلك ببعض أدوات الصحافي والمؤرخ ورجل الاجتماع.
وأضاف أن المؤلف المنحدر من إقليم الساقية الحمراء قدم، على الخصوص ، في هذا الكتاب الذي يقع في 291 صفحة من القطع المتوسط ، معلومات قيمة عن عادات المجتمع الصحراوي وعن علاقاته الأسرية القوية التي رافقته طيلة رحلته . فقد تحدث بالخصوص عن روابطه القوية بوالديه وأقاربه وعن بعض أفراد قبيلته من بينهم على الخصوص العلامة الشيخ لاراباس بن الشيخ محمد الأغضف، أحد أعلام القضاء المغربي والذي كان بمثابة أبيه الروحي.
وفي الشق المهني أشار الى أن المؤلف الذي اشتغل في حقل القضاء لما يناهز ثلاثة عقود " قدم لنا نظرة من الداخل لجهاز القضاء والعلاقات المتشعبة بين الفاعلين فيه من جهة وبينهم وبين محيطهم من جهة أخرى".
الصحفي عبد الكريم المالكي حول كتاب " رحلتي من بئر أم كرين إلى طنجة": وفي ما يلى مداخلة
" حين طلب مني زميلي وصديقي العزيز ، السي امحمد البوكيلي ( الإعلامي ومدير الإذاعة الوطنية السابق) ، وهو الذي يصعب علي أن أرد له طلبا ، المشاركة في لقاء فكري إعلامي لتقديم كتاب " رحلتي من بئر أم كرين إلى طنجة " الذي ألفه الأستاذ سيداتي أباحاج ، اعتذرت وتحججت بأن دائرة اهتمامي تهم مجال الصحافة، وهذا الكتاب يهم مجال القضاء ، وقلت له إن المجالين متباعدان إلى حد ما. فما كان من الأستاذ البوكيلي بلباقته المعهودة إلا أن قال لي : لا أريد منك ردا الآن . سأسلم لك الكتاب والق نظرة عليه ، وبعد ذلك أبلغني بردك.
قرأت الصفحات الأولى للكتاب فانفتحت شهيتي على باقي الصفحات. فاتصلت بالأستاذ البوكيلي وأخبرته بموافقتي على المشاركة.
قراءتي لهذه السيرة الذاتية ، التي تقع في 291 صفحة من القطع المتوسط والتي تعززها العديد من الصور ، كانت ممتعة ومفيدة ، واعتبر أنها تستحق القراءة ، لاسيما وأنها تتسم بنوع من الفرادة . أولا لكون مؤلفها قاض تقلد مناصب رفيعة في سلك القضاء في المملكة . والقضاة مطوقون بواجب التحفظ كما هو معلوم. ولم يسبق لقاض في المغرب، أن كتب مذكراته، حسب ما أشار إلى ذلك المؤلف في تمهيده للكتاب.
وهذه السيرة الذاتية متفردة كذلك لأن صاحبها ينتمي للأقاليم الجنوبية المغربية ، وكان ، إلى جانب زميلة له ، أول قاضيين ينحدران من هذه الأقاليم العزيزة ، يلتحقان بالقضاء بعد بدء العمل بالتنظيم القضائي الجديد.
الكتاب الذي نحتفي به اليوم جاء في قسمين . القسم الأول يتناول المسار الشخصي للمؤلف الذي رأى النور في كلتة زمور في الساقية الحمراء ، وقضى سنواته الأولى في بلدة بئر أم كرين في الشمال الموريتاني . أما القسم الثاني فيتناول مسيرته في سلك القضاء بدءا من التحاقه بالمعهد الوطني للدراسات القضائية وصولا إلى توليه منصب وكيل عام للملك في الحسيمة.
مؤلف هذه السيرة الذاتية ، التي ساعدته ظروف الحجر الصحي الناتج عن وباء كورونا على كتابتها ، هو سليل أسرة صحراوية عريقة من إقليم الساقية الحمراء معروفة بكفاحها ضد الغزو الفرنسي للمغرب وخاصة سنة 2012 . وقد استشهد عدد من رجالها في المعارك التي دارت بين الجيش الفرنسي والمقاومين المغاربة . كما كان لهذه الأسرة إشعاع ديني كان أثره باديا على التكوين العلمي للمؤلف.
رأى سيداتي أباحاج النور سنة 1959 بكلتة زمور على مسافة 200 كلم جنوب شرق العيون . بعد ولادته استقر والده ، الذي كان يمتهن التجارة ، في بلدة بئر أم كرين في الشمال الموريتاني.
في سن الثالثة عشرة سيعيش الطفل سيداتي ، وهو بعيد عن أسرته، مغامرة تكاد لا تصدق ، وربما كانت تنبئ بالمسار المتميز الذي ينتظر هذا الطفل . فمن أجل متابعة دراسته كان يتعين عليه القيام برحلة طويلة من بئر أم كرين إلى الطنطان.
الرحلة التي تم خلالها قطع مئات الكيلمترات في أراضي ثلاث دول هي موريتانيا والجزائر والمغرب ، والتي كانت على متن سيارة " لاندروفر" ، وفي فصل شديد الحرارة ، كانت مضنية وانطوت على العديد من المخاطر ، ووضعت على المحك هذا الطفل الذي لم يكن عمره يتجاوز الثالثة عشرة.
خلال الحديث عن هذه الرحلة العجيبة برع المؤلف في توظيف ملكته اللغوية والأدبية الرفيعة لوصف جغرافية المكان المقفر في الحمادة والأحوال النفسية للركاب التي كانت تتأرجح بين الخوف من المخاطر والأهوال والأمل في النجاة منها.
وبعد وصوله إلى طنطان وقضاء سنته الدراسية الأولى قرر سيداتي زيارة عائلته في بئر أم غرين ، لكن سلطات الاستعمار الاسباني رفضت السماح له بعبور الساقية الحمراء ووادي الذهب للتوجه إلى موريتانيا .
ونتيجة لذلك اضطر للتوجه إلى الرباط للحصول على وثيقة من السفارة الموريتانية تتيح له التوجه جوا من الدار البيضاء إلى نواديبو، لأنه لم يكن يتوفر على جواز سفر بسبب صغر سنه
ففيما يشبه مقتطفا من رواية ، يقول المؤلف وهو يحدث نفسه وهو على متن الطائرة : " هل صحيح أنني خلال سنة واحدة عبرت لوحدي وأنا الطفل ذو الثلاثة عشر ونيف حدود ثلاث دول واستعملت لوحدي وسائل نقل يصعب أن يستعملها طفل في سني(...). وهل صحيح أيضا أنه خلال سنة واحدة عبرت الفيافي وكدت أموت عطشا".
وخلال عطله الصيفية التي كان يفضل أن يقضيها بالطنطان حيث يوجد بعض أفراد عائلته كان المؤلف شاهدا على الأجواء المشحونة التي كانت تعرفها الأقاليم الجنوبية للمملكة، بسبب اعتداءات عناصر "البوليساريو" المنطلقة من الجزائر ضد التراب المغربي . ويحكي أنه في هذه الأجواء ، كاد أن يزج به في السجن بسبب العثور بحوزته وهو في المطار على رسالة كلف بإبلاغها لأحد الأشخاص.
لم تعد الدراسة في الطنطان تلقى هوى في نفس الطفل سيداتي، فقرر الانتقال إلى ثانوية القاضي ابن العربي بتطوان ثم ثانوية القرويين بفاس. وخلال دراسته في هاتين المدينتين بدأ الشغب النضالي لسيداتي الذي كاد أن يتسبب في طرده من الدراسة.
وبعد حصوله على الباكالوريا التحق أباحاج بكلية الحقوق بفاس التي قضى بها أربع سنوات ، كانت فرصة له لتعميق معارفه وثقافته والاطلاع على فكر الجابري والعروي وغالي شكري وغيرهم.
وخلال دراسته الجامعية تجنب الشاب سيداتي الانخراط في النضال الطلابي خشية اعتقاله واتهامه بالنزعة الانفصالية . وبعد حصوله على الإجازة التحق بسلك المحاماة بأكادير التي قضى بها فترة قصيرة، قبل أن يختار الالتحاق بالمعهد الوطني للدراسات القضائية. وبعد التخرج من المعهد عين نائبا لوكيل الملك بالداخلة.
عن هذا المنعطف في حياته يقول المؤلف " طويت صفحة من حياتي وفتحت صفحة مغايرة للصفحة الأولى تماما ، لقد وضعت قدمي على الدرج الأول لولوج مهنة عظيمة اسمها القضاء".
كانت مسيرة المؤلف في سلك القضاء، التي ناهزت ثلاثة عقود، حافلة بالأحداث والمواقف التي كشفت معدن الرجل . ويمكني أن ألخص شخصية الرجل بالقول إنه كان صارما في المبادئ ومرنا في التعامل.
فخلال هذه المسيرة التي انطلقت من الداخلة كنائب لوكيل الملك وانتهت بالحسيمة كوكيل عام للملك ، مرورا بكلميم وسوق أربعاء الغرب وطنجة وتطوان ، واجه سيداتي أباحاج مواقف وقضايا شائكة كان دائما يعالجها بحكمة وكفاءة .
وحكى المؤلف أن من بين هذه القضايا ، التي تعامل فيها مع مسؤولين كبار، قضية أحداث شغب وقعت في سوق الأربعاء وكان من نتائجها حضوره للقاء عاصف بوزارة العدل، وواقعة اعتقال ركاب طائرة فرنسية صغيرة ببلدة أوسرد، وظهر فيها صراع نفوذ بين مسؤولين مغاربة كبار ، واعتقال شخص أمريكي بتهمة زعزعة عقيدة مسلم، وتدخل وزير مثير للجدل في القضية، واعتقال مهرب مخدرات مغربي شهير تحت إشراف وزير قوي، وإجراء حوار مع ممثلي السلفية الجهادية في السجن، بتعليمات من مسؤولين كبار.
نجاح الأستاذ أباحاج في عمله في القضاء ودماثة أخلاقه، جعلاه يحظى بمهام تمثيلية هامة، حيث تم انتخابه رئيسا للمكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بتطوان وعضوا بالمجلس الأعلى للقضاء . وقد برهن في هذا المجال عن روحه التطوعية وتأكدت الثقة التي يحظى بها من لدن زملائه القضاة . ومع أن هذا النشاط تطوعي، إلا أنه لم يخل من دسائس ، كما يقول المؤلف.
ضمن المؤلف سيرته الذاتية العديد من الطرائف التي تجعلها أكثر إمتاعا، أذكر منها قصة أحد القضاة الذي قضى بمحكمة الاستئناف بالعيون ساعة واحدة. وقدم طلب الانتقال منها بعد عشر دقائق من التحاقه بها ، وهو ما يمكن تسجيله في كتاب كينيس للأرقام القياسية.
طيلة مسيرته المهنية ظل الأستاذ سيداتي شديد الحرص على احترام القانون ومناهضا لخرقه . فهو ، مثلا ، لم يتردد في الاحتجاج على عنصر أمن عنف معتقلا وعلى مسؤول قضائي صفع متهما
الأستاذ أباحاج لم يقبل أبدا بأن يمس بكرامته أي مسؤول مهما علا شأنه. ويحكي ، في هذا الباب ، أنه انتفض بقوة في وجه كاتب عام لوزارة العدل وعلى وكيل عام للملك ، لم يعاملاه باحترام
في آخر منصب قضائي يتولاه، وهو منصب وكيل عام للملك بمحكمة الاستئناف بالحسيمة ، بدأت الرياح تجري بما لا تشتهي سفينة الأستاذ أباحاج . فبسبب بعده عن أسرته بطنجة واضطراره للتنقل الدائم طلب الانتقال إلى تطوان أو مدينة البوغاز . لكن طلبه قوبل بالرفض.
وما زاد الطين بلة ، عزم وزير العدل آنذاك ، أي في سنة 2015 ، على إصدار قانون يمنع القضاة من الالتحاق بسلك المحاماة بعد تجاوز ال55 سنة ، وهو ما قد يحرم الأستاذ أباحاج ، الذي يشارف هذا السن ، من الالتحاق بهذه المهنة.
وقد كشف المؤلف عن وجود بعض "مراكز القوى" في الوزارة التي لا تبدي ارتياحا لأي مسؤول قضائي يتحلى بالاستقلالية والنزاهة ، وأكد أن تأثير هذه المراكز لم يسلم منه أي وزير عدل مهما كانت توجهاته. وقال إنه لم يكن شخصيا محبوبا من طرف بعض هذه المراكز لأسباب تعود لما تعتبره "عدم مرونته أو تمرده".
كل هذه العوامل تضافرت لتجعل الأستاذ أباحاج يفكر في الترجل من قطار القضاء دون انتظار بلوغ المحطة الأخيرة . "لقد وصل السيل الزبى ونفد الصبر وتهاوت الرهانات "، يقول المؤلف
كانت آخر فرصة للأستاذ أباحاج للتراجع عن فكرة مغادرة القضاء هي عقد لقاء بوزير العدل في نهاية سنة 2015 لتلقي إجابات عن انشغالاته. هذا اللقاء الذي كان مطولا لم يكن مجديا في تقدير الأستاذ أباحاج.
" "استقليت سيارتي ، يقول كاتب السيرة الذاتية ، منطلقا من مرآب وزارة العدل متجها إلى الطريق الدائري ومنه إلى الطريق السيار المؤدي إلى مدينة طنجة (...) لقد وفر لي طول المسافة بين الرباط وطنجة فرصة النبش في الذاكرة عما قدمته لي تجربتي التي قاربت الثلاثة عقود في مهنة عظيمة مثل مهنة القضاء، فوجدت أن عملي في حقل القضاء علمني الشيء الكثير، وأن فضله علي قد لا أوفيه حقه من العرفان.
"لقد علمتني العدالة ، يضيف المؤلف ، ألا أتسرع في تصديق الطرف المبادر إلى التظلم حتى ولو جاء بعين مفقوءة تنزف دما. وعلمتني ألا أغتر بالمظاهر والقشور . فقد تخفي المساحيق تحتها وجها بشعا مغايرا للمظهر . وعلمتني أن أتحمل غضب المظلوم لأن تلك وسيلته في إيصال صوته".
بعد أخذ ورد وتفكير عميق قرر الأستاذ أباحاج ، في نهاية سنة 2015، تقديم طلب الحصول على التقاعد النسبي. بعدها بأيام توصل بقرار قبول هذا الطلب الذي كان بطعم الاستقالة
بعد هذا المسار المشرف في سلك القضاء ، أدى الأستاذ أباحاج ، في نهاية شهر فبراير من سنة 2016 القسم كمحام بهئية طنجة إيذانا ببدء مسيرة مهنية جديدة.
إن السيرة الذاتية للأستاذ سيداتي أباحاج لم تكن مجرد مذكرات ، بل كانت كذلك وصفا لرحلة في الزمان والمكان ضمنها المؤلف معطيات تاريخية وجغرافية وبشرية عن المحطات التي مر بها . ففي كل محطة من محطات هذه الرحلة يتحدث بأسلوب شيق ولغة سلسة واضحة عن اقتصاد وعادات وحياة سكانها متوسلا في ذلك ببعض أدوات الصحافي والمؤرخ ورجل الاجتماع.
وقد قدم المؤلف على الخصوص معلومات قيمة عن عادات المجتمع الصحراوي وعن علاقاته الأسرية القوية التي رافقته طيلة رحلته . فقد تحدث بالخصوص عن روابطه القوية بوالديه وأقاربه وعن بعض أفراد قبيلته من بينهم على الخصوص العلامة الشيخ لاراباس بن الشيخ محمد الأغضف وهو أحد أعلام القضاء المغربي والذي كان بمثابة أبيه الروحي.
وفي الشق المهني يقدم لنا المؤلف نظرة من الداخل لجهاز القضاء والعلاقات المتشعبة بين الفاعلين فيه من جهة وبينهم وبين محيطهم من جهة أخرى.
في ختام هذه القراءة أود أن أهنئ المؤلف على هذه السيرة الذاتية التي ستلقى بكل تأكيد قبولا وخاصة في أوساط القضاء. وآمل أن تتاح له ، بعد عمر طويل إن شاء الله ، فرصة كتابة مذكرات تتناول مسيرته الجديدة في سلك المحاماة".