حكى الفنان بوشعيب ناجد الجديدي لجريدة "أنفاس بريس" في الحلقات السابقة من هذه السلسلة عن حقيقة سبب نزول كتابة نص أغنية (تْزَوَّجْ مَا قَالْهَا لِيَّا)، وكيف تمرد على موقف والده "الطّْرَابْشِي" بخصوص عشقه للموسيقي والغناء رغم المعاناة. وانقطاعه عن الدراسة. ورفضه العمل في بعض ورشات تعلم المهن والحرف. وغصنا مع الفنان بوشعيب الجديدي وسط أمواج بحر بدايات سيرة حكايته الفنية الشيقة والمدهشة، بعد تمكنه من تملك ناصية العزف والغناء والطرب. انتهاء بصداقته مع عامل إقليم الجديدة آنذاك بفعل علو كعبه الفني رغم حداثة سنه. هكذا سافر بنا مع القراء في رحلة للديار الفرنسية باحثا عن العمل رفقة خمسة موسيقيين من أصدقائه.
فكيف سينتهي به حال المقام هناك في بلاد الغربة بعد أن انقلب عليه الزعيم الضرورة (ن/م) رئيس الفرقة بفرنسا وكيف هي بقية الحكاية؟.
بوشعيب الجديدي ناجد يواجه الموقف الصعب بالقرار الشجاع
بعد طرده من طرف الزعيم الضرورة (ن/م) أمام أعين أعضاء الفرقة الموسيقية الذين اختاروا الصمت، قرر الفنان بوشعيب ناجد الجديدي البحث عن مكان آخر للسّكن، حيث طلب من صديقه "الفنان فتحي" أن يبحث معه عن أرخص فندق للإستقرار به ويساير طروف الحياة في أرض الغربة إلى حين أن يظفر بعمل بفرنسا.
طرده من البيت بتلك الطريقة المهينة، كانت لحظة عصيبة امتزج فيها الحزن بالألم، حيث أحس فيها الفنان بوشعيب ناجد بالظلم والحركة، واستحضر خلالها مشواره الفني مع الفرقة الموسيقية التي أعطاها الشيء الكثير على مستوى فرض الذات بمدينة الجديدة، لذلك لم يتردد في كراء غرفة بالطابق الأخير بأحد الفنادق الذي لم يتبقى منه سوى الإسم.
إقامة مؤقتة بغرفة مرعبة داخل فندق متهالك وبئيس
يحكي الفنان بوشعيب ناجد وهو يصف غرفة الفندق التي سيقيم بها بقوله: "كان الحزن يتملكني بذلك الفندق المرعب والمخيف، كان درج الفندق مصنوعا من الخشب (الُّلوحْ) الذي أصيب بالتسوس...درج متهالك بفعل التقادم والإهمال، وكان المشي فوقه للصعود للغرفة المتواجدة بالسطح يحدث صوتا يوحي بأنه قابل للسقوط و الإنهيار في أي وقت. أما الغرفة التي اكتريتها يومئذ بسعر(45 درهم لليلة) فقد كانت مهملة جدا إلى درجة أنها شبيهة بزنزانة. غرفة لم يتبقى من سقفها إلا القليل. وكان ينبعث من مساحتها الضيقة رائحة تخنق الأنفاس بفعل احتلالها من طرف الجردان والفئران التي تتحرك بحرية. أما نوافذها فكانت بدون زجاج، دون الحديث عن جنباتها التي عششت فيها الطيور، و امتلأت ببقايا نفايات (بْزَقْ) الْحَمَامْ الذي حولها وكرا ومستقرا آمنا...". وأضاف موضحا بأن مقامه في تلك الغرفة البئيسة يذكره بـ "سريرها وأغطيتها المتسخة التي تبعث على التقزّز والإشمئزاز".
الموسيقى تصنع الرجال وتبني المواقف
عن تدبير متطلبات العيش بفرنسا خلال عزلته وطرده من البيت من طرف (ن/م) الزعيم الضرورة رئيس الفرقة هناك أوضح قائلا: "لم أتردد في استغلال أوقات اشتغال الميترو (ميترو بلاس غامبيتا) الذي يمر بالقرب من الفندق البئيس، حيث كنت أضع نظارات سوداء وأطلق العنان لأناملي لتسافر بالناس وتحلق بهم عبر أجنحة تقاسيم الكمان الساحر، فكانت النقود تتساقط داخل حقيبة الكمان وبطائق الزيارات ورسائل التنويه والإعجاب".
يسترجع ضيف الجريدة بوشعيب ناجد ذاكرته الفنية ليحكي عن أول عمل قام به رفقة أعضاء المجموعة الموسيقية بفرنسا بأحد فضاءات التنشيط الموسيقي المملوك لبعض اليهود المغاربة بقوله: "كان صديقنا فتحي قد وجّهنا في بادئ الأمر إلى إحدى فضاءات التنشيط الموسيقي التي يسيرها بعض اليهود المغاربة، حيث قدمنا عروضنا الفنية التي أبهرت الجمهور، وخاصة مدير الملهى الذي سارع إلى فتح نقاش معي شخصيا وطلب مني أرقام مقاسات ألبستي وحذائي حيث أحضر لي فورا حقيبة مملوءة بالألبسة الأنيقة الخاصة بي".
هذا الموقف الإنساني من مدير الملهى تقديرا للفنان بوشعيب الجديدي استفز رئيس الفرقة الزعيم الضرورة (ن/م) الذي طالب باقتسام محتويات حقيبة الملابس الأنيقة والجميلة التي تليق بفنان يقدم عروضه أمام الجمهور، (دون تبرير منطقي ومقنع) علما أن كل مقاسات الألبسة والحذاء لا تناسب إلا الفنان بوشعيب ناجد الذي أهداه اليهودي المغربي حقيبة الملابس الخاصة به بعد أن ضبط مقاساته.
التمرين الموسيقي الذي أسقط القناع
ومن بين حكاياته ذات الصلة بحقد رئيس الفرقة الموسيقية الزعيم الضرورة (ن/م) نظرا لضعف مستواه الفني عزفا وأداء، وكيف كان يفرغ اتجاه بوشعيب ناجد الجديدي حقده الدفين يقول ضيف الجريدة : "إحدى المرّات كنت أتمرن بآلة العود على مقطوعة للفنان الكبير سَيَّدْ مَكَّاوِي (يَا حَلَاوْتِي الدُّنْيَا يَا حَلَاوَةْ) وكنت أعيد ترديد موالها الصعب فإذا به يفتح باب الغرفة ويصيح في وجهي متهكما وهو يقول: "هل تريد أن تقلد هذا الفنان الكبير؟ لا يمكنك أن تؤدي قطعته الغنائية والموسيقية؟". مما اعتبره الفنان بوشعيب تضييقا واستفزازا نابع من قلب يحمل الضغينة والحقد.
محاولة إعادة خرير مياه الموسيقى إلى طبوعها وموازينها
وبالعودة إلى استقراره بغرفة الفندق المتهالك، وبعد مرور أربعة أيام جاء عنده صديقه فتحي منظم الحفلات ليطلب من الفنان بوشعيب ناجد إقامة صلح بينه وبين الزعيم الضرورة (ن/م) والعودة للعمل بشكل جماعي حيث أوضح له قائلا: "شُوفْ سِّي بُوشْعَيْبْ، أَناَ عَارَفْ بأن الفرقة الموسيقية بدونك لا تساوي شيئا. ولا يمكن لهم تقديم عروض موسيقية في غيابك. سنحاول أن نعيد المياه إلى مجاريها لتستمر المجموعة في العمل بفرنسا. لذلك سأنقلك معي للحديث في الموضوع مع (ن/م)".
في هذا السياق تقدم (الفنان فتحي) بسؤال مباشر للفنان بوشعيب ناجد حول أسباب حقد رئيس الفرقة (ن/م)، حيث أوضح له بالتفاصيل المملّة كيف كان يتعامل مع الفرقة بمدينة الجديدة لما كان يقوم بدور رئيسها الصّارم والمجدّ في ما يتعلق بضبط المقامات والإيقاع والأوزان والعزف والغناء أثناء التمارين وخلال مناسبات تقديم الحفلات والسهرات، خصوصا أن الأطباق الموسيقية والغنائية التي كان يشتغل عليها بوشعيب ناجد الجديدي كلها تمتح من ينبوع قطع عمالقة الطرب العربي من أمثال (فريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ..) فضلا عن المقطوعات الغنائية المغربية الأصيلة والغناء الشعبي المغربي الأصيل.
"كل محاولات صديقنا فتحي في الصلح وإعادة المياه إلى مجاريها الصافية لم تثمر أي نتيجة تذكر بعد أن رفض الزعيم الضرورة (ن/م) رئيس الفرقة الموسيقية رجوعي ضمن أعضاء المجموعة واستئناف نشاطاتنا الفنية بالمقاهي الليلية وفضاءات التنشيط الموسيقية حيث قال له وأنا أسمع (والله العظيم لن يعود بيننا فليذهب حيث يشاء)". يقول الفنان بوشعيب الجديدي ناجد.
عودة الفنان بوشعيب إلى مدينة الجديدة
في هذا السياق وبعد قضائه 35 يوما بفرنسا قرر ضيف الجريدة أن يغادر ترابها بسبب (ن/م) ويعود للمغرب بين أحضان عائلته بمدينة الجديدة حيث أقلّه صديقه فتحي منظم الحفلات إلى محطة القطار و ودعه على سبيل اللقاء في قادم الأيام: "كانت ثلاثة أيام بلياليها تلتهم ساعاتها الطويلة والمملّة عجلات القطار الحديدية. كنت أنام وأستيقظ على وقع مشاهد وصور ما وقع لي مع (ن/م) وكيف تعامل معي بحقد وكراهية في ديار الغربة. وكانت وجوه المسافرين بمختلف أشكال سحناتها وتجاعيدها تتبدل وتتغير من محطة إلى أخرى وتحكي سيرة الإنسان في هذا الكون، وكنت بين الفينة والأخرى أستعيد شريط مساري الفني الذي بات بين قوسين أو أدنى بعد سفري وعودتي خاوي الوفاض".
حين وصوله في ساعة متأخرة بالليل بعد ثلاثة أيام من السفر على متن القطار من فرنسا صوب المغرب ومن شماله إلى مدينة الجديدة طرق باب والده "الطّْرَابْشِي" الذي استفاق مذعورا رفقة زوجته ليجدا بوشعيب الشاب الفنان متسمرا أمام الباب حيث استعاد شريط السفر والعودة بعد أن حكى لهما كل ما وقع مع (ن/م) وأعضاء الفرقة التي فرطت في وصايا والده وعاملوه معاملة لا تليق بفنان يبحث عن موقع قدم في مجال الموسيقى والغناء.
بوشعيب الجديدي سائقا لتاكسي الأجرة الصغير
وجد الفنان بوشعيب عملا قارا من خلال تناوبه مع والده على سياقة تاكسي الأجرة الصغير بمدينة الجديدة، ولم تمر على عودته للجديدة خمسة عشرة يوما حتى عادة أحد العازفين بفرقة الزعيم الضرورة (ن/م) بدوره، وهو الفنان بوساليك محمد رحمه الله، الذي كان صديقا عزيزا على بوشعيب الجديدي حيث حكى له كل ما كان يخطط له (ن/م) وكيف كان يهدد أعضاء الفرقة بفرنسا بعد أن سيطر عليهم نفسيا وماديا بفعل الغربة والحاجة للعمل. و هكذا ستتوالى رحلة عودة كل أعضاء الفرقة من فرنسا تباعا إلى أن عاد الزعيم الضرورة (ن/م) بدوره لمدينة الجديدة.
يتبع