فقدت فلسطين من مركزيتها في استقطاب أنظار العالم، في زحام الفوضى التي تعيد خلق الشرق الأوسط، فتم تعويض الأهمية الاستراتيجية بالكثافة المأساوية، وسط الدخان، للتقتيل الجماعي.
لم تسترخ الأسطورة، في صناعة الكيان الفلسطيني، المصلوب منذ طريق الجلجلة، لكن الذي تثاقل في مرافقة وضوحها الدموي، هو الآلة الديبلوماسية: لم يقل لنا أحد من قبل أن الأسطورة سريعة للغاية في الوصول إلى ضمير العالم.
وأن العواصم، تكتشف، عندما يتعلق الأمر بمحرقة فلسطين، أن آلة الديبلوماسية أكثر بطءا من آلة الصعود إلى الزمن العالي في مديح الموتى...
ويحلو للعالم أن يحاول فك الشيفرة الوراثية للدم المترامي على ساحل غزة: هناك فرق كبير في الحمض النووي لدماء حماس، يختلف عن الدم النووي للقتيل الصبي، وهي محاولة أسطورية بامتياز تجد دوما من يصدقها في العالم، وفي الطبقة السياسية العربية.
وحقيقة الكارثة أنه يصعب حقا أن نفك الدم عن صنوه الدم، وأن نفك الأصابع التي تشد الرمل بعد سقوط الصواريخ على طفل يتباهى بطفولته النقية على رمال شاطيء.. يتمدد كحبل غسيل للأشلاء المتقطعة. ويصعب، أيضا، أن نصدق أن كل هذا الجحيم مخصص لتطهير التوازن الإقليمي من قتلى حماس ومن مجانينه.
أولا، لنقلها بكل وضوح، الدفاع عن حماس هو جزء اليوم من الدفاع عن فلسطين، لا لأن الفصيل الإسلامي، والإمتداد الإخواني في القطاع استطاع أن يضع القضية، بعد عربون دم باهظ، في قلب الحدث الشرق أوسطي، بل لأنها تستحق جدارة الموت من أجل قضية شعبه تماما كشعبه، وتماما ككل الفصائل.
ومتوهم من يعتقد بأن القضاء على حماس اليوم، كما في محاولة القضاء على حزب الله في حرب 2006 سيطهر الخارطة السياسية للصراع من آخر عناصر التجذر و الراديكالية.
هذا وهم ثبت منذ الانتفاضة الأولى أنه غير قائم على الإطلاق، وغير وارد، وأن رحيل رجل ثابت في البركة الدموية التي تسمى الشرق الأوسط، بجدارة أكبر بالتقتيل الإسرائيلي يفتح الباب لمن هو أكثر انغلاقا وأكثر ابتعادا عن الحل السياسي.
لنتذكر: كانت في البداية قصة الطفل الفلسطيني الذي يحمل حجرا، إسوة بداوود الإسرائيلي في القصة التوراتية وهو يقذف به ضد جالوت.. الطفل الذي أدخل إلى قاموس العالم «الانتفاضة» كشكل جديد نحو الحرية. وقتها قيل بأن الفلسطينيين يجاورون الموت عن قرب، وأن الحجر الأخلاقي في القضية أوسع بكثير من جبة الجندي المحتل، وبأن طريق السلام صار أصعب.
بعد الانتفاضة بالحجر، وتسليح الانتفاضة في مرحلة ثانية.. جاءت الصواريخ بأسمائها العربية والفارسية، و لم تقف المواجهة ما بين الحجر والكلاشنيكوف، وتركت أغنيات الآربيجي، في قصائد مجموعة العاشقين، مكانها لتراتيل فجر والقسام، كمنوعات صاروخية على الخيار الأكثر راديكالية..
بعد الانتفاضة، حل الشبح العسكري، الذي يفرض على الجندي الإسرائيلي أن يقتل الجيل الأول من المدنيين، لكي يصل إلى جيل الثاني من الذين ولدوا بعيدا عن ذكريات الانتفاضة (أعمار الأطفال الذين سقطوا تصل أحيانا 4 و5 سنوات).
ولم يستطع الجندي الإسرائيلى، المسلح بطبقة مسلحة من الصمت العالمي أن ينتصر على الانتفاضة الأولى.. إلا بالتقتيل العسكري، وليس الأمني لأطفال فلسطين.
ومن يستطيع أن يقول إن مواجهات الشعب الفلسطيني ستقف اليوم عند الحد الذي يطلبه العالم من الضحية: الجلوس إلى التفاوض بعد أن تكون الدبابات قد فعلت فعلتها في شوارع غزة؟
من يستطيع أن يتنبأ بأنه بعد الصواريخ لن يبدع الفلسطيني إبداعات أخرى في القتال (والموت أيضا)، أو لا يبدع ما يجمع بين الحجر، وجسده.. وصاروخ غراد؟
إسرائيل لم تحترم الفلسطيني العاقل، الذي يحب السياسة، كمرادف للحياة الممكنة في جحيم الأراضي المقدسة، ولم تستمع للذين تراجعوا كليا عن خيارات المقاومة، ولا إلى الديبلوماسي الذي يحرص على الابتسامة أكثر من حرصه على.. بنود السلام أو قرارات الشرعية الدولية لفائدة شعبه، لكي لا تبرر، لماذا لا تحترم اليوم الفلسطيني المسلح أو الراديكالي.
لنخرج من هذا الإلتباس: حماس، لا تريد نشر الإسلام في حدود 48، ولا تريد أن تقيم الجزية على يهود بني النظير في تل أبيب، ولا حتى أن ترسل آيات من الذكر الحكيم إلى أبناء مناحيم بيغين لعلهم يتذكرون الكتاب، حماس، اليوم، في جحيم تصبه عليها دولة محتلة، وهي إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة تسلم جسدها إلى القصف.
وحماس لا تحلم بدولة المؤمنين في شوارع الشجاعية، بل تحلم بشارع لا تقلد فيه القنابل الأمطار الاستوائية.
وشرفة على شاطى لا يموت فيه الأطفال..
للعقل الاستراتيجي أن يرتاح قليلا، احتراما للدم، احتراما للفارق المهول بين الضحية وبين القاتل، وبين مشروع ينبت بين التلمود مدججا بالسلاح والصمت العالمي وقوة الشبح النووي، وبين سقف ينهار على أصحابه، بالرغم من الفارق بين القامات..
الهجوم على فصيل مقاوم اليوم، سواء من زاوية الانتماء الإخواني أو.. المشروع الإقليمي، ليس هجوم شرف في الواقع. ولا يمكن، بأي مسوغ كان، أن يبرر القتل الإسرائيلي سياسة التقرب من العود الذي يقتل، لكي نبرر، بالإيديولوجيا ابتعادنا عن مقاتلي حماس.
ليس هناك مسوغ أخلاقي أو ذكاء سياسي يجعل بنيامين نتانياهو أقرب إلينا، في تحليل الوضع من خالد مشعل، كيف ما كان الصراع، حين تسكت المدافع، مع قيادة حماس.
ولعل من حسنات الأسطورة أنها توحد الدم في طريق الألم. وإن لم يتوحد الجسد كله في الطريق إلى الديبلوماسية، في القاهرة أو في أنقرة...
كتاب الرأي