انعقدت قمة العرب في جدة (19 ماي) ولم تدم أشغالها إلا جلسة واحدة، خلالها طلب ممن رغب في الكلام ألا يتعدى تدخله بضع دقائق... فاجأ ولي عهد السعودية الحضور بالإعلان، فور انتهاء الخطب، عن اختتام أشغال المؤتمر بعد المصادقة على «نداء جدة .... فوراً تسابقت الوفود إلى المطار..... وقيل الحمد لله.
كواليس الإعداد
انعقدت القمة في بيئة دولية اتسمت بالعنف وتقلب التحالفات......
- تجلى ذلك في ضراوة حرب حشد لها الغرب، بزعامة أمريكا كل قواته لهزيمة الجيش الروسي بعد هجومه على أوكرانيا.... أوروبا الديمقراطية هي القارة الوحيدة التي كانت سببا في نشوب أعنف الحروب وأكثرها فتكاً وقتلا ودماراً، آخرها الحرب في يوغوسلافيا وما تميزت به من جرائم ضد الإنسانية.
- أيضا، اتسمت القمة، بحضور إيراني وراء الكواليس، أما على الواجهة فتجلى ذلك بمشاركة بشار الأسد القادم من بلاد نصف مليون قتيل وملايين النازحين ودمار معظم المدن السورية وعشرات الآلاف من سجناء الرأي... قد يكون هذا الحضور نتيجة اتفاق مفاجئ برعاية صينية.
- وأخيرا انعقدت القمة وأمريكا تجمع حقائبها للرحيل عن شرق أوسط لم يعد من أولوياتها بعد أن فشلت دباباتها في فرض «النموذج الديمقراطي .... وقبل الوداع ألحت أمريكا على دعوة الأوكراني زيلينسكي الذي خطب ليقول للعرب... «لستم متفقين على دعم بلادي وهي تتعرض لعدوان روسي».
كلام جميل
هذه الخلفية كانت حاضرة في أجواء القمة، لكن لا أحد تجرأ على إثارتها.. ذلك أنه رغم استمرار «الحرائق» في عدد من البلاد العربية وآخرها السودان فإن الكلمات كانت في معظمها «سمن على عسل» حتى يخيل للمرء أنه يتابع أشغال قمة للدول الإسكندنافية... والمتابع للتدخلات يخرج بحصيلة مفادها أن اتفاقاً ضمنيا حرّم استعمال كلمات .... «الديمقراطية .... الانتخابات النزيهة.. إطلاق سراح سجناء الرأي.... احترام حقوق الإنسان... وبالتالي قد يستنتج الملاحظ أن القوم «شرعنوا العنف» لإخماد الحراكات الشعبية» ووأد ما تبقى من الربيع المشؤوم».. والسؤال هل يمكن اعتبار كل هذا جواز مرور المزيد من القمع وخنق الحريات بدعوى الاستقرار» والباقي يمكنه الانتظار.
للذكرى فقط
أذكر عدة مؤتمرات عربية قمت بتغطية أشغالها... كانت ظروف انعقادها لا تخلو من توتر ونقاشات حادة ومعارك سياسية قوية....
حدث ذلك ( في أكتوبر (1974) في قمة العرب في الرباط، حيث تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفليطينية، ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.... وبهذه الشهادة» توجه ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة، على متن طائرة مغربية، ليقول للعالم... جئت أحمل البندقية وغصن الزيتون...... في فاس وفي دورتين سنتي ( نونبر 1981 وشتمبر (1982 انعقدت قمتان عربيتان بلغت درجة المواجهة فيهما حد قول الحسن الثاني لوزير خارجية سوريا عبد الحليم خدام يا أبا جمال مطار فاس غير بعيد عن مقر اجتماعنا.... كان هدف اللقانين دراسة ما سمي بمخطط الملك فهد للسلام... وبعد تعثر اللقاء الأول عاد الرؤساء إلى لقاء ثاني تمكنت بينهما إسرائيل من احتلال نصف لبنان ومحاصرة بيروت... في مذكراتي تفاصيل مثيرة عن ماجريات أشغال قمتي فاس.....
في الدار البيضاء (غشت 1989) أذكر قمة العرب وهي تناقش بحدة الموضوع الرئيسي لانعقادها في إطار محاولة استعادة لمقعدها في الجامعة العربية... بعد جهود مضنية للملك الحسن الثاني عادت إلى الجامعة، وعادت الجامعة إلى مصر بعد فترة قصيرة استقرت خلالها في تونس....
الغليان
في الشرق الأوسط اليوم سباق لترسيم توازنات جديدة وتحالفات ممكنة وقد تكون مفاجئة... إسرائيل القوة المتعجرفة غارقة في مستنقع اليمين المتطرف... إيران القوة الصاعدة، تمسك شعبها بين مخالب «الآيات» المتخلفين... هي في طريقها إلى القنبلة النووية... مصر غارقة في الأزمات الاقتصادية والسياسية ومعضلة سد النهضة... تركيا حالمة بإحياء أمجاد الإمبراطورية» وأخيرا السعودية بعد أن أنهكتها الحرب على اليمن تبادر على عدة أصعدة، وتدخل السباق على الريادة.... لابد من زيادة الإمارات ونفوذها الاقتصادي ومخابراتها ثم قطر وجزيرتها الإعلامية المتهالكة... العلاقات بينهما تحكمها منافسات ذات جذور تاريخية وقبلية.... ستعيش المنطقة إذن وسط هذا الصراع فترات اصطدام وفترات هدوء، لينتهي الأمر إلى توازن هش ومؤقت سينتج عنه زوابع واضطرابات قد تعصف ببعض الأنظمة.
سياسة الأءات
ما هو مؤكد هو أن لقاء جدة فتح المجال أمام بحث صعب عن التوازنات والأحلاف إذ لم يعد أي شيء مستحيلا القمة أسقطت الأءات الأمريكية الثلاثة... « لا تطبيع مع سوريا وإيران... لا إلغاء للعقوبات.... لا مساهمة في إعادة التعمير... هذه الوضعية ذكرتني بلاءات الخرطوم الشهيرة خلال قمة العرب عقب هزيمة حرب يونيو شتمبر (1967) لا للتطبيع مع إسرائيل... لا للاعتراف بها... لا للمفاوضات معها...... والسؤال أين نحن اليوم من لاءات الخرطوم وكيف سنكون غداً من لاءات واشنطن؟
في المغارب أيضاً
في هذا الوقت تعيش البلاد المغاربية بعيدة عن هذه التحولات تعاني من مشاكلها نتيجة حرائق تواصل جزائر العسكر إشعالها في إطار منافسة بليدة ومتخلفة، بحثا عن قيادة مغاربية» هي غير مؤهلة لها ولا قادرة على ممارستها... ذلك أن الشعوب المغاربية ثواقة إلى الحكمة والتنمية... لكن في منطقتنا خطر العسكر الحاكم والمتحكم في رقاب شعب بكامله ينذر بمزيد التصعيد.... العرب هكذا في المشرق والمغرب في أزمات متلاحقة وصوت الحكمة مطلوب ومغرب محمد السادس مؤهل لذلك.