الجمعة 7 فبراير 2025
سياسة

إبراهيم بلالي اسويح: دبلوماسية الحبلين تعزل فرنسا في ملف الصحراء المغربية

إبراهيم بلالي اسويح: دبلوماسية الحبلين تعزل فرنسا في ملف الصحراء المغربية إبراهيم بلالي اسويح والرئيس الفرنسي امانويل ماكرون
ثمة ما يثير التساؤل عند سبر  أغوار تجاذبات بين المغرب وفرنسا مافتأت ترخي بظلالها على العلاقات الدبلوماسية، بلغت من الضبابية حدا ينذر بأن هذه المرة هناك مخاض لولادة علاقة جديدة بين الرباط والاليزيه مرتهنة لمنظار كلا البلدين وبورصة المؤشر الجيوسياسي الإقليمي والدولي.

فتصريح  السفير الفرنسي السابق المعتمد في الأمم المتحدة "جيرارد ارود" باتهام المغرب باستعمال ورقة الابتزاز، يندرج في هذا السياق المتسم باتساع دائرة الخلاف غير المسبوق ولا يمكن أيضا أن يكون سلوكا متفردا عن ذلك الفتور المهيمن على التقارب الموروث عن حقبة استعمارية ديغولية تقسم بموجبها العالم إلى مناطق نفوذ، كانت لفرنسا اليد الطولى في أفريقيا، وتحديدا بالشمال والساحل الغربي.

الأزمة الفرنسية المغربية لم تصل في الواقع إلى الدرجة التي يمكن معها القول بإمكانية حدوث القطيعة، بل إن ذلك من باب المحال في السياسة والإدارة بالمغرب، وكذلك الأمر بالنسبة لفرنسا، إذ تجمعهما علاقة متشابكة، لكن تضرر العلاقات بين الفينة والأخرى يذكي الوعي مجتمعيا في المغرب، ويوجهه ضد المنافع التي تجنيها فرنسا منه، وضد وضعية الامتياز التي تنالها في الاقتصاد والثقافة وغير ذلك من أشكال الحضور على حساب أطراف ودول اخرى يمكن للمغرب أن يحقق معها علاقات يربح منها الجميع. 

من المرجح إذن أن هناك خلافا في الآونة الأخيرة سواء أكان صامتا أم ظاهرا للعلن في بعض المحطات، مما ينبئ بأن حبل الود مهدد تماسكه أمام هبوب رياح إعادة التوازنات العاتية على كافة جبهات النظامين العالمي والمحلي. 
 
قطار المتغيرات الاقتصادية الذي يجر معه الحسابات الجيوستراتيجية يسير بالسرعة الفائقة، والذي لم يعد يحتمل معه أي تأخير، ربما هو الذي دفع بالساسة الفرنسيين إلى تغيير نظرتهم الأمنية والعسكرية لمنطقة نفوذهم الإفريقي وترتيب جدوائية حضورهم المادي، في ظل التجاذبات الحالية المرتهنة على أساليب أكثر نجاعة، لبسط المنطق الجديد للرابحين عبر الشراكات الاستراتيجية، ولعل انسحاب قوات "با رخان" من مالي وما تلا ذلك من فشل في مقاربتهم الأمنية الكلاسيكية للمنطقة هو ما عزز اختراق قوى دولية جديدة لهذا الحزام الموروث لفرنسا. 
 
الادعاء بالابتزاز المغربي لفرنسا قد يكون له بالفعل ما يبرره في حالة أن علاقات الثنائية متكافئة وتخضع لنتيجة رابح  رابح أو حتى أن المغرب له قدرة لإلحاق الضرر بفرنسا ليتجاوز مصالح الشراكة إلى المصالح العليا في الأمن والاستقرار، وهو أمر يفنده واقع الحال عندما يتعلق الجوهر بمطالب تندرج في إطار الدفاع عن سيادته على وحدة ترابه. 
لقد تناولت وسائل الإعلام عديد القضايا الخلافية، ورغم حساسية ملف التأشيرات فإن تجاوزه لا يبدو مستعصيا على آليات احتواء المشاكل بين الرباط وباريس، كما أن تهمة التجسس الموجهة للمغرب على مؤسسات ومسؤولين ساميين بفرنسا بتطبيق "بيغاسوس" أعقبه إعلان لجنة التحقيق في برامج التجسس التابعة لبرلمان الإتحاد الاوروبي في تقرير مفصل، براءة المغرب من التهم التي وجهت إليه بل إن رئيس اللجنة الهولندي "جيرون لينرز" صرح بأنه لم يتم تقديم أي دليل يسند هذه التهم، وذلك بعد مرور اربعة أشهر لينجلي مدى الانزعاج الفرنسي من الحلفاء الجدد للمغرب ضمنهم إسرائيل المصدرة لهذه التكنولوجيا.

المراقبون يرجحون وجود عناصر خلافية أخرى أكثر عمقا بين البلدين، لكن أكثرها شيوعا النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية والمطالب المغربية بموقف فرنسي يقر سيادة المغرب على صحرائه بوضوح ليتطابق ليس فقط مع الشريك الاقتصادي الأول والتقليدي للمملكة، وهو ما يضفي على هذه العلاقة طابعا استثنائيا، بل لدورها في تسخير رصيدها الكولونيالي إلى جانب الإسبان في الطي النهائي لهذا الملف المفتعل. 
 
ذاكرة المقاومة بالصحراء لازالت تحتفظ بدور الطيران الفرنسي في قصف أعضاء جيش التحرير المغربي في العملية المعروفة "ايكوفيون " كما أن نفس الذاكرة تختزن أصل التصادم الجزائري المغربي مرده للخلاف حول ترسيم الحدود الموروثة عن فرنسا، التي كانت تراودها أوهام الخلود الاستعماري بالجزائر إلى ضم أجزاء من التراب المغربي بتندوف وكولومب بشار وهي الألغام التي انفجرت بعيد الاستقلال. ففرنسا حاليا تنشط بنادي أصدقاء الصحراء حيث التداول بشأن مستجدات النزاع المفتعل وكانت الرباط تعول على الموقف الفرنسي الذي كان في الغالب إيجابيا  ضد انحراف الوضع القائم كما هو الشأن في رفض الاقتراح بتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل حقوق الإنسان، التي كانت قد تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، إبان التداول حول قرار مجلس الأمن أبريل 2013.
 
نفس المنحى اتخذه الموقف الفرنسي في جميع قرارات مجلس الأمن المتعاقبة آخرها رقم 2654 أكتوبر 2022 إلى درجة وصفت  دائما  فرنسا بالمنحازة للطرف المغربي دون ان يزحزحها ذلك للخروج من  النطاق الرمادي للنزاع.  فرنسا ربما أدركت على غير السابق بأن قوة المغرب كامنة في إمكانياته ومساندة حلفائه الجدد في تأمين نقله إلى مصاف النفوذ الذي لا يستهان به.
 
توسع دائرة الاعترافات والمواقف المؤيدة لمبادرة الحكم الذاتي للعلن من قوى عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد ذلك إسبانيا وألمانيا والبرتغال وغيرها، ينذر بعزل فرنسا في زاوية اللعب على الحبلين التي تروم الإبقاء على وضع الجمود لمواجهة التحديات النوعية التي باتت تفرض على الدول الواقعة في المجالات الباردة للتعايش مع قدر الجغرافيا باستعجال البحث عن الطاقة وتأمينها مما كان له أثر إطلاق شرارة التنافس بين الدول المغاربية في إعادة حسابات التموقع ورسم خريطة التحالفات الجديدة التي  لم تعد تجدي  فيه نفعا عصا الوسطية الفرنسية للهروب إلى الأمام. 
 
من المرجح أن دينامية الشراكات الاستراتيجية للمغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد لا تحظى برضا الفرنسيين، ينضاف إلى ذلك الاهتمام المتنامي للانتيلجيسيا الغربية والامريكية بالتحديد (نخبة think tanks) والتي أصبح المغرب يحظى ضمن دهاليز سياستها الاستشرافية باهتمام متزايد، كما أن أوراش التنقيب المستمرة على الغاز والبترول بسواحل الصحراء المغربية وتوقعات التصدير الكبيرة للطاقة النظيفة تنذر بإعادة رسم هذه التوازنات. 

سعي فرنسا عن كثب للحفاظ على مكانتها في المنطقة أو على الأقل تقليل خسائرها الاستراتيجية، تبدو وكأنها تحت وطأة مزيد من الضغوط ولا سيما إذا صارت منفردة في غياب سياسة أوروبية منسقة وقد تحتاج إلى معجزة للحفاظ على لعبة التوازن المعقدة في علاقاتها مع الرباط والجزائر. 

أما هدوء الرباط وطول نفسها امام توالي أوراق الضغط الفرنسي الذي بلغ درجة دفع  البرلمان الأوربي إلى إشهار ورقة حقوق الإنسان، بل والتمادي في إدانة المغرب برشوة البرلمانيين الأوروبيين دون تقديم أدلة تسند هذا الادعاء، فلا نجد تفسيرا له خارج التقدير العميق لطبيعة التطورات التي حصلت على المستوى الدولي والإقليمي، ولتنامي الحاجة الأمريكية والأوروبية لدور المغرب في محيطه الإقليمي، اقتصاديا وتجاريا وأمنيا وعسكريا، بل ويبنى كذلك، وهذا هو الأهم، على معلومات دقيقة حول تغير المزاج الإفريقي العام تجاه النفوذ الفرنسي بالقارة، وتعاظم الشعور بضرورة إنهاء الهيمنة الفرنسية.
إبراهيم بلالي اسويح، محلل سياسي في الدبلوماسية والقانون الدولي