الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

حسن مخافي: السياسة بالمغرب.. الاستقطاب والاستقطاب المضاد

حسن مخافي: السياسة بالمغرب.. الاستقطاب والاستقطاب المضاد حسن مخافي
كثر الحديث في هذه الأيام عن مستقبل اليسار بعد لقاء بوزنيقة الذي يعد خطوة في طريق إدماج ثلاث هيئات سياسية تنتمي تاريخيا إلى اليسار المغربي، وفي ظل المرحلة الانتقالية التي يعرفها المغرب، والتي تكشفت ملامح الرغبة في تجاوزها من خلال "المشاريع السياسية" التي تتم الإشارة إليها كلما سنحت الفرصة لذلك.
ولعل ما يوحد تلك المشاريع، على اختلاف مصادرها ومرجعياتها، أنها تلح كلها على السير نحو تعميق الممارسة الديموقراطية بوضع آليات لتخطي الاحباطات والنكسات التي رافقت التجربة الديموقراطية بالمغرب منذ أواسط السبعينيات، والتي ما زالت تطل برأسها في كل موسم انتخابي، تأكيدا على "خصوصية" المسار الذي رسم للبلاد، والذي يؤدي إلى تبادل الأدوار بين "نخب" سياسية، بعضها أنهكه اليأس، وأصيب بالشيخوخة المبكرة، وبعضها يقض مضجعه الخوف على مصالحه من المستقبل، الذي تدل كل مؤشراته على استنفاد الدور القديم الذي أنيط به لسنوات، دون أن تظهر تباشير دور جديد في الأفق القريب. والبعض الآخر يحس بثقل المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، فيواصل استراتيجية النضال الديموقراطي دون كلل أو ملل.
ولا شك في أن ما يفتقر إليه هذا النقاش السياسي الذي تذكيه نخب من اليسار المغربي، هو غياب يمين حقيقي يكون له مشروعه الخاص الذي يدافع عنه. والحال أن خلو الساحة السياسية من يمين "وطني" قد جعل النقاش السياسي الدائر الآن يتخذ بعدا تنظيميا، وليس بعدا فكريا عميقا. وهو ما أدى به إلى نوع من الأفقية التي لا تختلف حول المفاهيم والتصورات، وإنما تتنازع حول آليات وميكانزمات تجسيد تلك المفاهيم والتصورات على أرض الواقع.
هذا يعني أن اليمين المغربي الحقيقي المنتظر لن ينبثق إلا من صلب الأحزاب الوطنية والديموقراطية، بعد أن تكون قد تجاوزت مرحلة الفرز الفكري والسياسي، وتلك فرصة فوتتها إبان حكومة التناوب وما تلاها بسنوات قليلة. في ذلك الوقت بدأت عملية الفرز السياسي تعلن عن نفسها انطلاقا من السجال الساخن الذي كانت تعرفه اجتماعات أجهزة بعض الأحزاب على الصعيدين الوطني ولإقليمي ومن خلال البيانات التي كانت تصدرها.
ولقد برهنت الأحزاب التي كانت تسمى إدارية آنذاك، عن أنها ليست اليمين وليست الوسط، بل هي في أحسن الأحوال مجموعات تتقن تنفيذ التعليمات. ومن هنا هذا الأفق الضيق الذي ظلت حبيسته: العمل السياسي عندها ليس قيمة في حد ذاته، بل وسيلة تكفل لها الحفاظ على الامتيازات والمصالح الآنية. ولا يهم بعد ذلك شكل التغطية السياسية التي تحقق تلك الأهداف الأنانية. إنه "يمين" كسول وتابع، يكف عن اتخاذ أية مبادرة من شأنها أن تمنحه كيانا وهوية ما.
لا يمكن أن ننكر أن ممارسة سياسية من هذا النمط، قد شوشت على العمل السياسي الجاد، وأنها خلقت طفيليات نجحت إلى حد ما في تمييع النضال الديمقراطي وتحويل قلاع يسارية إلى مجرد توابع تنتظر كرم اليمين الطفيلي بالسماح لها بالمشاركة في حكومات لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. ولكن هذا لم يكن ليتأتى لها لولا وجود جهاز إداري متواطئ، يغمض عينيه عن النهب الذي كانت البلاد تتعرض له، مقابل الانضباط لتعليمات ترمي إلى خلط الأوراق، وفرز خارطة سياسية لا منطق لها.
وكانت النتيجة في الحقل السياسي بارزة على سمات الوجه "الديموقراطي" للمغرب، الذي يتمثل في طبيعة النقاش الذي يدور في المؤسسات المنتخبة، والذي ينم عن عجز فادح في إنتاج خطاب سياسي حقيقي يقدم البلاد ويمنح الممارسة السياسية زخما يؤهلها لانتقال ديمقراطي يليق بهذا التعبير.
لقد تم زرع هذا الجسم الغريب الذي كان يسمى إلى عهد قريب، أحزابا إدارية في الجسم السياسي المغربي، وفق خطة كانت تهدف منذ البداية إلى "إدماجه" في المؤسسات عبر مراحل: ففي السبعينيات والثمانينيات فرضت الأحزاب الإدارية فرضا على الشعب المغربي بتزوير طال صناديق الانتخابات مباشرة. ثم تطور الأمر في حقبة أخرى إلى الزج بالمال كعامل حاسم في وضع فسيفساء المشهد السياسي. وكان هذا سلاحا ذا حدين: فمن جهة أولى تم تفريخ عقلية سياسية تحكمها الوصولية والانتهازية. ومن جهة ثانية كان التفكير دؤوبا في تشتيت اليسار المغربي وتشرذمه عملا بمقولة: فرق تسد. وقد أدى هذا بشكل نسبي إلى موجة تيئيس وعزوف لدى الشباب خاصة، من التجربة الديموقراطية برمتها. وهو ما كان يتغياه مهندسو الفساد السياسي بالمغرب.
أما الآن والمغرب قد دخل في حمأة التغيرات الكبيرة فإن من المفروض أن الأحزاب الإدارية لم يعد لها مكان، وظن البعض من التتبعين أنها خلقت لمرحلة هي في أطوارها الأخيرة، واعتقد آخرون بكثير من الاطمئنان أنها تعيش آخر مراحلها، وأنها في وضعية الموت السريري. ولكن الذي حصل أن متغيرات عالمية ووطنية فرضت على اليسار المغربي نوعا من الكمون، نتيجة الارتجاج الفكري والإيديولوجي الذي ترتب عن فشل التجارب الاشتراكية، وعن ضياع نخب اليسار المغربي التي بدا أنها لم تكن مؤهلة بعد لتدبير الشأن العام، وزج بها في حكومات لا تملك فيها حولا ولا قوة.
وهذا بالضبط ما حدا ببعض مكوناتها إلى البحث عن مستقبل سياسي خارج إطارها العام. وبدا هذا واضحا على تشكيلة الفرق البرلمانية داخل الغرفتين. وترتب عن هذه الوضعية على وجه الخصوص، هجرة سرية وعلانية من أحزاب كانت تعتبر إدارية إلى أحزاب وطنية عريقة، على طريقة السقطة الحرة. وهي هجرة تبدو إذا أخذناها مجردة من سياقها وكأنها انتحار سياسي.
ليس في الأمر عيب، من الناحية المبدئية أن تلجأ الفرق البرلمانية إلى تعزيز صفوفها بطاقات تعود عليها بالفائدة. ولكن عندما يتحول موسم الهجرة إلى اليسار إلى مجرد اختراق لصفاء النضال الديموقراطي الحق، أو محاولة من المهاجرين السياسيين لممارسة عملية "تبييض" لماض سياسي أسود، يجعلهم يتحولون بين يوم وليلة من مجرد كائنات انتخابية، إلى وطنيين وديموقراطيين واشتراكيين، فإن ذلك يبعث على التساؤل حول مآل اليسار المغربي، الذي أصبح يفقد هويته شيئا فشيئا. وهكذا فإن ما كان يطلق عليه إلى آواخر الألفية أحزابا وطنية ديمقراطية، وهي التي كانت تطمح إلى اجتثاث ما كانت تعتبره أحزابا إدارية يتم ابتلاعها من طرف هذه الأحزاب الإدارية نفسها، وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا للمشروع اليساري المغربي الذي تشبعت به أجيال وأجيال خلال أكثر من خمسين سنة مضت من التاريخ السياسي المغربي.