الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة.. الخميس الأسود

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة.. الخميس الأسود عبد الصمد الشنتوف
غير بعيد عن مطعم ماكدونالد، وأنا أتجول وسط شارع لارامبلا الغاص بالسياح، لفتت انتباهي لوحة إلكترونية حمراء معلقة على شرفة بيت عتيق، كتب عليها "حتى لا ننسى، 1870 يوم على المأساة"!
توغلت في الجادة متمهلا بخطى قصيرة، إلى أن اصطدمت عيناي بكومة من الورود أمام مسرح ليسيو. دفعني الفضول كي أقترب أكثر من الباقات المتناثرة على الأرض، لأقرأ شعارا رسم بلغات عديدة ينشد السلام العالمي.
لم أفهم شيئا، سرت قليلا، ثم توقفت عند كشك ميغيل لأسأله، وهو فنان تشكيلي يعرض لوحاته البديعة على جانب الممشى:
- اسمح لي سيدي، ما هي تلك اللوحة التي يظهر عليها ذلك الرقم اللامع؟
نظر إلي محدقا في محياي، وكأنه يحاول قراءة ما يموج في ذهني، ثم رد علي بإنجليزية فصيحة:
- تلك لوحة تؤرخ لعدد الأيام التي مضت على مجزرة دهس بشعة قادها إرهابي مغربي في هذا المكان.
صعقت بما أسمع، لبثت متسمرا برهة، وقد انتابني شعور خجل ممزوج بدهشة قاسية لاحت على وجهي.
مرت دقائق ثقيلة على نفسي. شعرت وكأني أحمل جبلا على كاهلي. لبثت أصغي إلى ميغيل في تأثر ولهفة، وهو يسرد تفاصيل الحادث الدموي:
"مساء يوم الخميس، حوالي الساعة الخامسة، أطل شاب مغربي بشاحنة صغيرة من إحدى زقاق حي الرافال المفضي إلى شارع لارامبلا، ليتوقف قليلا عند إشارة الدوران. وما هي إلا لحظات حتى انطلق كالسهم الخارق ليقتحم الممشى المزدحم ويدهس حشدا هائلا من السياح، متمايلا بشاحنته يمينا ويسارا في مشهد هستيري. من الواضح كان الشاب يونس ذي الثانية والعشرين يقصد إرباك الجميع وحصد أكبر عدد ممكن من الأرواح. بعدما قطع نصف ميل، اصطدمت شاحنته بعمود كهربائي مما أدى إلى انفجار كيسها الهوائي في وجههه، فاضطره للتوقف والنزول من الشاحنة في هدوء عجيب دون أن يرف له جفن. بعد ثوان معدودة اختفى وسط جمع غفير من المارة، وسلك طريقا تجاه سوق بوكيريا الشهير". 
امتعض وجه ميغيل وقد برقت عيناه بالدموع، تخيلت غيمة حزن تكبس على صدره، اجتاحته لحظات مؤلمة حين تذكر حبيبته كاميليا التي قضت نحبها تحت الدهس. كان يهيم في عشقها حتى الثمالة. لم يلبث أن صمت هنيهة، ثم كفكف دموعه بمنديل من ورق. أحبها بجنون، لا يكاد يغادر طيفها خياله رغم مرور بضع سنين.
يا إلهي! مجزرة مروعة! كانت الحصيلة ثقيلة. ثلاثة عشر قتيلا، وعشرات الجرحى من جنسيات مختلفة، وكأنه إعلان حرب على الإنسانية جمعاء.
راودتني أسئلة ملحة وأنا أحاول استقراء هذا الجنون المهول. لماذا يقدم شاب مقبل على الحياة نشأ في كاتالونيا على هذا الجرم الفظيع! ما هي دوافعه وأهدافه من وراء ذلك؟ وهل الشيطان الذي استوطن قلبه هو الذي حرضه على قتل هذا الكم الهائل من البشر، أم هناك أسباب أخرى لا نفهمها؟ هل فعلا يعتقد يونس أنه ربح صك دخول الجنة؟ ربما يكون قد تعرض لعملية غسيل المخ من لدن إمام معتوه؟ أسئلة كثيرة طرقت رأسي.
 فجأة، انتفض صوت بأعماقي ليصيح: إنه وحش الإرهاب الذي أفلت من عقاله، وحش مفترس لا يفرق بين أحد من الناس، تم تسمينه في غرف مظلمة، ليفتك بلا هوادة بالجميع. 
في المساء، نشر فريق برشلونة لكرة القدم تدوينة على تويتر تقول: "خيم حزن عميق بعد الهجوم على مدينتنا، نعلن تضامننا المطلق مع الضحايا وأسرهم وشعب برشلونة".
عندما تشعر بالخوف ويغيب الأمان، تخلو الحياة من اللذة، ويفقد الزمن كنهه وطعمه. يصير التجوال في مدينة ساحرة بلا قيمة، بلا متعة، وكأنك تلتهم أكلة سمجة. تبدو لك الأشجار الوارفة الممتدة على طول شارع بديع كأصنام محنطة، وتتحول كل المناظر الجميلة من حولك إلى أماكن عديمة الأهمية. ترمي ببصرك إلى مرفأ "برصيلونيتا" فتراه كامتداد مائي سخيف، ترفع ناظرك نحو نصب تذكار عملاق لكريستوف كولومبوس، فتخاله شخصا تافها يشير بيده نحو العالم الجديد ليتركها ممدوة في فراغ. هكذا يصف عبد الحق برشلونة خلال الخميس الأسود.
ما فتئ يوصيني بالانتباه لنفسي. يحذرني عبد الحق من النشالين بقلب برشلونة ويحثني على تحسس جيوبي كلما ولجت مكانا مزدحما، حتى أقلل من فرص تعرضي للسرقة. ذلك أن لارامبلا شارع نابض بالحياة، ويعد مرتعا خصبا للصوص بحسب التقارير الأمنية والصحفية. 
أذكر خلال سنوات مضت أني شاهدت برنامجا وثائقيا على التلفزيون تحت اسم "لارامبلا جنة النشالين"، يرصد تعرض سياح بريطانيين لنشل محافظهم بأسلوب خفي واحترافي من لدن لصوص غجر رومانيين، يشتغلون جماعة وبتنسيق رهيب فيما بينهم.
حتى السائق الألماني "سيباستيان فيتل" لم يسلم من النشل. منذ بضعة أشهر حل السائق الشهير ببرشلونة لخوض سباق فورمولا 1، وغداة تتويجه بجائزة اسبانيا الكبرى تعرضت محفظته للنشل بشارع لارامبلا، فما كان منه إلا أن انخرط في سباق من نوع آخر، هذه المرة مطاردة النشالين. قيل إنه طلب من امرأة مرت بجانبه أن تعيره دراجتها الكهربائية ليشرع في مطاردة اللصوص بشوارع برشلونه، وكأنه يؤدي دور بطل فيلم هوليودي لتوماس ميليان. كان يسترشد بجهاز (جي بي إس) لتحديد مكان المحفظة التي تحوي سماعات إلكترونية وجائزته. وانتهى الأمر به إلى تتبع أثر النشالين ووضع يديه على سماعاته في مكان مهجور، فيما ظلت محفظته مختفية إلى الآن.
في شارع لارامبلا قد تبدأ يومك فرحا مثل فراشة متطايرة ترقص في حقل الزهور، وقد تمضي يوما صعبا على غرار فيتل تطارد اللصوص لاستعادة محفظتك. أما إذا كان حظك شقيا، فستصادف شخصا مجنونا مثل يونس ليعجل بانتقالك إلى عالم الآخرة، وهذا بالضبط ما حصل مع حبيبة ميغيل...يتبع