الفساد في فرنسا، كما في باقي بلدان العالم، لا عقيدة له ولا ملة، فكما هو متوغل في عالم المال والأعمال والإعلام، متوغل في عالم السياسة يمينا ويسارا، ولذلك لا تنهض بلد الأنوار من فضيحة إلا وتجد نفسها متورطة في أخرى.
أحمد لفضالي
ما أن خفتت آثار الفضيحة التي ضبط فيها الرئيس فرانسوا هولاند في يناير 2014، متلبسا بعلاقة غرامية مع إحدى نجمات السينما، حتى دوت فضيحة ثانية في فبراير بطلها فرانسوا كوبي رئيس الحزب اليميني المعارض الذي اتهم في قضية تدليس تتقاطع عندها ذيول المال والسياسة، انتهاء بفضيحة ثالثة انفجرت الشهر الجاري (مارس) حول موضوع إخفاء الحكومة للتنصت على ساركوزي، على خلفية اتهامه في قضية الفساد الانتخابي ضمن لعبة لا تنتهي بين اليمين واليسار.
قبل هولاند وكوبي، كانت الفضائح بصيغها المختلفة متأصلة في نهج السيرة عند كبار الساسة الفرنسيين بمختلف ميولاتهم العقائدية. وإذا اكتفينا فقط ببعض الملفات في العقود الأخيرة نجد أن الفرنسيين قد أصيبوا بالذهول الكبير ذات يوم من سنة 1994، حين قرر الرئيس فرانسوا ميتران الكشف عن بنوته للطفلة مازارين بعد بلوغها سن العاشرة، والتي أنجبها إثر علاقة سرية مع آن بانجو، إحدى عشيقاته السريات. الأمر الذي أخرس سيدة الإليزي التي ابتلعت لسانها، تماما كالفرنسيين الذين وجدوا أن هالة الرئيس أكبر من الحادث، ولذلك دفعوا بالحكاية بكاملها إلى مهاوي النسيان. ولم تتم إضاءة هذا الجزء الخفي في حياة الرئيس علانية مع علمها بعلاقات الرئيس الغرامية، لكنها كانت تغض الطرف حتى لا تنهار الأسرة.
بعد ميتران، تولى جاك شيراك سدة الرئاسة على امتداد ولايتين، لكن ما أن انتهيتا بحلول نيكولا ساركوزي، حتى تحرك القضاء ليقر مسطرة المتابعة في حق الرئيس السابق بتهمة تخصيص وظائف وهمية لمساعديه السياسيين أثناء توليه عمودية لبلدية باريس بين سنتي 1977 و1995، رغم ظروفه الصحية التي حالت دون حضوره أطوار المحاكمة.
ساركوزي نفسه بدأ ولايته على إيقاع الخلاف مع زوجته سيسيليا التي طلبت الطلاق في أيام الرئاسة الأولى. الأمر الذي جعل ساركوزي ينظم بسلاسة ترتيبات فك الارتباط بدون ضجيج لتصبح كارلا بروني سيدة فرنسا الأولى. لكن ساركوزي الذي يملك من الدهاء قدر ما يملك من طاقة الصدام والتناور لم يتمكن من فعل نفس الشيء حين اندلعت بين يديه فضائح أخرى ضمنها اتهامه بالتمويل غير الشرعي لانتخابات 2007، من طرف ليليان بونتكور، إحدى أكبر ثريات فرنسا.
وفي ما كانت فرنسا تتهيأ للانتخابات الرئاسية في ماي 2012، والتي كان يستعد الحزب الاشتراكي لدخولها منتصرا على دومينك ستروس، كان (رئيس صندوق النقد الدولي آنذاك)، ضبط هذا الأخير متلبسا بتهمة اغتصاب إحدى عاملات فندق بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدا المتهم، على شاشات التلفزيون، مقيد اليدين، محاطا برجال الشرطة مثل أي قاطع طريق. وبغض النظر عن التباسات التهمة، فالمؤكد أن الحادث قد أبعد الرجل عن دائرة التنافس على سدة الإليزي لفائدة فرانسوا هولاند التي انتصر في الانتخابات، وتقدم نحو عتبات الإليزي مصحوبا برفيقته فاليري ترورفلر التي لا ترتبط معه بأي «عقد نكاح»، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الرؤساء. لكن الفرنسيين الموزعين بين نزوع مغرق في المحافظة ونزوع مشبع بعقيدة الحرية الشخصية لم يتوقفوا عند هذا الأمر الخاص لأنهم يعتبرون أن الأساسي هو النتائج وليس السلوك الشخصي، خاصة أن هولاند كان لا يحيط نفسه بأية هالة أسطورية. «أنا مجرد شخص عادي»، هكذا كان يقدم نفسه للرأي العام الفرنسي. ولذلك انصرف إلى استحقاقاته، واعدا فرنسا بصورة جديدة تعيد لها التألق بعد أن جعلها ساركوزي مجرد تابع للقرار الأمريكي.
ثم فجأة تنفجر، في أبريل 2013، فضيحة تربك الحكام الاشتراكيين الذين فزعوا بالفضيحة التي تورط فيها وزيرهم في المالية جيروم كاهوزاك بتهمة التهرب الضريبي، الأمر الذي عرض صورة الاشتراكيين للتشوه، وأنزل أسهمهم في سوق استطلاعات الرأي. هنا تدخل هولاند ليفرض على كل الوزراء كشف حساباتهم البنكية وكل ممتلكاتهم العينية. وبينما هو يواصل تضميد آثار ذلك حتى ضبطته مجلة «كلوزير»، في يناير الماضي، متلبسا بعلاقة غرامية انتهت أطوارها بإبعاد فاليري لتصبح فرنسا برئيس أعزب لأول مرة في تاريخ الحكام، وقد علق فرانسوا كوبي الكاتب الأول لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» على هذه الفضيحة بالقول «كل هذه الأخبار كارثية بالنسبة لصورة الرئيس، والدليل عناوين الصحافة الأجنبية التي لم تعد تتحدث عن فرنسا إلا من خلال هذه القضية المؤسفة».
ولأن مسؤولي فرنسا من اليمين واليسار يتبادلون التهم مثلما يتبادلون مناصب المسؤولية، فقد جاء الدور على كوبي نفسه الذي خصته أسبوعية «لوبوان»، في عددها الصادر يوم 27 فبراير 2014، بملف يطرح السؤال: «هل تمت سرقة نيكولا ساركوزي؟ وأين ذهبت أموال حملته الانتخابية؟». ومضمون الاتهام خيانة الأمانة، وتحويل الأموال إلى غير اتجاهها المرصود، بما يفيد أن شركة للتواصل يملكها اثنان من مساعدي فرانسوا كوبي كانت تشرف على إدارة الحملة الانتخابية لساركوزي، ولتضخيم حسابها كانت تنفخ في أثمنة الخدمات إلى درجة خيالية، وأن كوبي زود هذه الشركة بمبلغ ثمانية ملايين يورو، في حين كان الحزب في حاجة إلى المال.
أما القضية التي تشغل الرأي العام الفرنسي اليوم فتهم ملف التنصت على مكالمات الرئيس السابق نيكولا ساركوزي المتهم بتلقي دعم مالي من معمر القدافي لحملته الانتخابية سنة 2007. الأمر الذي جعل اليمين يقتنصها مناسبة لإدانة خصومه بدعوى الاعتداء على الحياة الشخصية، خاصة بعد تصريح كل من وزير الداخلية ووزيرة العدل بعدم علمهما بإجراء التنصت ومضمونه، ما يحيط الملف بغموض يورط الحكومة الحالية، ويغطي على جوهر الموضوع الذي يهم أموال القدافي المقدمة دعما لساركوزي الذي يتطلع إلى رئاسيات 2017، فهل ستسقط عنه هذه التهمة مثلما سقطت عنه التهمة المرتبطة بتهمة ليليان بونتكور؟ أم أن مسلسل التجاذب السياسي مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها كشف ملفات فساد أخرى.