في مرحلة فطن فيها المواطن المغربي بخطر الانزلاق إلى ما صارت إليه بعض الدول العربية التي لم تنفلت بعد من عنق الزجاجة وصوت لفائدة دستور 2011، كان ولا يزال هذا المواطن يأمل في أن تكون الفعاليات السياسية قد استوعبت مجريات الأحداث الإقليمية والعمل على الانسلاخ من التشرذم الحزبي والهوس السياسي والتوجه نحو العمل على إعادة النظر في هيكلة المشهد السياسي المغربي في اتجاه تشكيل أقطاب متجانسة إيديولوجياً.
وئام الغيدود الحوزي
أضحى المشهد السياسي أكثر سوداوية وأكثر قتامة من ذي قبل بأغلبيته ومعارضته، فهناك شبه إجماع بين المغاربة اليوم بأن العنوان البارز في المشهد السياسي هو البؤس السياسي والاهتمام بالقضايا الثانوية ورهن مستقبل البلاد بحسابات شخصية أو سياسية. فلما هذا الضعف الذي تعاني منه الأحزاب وأين تتجلى مكامنه؟
في البداية ينبغي الاعتراف والتوضيح بأن التجربة المغربية في واقعها أفرزت تشكيلة حزبية لا تتعدى أربعة أشكال رغم تمظهرها في 33 حزباً:
- الشكل1: يضم الأحزاب القديمة التي شاركت بوضوح ضمن الحركة الوطنية، أو تلك التي انفصلت عنها في بداية الاستقلال، غالباً ما يُعتمد في هذا الشكل على توظيف القرابة والمصاهرة داخلياً وخارجياً من أجل الإستوزار؛
- الشكل 2: الأحزاب المحتوية للنزاعات ينتشر هذا الشكل كلما استمر الشكل الأول في رتابته السياسية، نذكر على سبيل المثال الحركة الشعبية الأولى التي أطرت النزعة الأمازيغية في إطار الوحدة الوطنية، والعدالة والتنمية التي أطرت النزعة الدينية؛
- الشكل 3: أحزاب صغرى معظمها منشق عن حزب سابق، فشلت في الانتشار ولا تمتلك شجاعة التراجع؛
- الشكل 4: أحزاب تأسست من طرف الدولة لحاجة ملحة، أهمها تعويض فراغ وضعف وانحراف أشكال أخرى، ستظل هذه الأحزاب متواجدة لأنها تحقق التوازن بين حزبين متنافسين على الساحة أو بمعنى أدق بها يعدل الميزان لصالح كفة على أخرى؛ من خلال هذه التشكيلة وفي الوقت الراهن برز جيل جديد من الساسة في المشهد السياسي المغربي. فلقد ولى زمن الزعماء وذوي الكاريزما القوية، انتهى عهد السياسيين الكبار وجاء زمن قادة جدد يستمدون مشروعيتهم من خطاب شعبوي يستقطب أكبر نسبة ممكنة من الطبقات الموجودة أسفل السلم الاجتماعي. إننا نجد بعض القيادات والزعامات من أشباه الأميين والصعاليك والفاسدين والمفسدين (طبعاً وما ينتج عن ذلك من انحطاط في الخطابات ورداءة في الممارسة السياسة...إلخ)...
لم يعد يسمح النسق السياسي الحالي ببروز شخصيات قوية قادرة على تجسيد الأفكار السياسية الكبرى، أصبح تغيير المواقف والتحولات الجذرية سلوكات سائدة، والمجنون من يأخذ تصريحات قادة اليوم على محمل الجد، كما بات من السهولة بمكان أن تصبح قيادياً حزبياً أو عضواً في الحكومة، وكما صرح عبد الإله بنكيران: «يمكن أن تصبح رئيساً للحكومة وأنت نائم في منزلك...».
إن المرحلة الراهنة تنكر علينا الأمل في وجود قادة سياسيين كبار وهذه علامة بارزة على الضعف الذي ألم بمشهدنا السياسي، والشبه الكبير بين الأحزاب السياسية حد التماثل في حالات كثيرة، كما سبقت الإشارة من خلال التشكيلة، هدد بإفراز حزب واحد وهو ما يتعارض مع التعددية التي تعد من مبادئ الدستور الجديد، ومع ذلك يستمر تمييع التعددية الحزبية بشكل عبثي لا يعكس تعدد الطروحات الفكرية والاجتهادات السياسية وتنوع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنما يعكس تزايد الطموحات الانتهازية لدى الفئات التي تراهن على العمل السياسي لخدمة الأغراض الذاتية والمصالح الخاصة، مما يؤدي إلى صعوبة التمييز واختيار الأصلح والأجدر بتولي المسؤوليات التمثيلية، وهو ما يدفع المواطنين إلى اللامبالاة بالسياسة والعزوف عنها والدليل نسبة المشاركة الضئيلة في الانتخابات، وهو ما يشكل هاجساً يسكن عقلية أحزابنا السياسية، حيث يطغى الهدف الكمي عليها، وتكاد تتفق كلها في هاجس الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد، سواء تعلق الأمر بالانتخابات التشريعية أو الجماعية أو النقابية، دون الاحتكام إلى معايير الاستقامة والكفاءة والفعالية؛ ومادام أن التجربة تؤكد أن الذين يستطيعون الفوز في أغلب الحالات هم الأعيان وأصحاب المال الوفير، الحلال منه والحرام، فإن الأحزاب السياسية عوض أن تتنافس في وضع برامج واقعية، وتجتهد في ابتكار الحلول الناجعة للمشاكل المطروحة فإن جهودها أصبحت تتجه أكثر للتسابق على استقطاب أكبر عدد ممكن من أصحاب رؤوس الأموال لترشيحهم باسمها، وتحقيق نتائج مشرفة بفضل البركة التي تكمن وراء ثرواتهم والتمكن بالتالي من احتلال المراتب المتقدمة داخل المؤسسات.
طبعاً كل ما سبق ذكره لا يتم إلا بتزكية من المخزن، فالأحزاب الثلاثة والثلاثون المرئية والأربعة الحقيقية لا تتحرك إلا في نطاق الأوامر التي تتلقاها من الأوساط المخزنية، أما المناوشات التي مازالت تقع إلى حدود الساعة بين حزب العدالة والتنمية وحزب الإستقلال فهي شبيهة بالمناوشات التي تقع بين الجواري في حريم السلطان.
إذن لا يجادل أحد في أزمة الأحزاب السياسية، وإنما الجدل حول عمق هذه الأزمة وطبيعتها وتحديد العوامل المتسببة فيها، إلا أن الأكيد لهذه الأزمة تجليات كبرى، الشيء الذي يمكن إجماله في ثلاث مستويات:
- المستوى الوظيفي: اختلت فيه كل مقومات التأطير بكل تجلياته (المجالي؛ التنظيمي؛ الإيديولوجي؛ التمثيلي)؛
- المستوى البنيوي: تثير فيه إشكالية طبيعة نمط الحزب السياسي (زاوية سياسية أو ثكنة سياسية أو مقاولة سياسية) حسب المقاربة السوسيوتاريخية، والخلط بين التعددية السياسية والتعددية الحزبية حسب المقاربة السوسيوسياسية، أو باعتباره نادياً سياسياً حسب المقاربة السوسيوثقافية؛
- مستوى إدارة الاختلاف والخلاف الداخلي للأحزاب السياسية. للخروج من هذه الأزمة ينبغي أولاً وقبل كل شيء التغيير، لكن أي تغيير في ظل الاستمرارية الفاقدة لأي وعي ديمقراطي ما هو إلا إعادة تجذير سياسة الجمود والتقهقر من بناء الدولة الحديثة إلى بناء دولة الولاءات والرعايا المتحركة، وبحكم أن المغرب لا يتوق إلى ديمقراطية هجينة Hybride فإنه من الضروري إعادة بناء الهيكل السياسي المغربي وفق الهندسة الدستورية الجديدة، مما يستوجب إلزامية تقليص عدد الأحزاب السياسية ووقف نزيف التفريخ الحزبي، إذ أن الوثيقة الدستورية لم تتحدث عن التحالفات الحزبية وإنما عن الحزب الأغلبي، هذا الأخير الذي يتطلب ضرورة عقلنة برامجه السياسية تكييفاً لها مع المتطلبات المجتمعية، إذ أن هذه البرامج هي من ستحتكم إليها صناديق الإقتراع، هذه الأخيرة التي تقتضي ضرورة إعادة النظر في طريقة ممارستها، حتى تمكن المشهد السياسي من إمكانية ولوج الحزب الحاصل على الأغلبية الانتخابية بمرونة إلى سدة الحكم لتطبيق البرنامج المنتخب من أجله. وإلا سنكون أمام سيناريو متشائم، لا يرغب فيه أحد، ولأن الاستمرار في الوضع الحالي لن يزيد العزوف إلا تصاعداً، مما سيتيح الفرصة لميلاد النزعة الشبابية التي تؤمن بالتقدم والتحرر، والتي ترفض كل شيء وتطالب بكل شيء دفعة واحدة، في وقت خاب فيه أمل الكثيرين ممن صوتوا لحزب ذو مرجعية دينية، ولا يعني تشكيل الحكومة الحالية إلا المزيد من الإلتفاف حول المؤسسة الملكية وتأكيد ضعف وهشاشة الأحزاب السياسية وإلى حلقة جديدة من مسلسل خيبات أمل المواطن المغربي.
باحثة في العلوم السياسية