الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

خالد أخازي: سيرة غيرية بضمير المتألم

خالد أخازي: سيرة غيرية بضمير المتألم خالد أخازي
أرجو أن تتحملوني ...
أرجو ألا تقاطعوني... أقصد ألا تقطعوا حبل تفكيري وبوحي وهذا التداعي...وليس المقاطعة...تلك المقاطعة المؤلمة...فليس لي ما يستحق المقاطعة...لست مالكا لوسائل الإنتاج....هههه....أنا فقط أعيش من فائض الإنتاج... ومتى كان هناك فائض في الإنتاج...؟ ربما ...على ما أذكر هكذا صنفنا ماركس وانجلز... نحن الانتجلنسيا...القوة الأخرى...غير العضلات والسواعد...المادة الرمادية...نحن حلفاء العمال....بل قادة الحركة العمالية....
اسمعوا....لست كأيها الناس....لا....لا...سلوا عني... لم أعتقل أبدا لأنني كنت أجيد الصمت زمن المحن...كما أجيد الابتسام في وجه رجال الحال...لم يكرهوني....ربما لأني كنت أحييهم..
لي بصمات لا تنسى في السجال الطلابي في حلقات النقاش...
كانت قدراتي عجائبية كقدرة الرفيق كاسترو على شد الانتباه لساعات... هذا ما أعتقد....ربما كان الرفاق الكوبيون مضطرين للإنصات في جحيم كاسترو... أن أخطب في الناس ساعات وساعات منتهى اللذات... كانت الخطابة موهبتي وهوسي ولذتي... بينما كان صمت البعض نعمة خفية حملتهم إلى مواقع سامية مهمة..فصاروا بعيدين.. أما أنا فخطابتي ورطتني مع تاريخ صار ملزما لي كبصمة وراثية..وخطباء آخرون اختفوا مع الزمن...لكنهم عاودوا الظهور في زمن العبث، وبين أصابعهم المرتعشة سيرة ذاتية مضاءة بمرحلة انتماء مشبوهة أو اعتصام معزول...
...ثم اختفوا مرة ثانية كما عاودوا الظهور..واليوم صاروا بعيدي المنال...في مواقع تحتاج إلى ومواعيد مسبقة....أو المرور لمكاتب الضبط والدواوين...
أما أنا...فلا اختفي... وإن كنت أسبهم في خاطري...
لَم هم وليس أنا..؟
كنت أشق الصفوف...هويتي قبعتي الايرلندية... وفوضى ملابسي ولحيتي...وعفوتني... ورفيقتي التي قلما تغسل الشال الذي ينضح برائحة العرق و التبغ الأسود الرخيص..
نعم...فالتبغ الأصهب...الأشقر...خيانة للقارة وللقضية وللجماهير والعمال والفلاحين...و في الحقيقة أنقذتني الأيديولوجية من حرج العجز عن تدخين سيجارة شقراء بشهية..
اليوم.....تدخين كازا أو فافوريت لم يعد تضامنا طبقيا...بل فضيحة اجتماعية...
..كنت قليل الاغتسال... فكثرة العناية بالجسد ترف بورجوازي... العطر شتيمة...انتاج لآلة متوحشة تسلع المشاعر و العلاقات.....تلك كانت فكرتي التي تقفز في خاطري، ثم أهمس بها في أذن رفيقتي ونحن نتجول أمام واجهات محلات العطور والملابس..
والحقيقة أنني اليوم أصبحت مولعا بالعطور، ومتطلبا لحد الهوس بالماركة والمصدر، أحب ان يعلن عني عطري قبل الظهور، صرت أومن أن عطري توقيعي...
كيف غيرت رأيي..؟ لا أدري...فقط صرت هكذا مع الزمن دون تمحيص أو مراجعة، ربما بعد سقوط جدار برلين، لا... ربما حينما تلقيت عطرا هدية بفرنسا وأنا أشارك في لقاء لشباب الأممية الاشتراكية من رفيقة بالحزب الشيوعي الفرنسي..
آه...الحلقات...أم الحلقيات هي بداية نجوميتي... كنت شيخ" الكلاكلية" glaglia" هكذا يسموننا الخصوم... ونسميهم الخوانجية...على الميزان الصوتي نفسه....
في "الحلقية"...أزجر الخطيب الخصم زجرا...و وانتزع منه حق القول...
أبدأ من موسكو وبراغ وبيكين والفيتنام و البيان الشيوعي....والاممية الاشتراكية....والصهيونية...و البورجوازية العفنة غير الوطنية....الليبرالية المتوحشة....و احرض البروليتارية لتتحالف مع الانتجلنسيا...ساعات وساعات...قد تصطادني عاداتي اللغوية المتجذرة في لاوعي الجماعي، فتفضحني وأقول " إن شاء الله سننتصر" ثم أبتسم دلالة على مكر اللغة...
لعنت كامب دافيد... وقدست جزيرة الخنازير...أمام ذهول الرفاق.. وترديدهم" سير سير يا رفيق ..مازلنا على الطريق "
للأسف مشيت وحدي في الطريق نفسها، وغيروا هم الطريق البوصلة ...
لم أر بعضهم منذ سنين...لا...رأيت أحدهم مسؤولا ساميا...و آخرون هنا وهناك في مواقع تسمح لهم بالسفر لباريس وشرب الشمبانيا و التجول بالبندقية وروما و وواشنطن... رفقة أبناء سجلوهم توا في معاهد أجنبية عليا...خصمنا التاريخي غدا مدرسة أبنائهم...
لنعد للحقلة ...والحرم الجامعي...فحين أكشر عن أنيابي الأيديولوجية... وأرغد وأزبد طويلا....تتلاشى الحلقية شيئا فشيئا.. ولا يبقى إلا رفاقي متحملين هدري الكثير بلا تصويب سديد...فقط كنت برميلا فكريا يملأ ليفرغ بكل حماس وقسوة وشوفينية....المهم تحرير الحلقة والسيطرة عليها...حرب وهمية، كنا نشرب أنخاب اندحار الأطياف الاخرى كأننا ندافع عن قلعة...
كنت الخطيب المفوه...لكن كانت جرعتي من دوبل زيرو...الحشيش الممتاز ضرورية لإطعام فرن اللغة والجرأة والتطرف...
سلاحي بسيط، الجدلية المادية والجدلية التاريخية... وبعض شواهد هنا وهناك ...في كتب أصحابها أشباه حمقى...كنت قادرا على تدبير التناقض الثانوي...في انتظار نضوج شروط التناقض الأساسي. .والغريب أني كنت تروتسكيا وأعلق صورتي لينين وستالين في غرفتي...وماو طبعا أزج به في كل نقاش...أتبل به ولائمي النقاشية
كنت أجد لذة غامرة في تدخين سيجارة شهر رمضان في الحرم الجامعي...
كنت لا أفارق رفيقتي...و أقبلها للاستفزاز الآخرين...
كنت قائدا صغيرا يحفظ الشعر ويصوغ الشعارات..
حاولت أن أكون خطاطا...لكني فشلت..
حاولت أن أكون عازف قيثارة فعجزت...
المهم...كنت أسمع كل الأغاني الملتزمة وأدخن الحشيش وأشرب النبيذ.. ألست متمردا مختلفا...؟
لا أصوم إلا في بيت والدي...والحقيقية أنني كنت اصلي أحيانا خوفا من أن يمنع عني المصروف...
فأنا مناضل" شبعت نضال"...
والحقيقة أنني حاولت أن أتغير...لكني عجزت...
كل شيء قابل عندي للنقد...
ولمَ لا..
فقد قرأت نيتشه وسبينوزا....وتهافت التهافت...و هكذا تكلم زرادشت.. و كل كتب سارتر وكامي...حتى أنني اعرف سبب الجفاء بينهما ... وقرأت سبيلا والوقيدي...و شبعت ابستمولوجياً، وللأسف ما زلت لحد الآن أخلط بينها وبين نظرية المعرفية، لكن لا يهم...يكفي الدفع باسم كارل بوبر..لسحر الجامعة المنبهرة....و بورديو الذي يختلط اسمه في عقلي مع ماركة النبيذ الفرنسي..برودو..." كم أنقذتني نظرية إعادة الانتاج للثورة على للمؤسسات والمنظمات الرسمية...لم يكن لي غيرها لأبرر حماسي...وفي الحقيقية لم أقرأ لبورديو غير ملخصات طلابية...لكن هذا الزاد يكفي للمواجهة في مضمار الأعلام والاسماء الرنانة..
الغريب أنني أحب شعر جارسيا لوركا ولم أقرأ ولو قصيدة واحدة...فقط لأنه أعدم فجرا على جدار الإعدام...واسمه ذو «سومة" عالية في أي سجال... ربما أخذت اسما آخر من الهند...طاغور وأقحمته...فقط اعتمادا على السماع والرواية الشفوية..
كنت ومازالت مناصرا منتصرا لابن رشد في محنته... ولا أعلم قضيته الحقيقية سوى أن حليفي التاريخي محاط بعناية الغرب الذي يجله...و طلاب الفلسفة ينتصرون له دوما.... لأن الفلسفة حينها كانت حكرا على اليسار...الخيار بين الغزالي وابن رشد أساسي في المعركة....كالخيار بين طه عبد الرحمان والعروي والجابري...
لم أقر كل كتبهم...لكن هكذا نحن...قناعاتنا عدوى...و ثقافتنا نتقاسمها كملابسنا وبائعة جنس مشاع.
حتى الحلاج والشيخ الأكبر أو الأكفر ابن عربي... أحفظ مقاطع من شطحاتهما... الغرابة في القول ولو من قبيلة الصوفيين لها طعم آخر على موائد الإثارة...
أحب ابن رشد... بعض الإحالات على كتبه تجعل الآخر منبهرا...وتجعلني محترما...وتصنفني عقلانيا...فقط أحيانا تخذلني اللغة فأقسم بالملح والطعام...والكعبة...و....
لا أحب الغزالي...
لم أقرأ له..
لكن الاعجاب بالغزالي تهمة...
أنا هكذا.. تحملوني....
ما زلت أحن لناس الغيوان...و أردد أشعار درويش... ومن حين لآخر أدبج تدوينة بمقطع من أغاني سعيد المغربي...
ما زلت أغني" لمارسيل خليفة" أغنية أحن لأمي... رغم أن زوجتي المناضلة تكره أمي.... اشترطت ألا تسكن معي...
متى رأيت آخر مرة أمي...؟
لا أذكر...
حتى إخوتي قاطعتهم...زوجتي مناضلة جدا....ومتفتحة...تريد أن تعيش في شقتها وتلبس ما تشاء...وجود أسرتي يحرمها من لبس الملابس الشفافة...
أنا هكذا فتحملوني...
نعم .. أحاضر في الحريات والكرامة.. أدافع عن الفقراء والشهداء
لكن أحيانا حين أسكر تصير عندي مشكلة..
أتحول إلى حاكم صغير...سلطان منسي
أصفع عاهرة.. وأسب نادلا...و أحتكر " الشيخة لي وحدي...
أكسر كأسا...اتبول في الفناء...يتحملوني... ربما يخافون مني....ربما لأني أغرقهم مالا وعطايا...ربما أشتري طاعتهم..
أحيانا أضاجع بائعة جنس..
نعم بائعة جنس... فأنا مناضل...
فأحرص ألا أترك أثرا في " غرسوني" ولا تبصمني برائحة تصير تهمة... لا ينفعني فيها سوى أن أقسم للمناضلة بالقرآن والكعبة... قد أقسم بدم الشهداء فلا يكفيها ...كم صار دمهم رخيصا ...فهي لا تصدق إلا حين أدعو لنفسي "بشي مصيبة"
وحينها تصدقني أنا العلماني وترتاح هي الحداثية...
هههه....ضاجهت كثيرا من بائعات الجنس...
حين أسكر أغدو سلطانا...وجنرالا في حانة..
قد تشك زوجتي...
لكن حين أقسم لزوجتي باسم أمي التي لا تحبها....تصدقني...
والحقيقة...أنني أحول أن أتغير..
فقد بدأت أشيخ...و الحشيش لم يعد لا يروج منه إلا " الحرتوكة"
وبعض الرفاق غيروا المركب والخطاب....فتغيرت أحوالهم...
ماذا أفعل...انا هكذا..
أشك في أي شيء...
أشجب أي موقف الدولة دون تمحيص أو تحليل..
وحين تتبرأ الدولة من موقف ما وتعتبره مجرد إشاعة...أعتبر العملية مؤامرة... في الأمر :إن"
جس نبض...استمزاج...
الدولة عندي دوما متهمة... وإلا ما كنت مناضلا..
لابد أن أكون في الخط المعاكس للدولة...
أشكك حتى في زمن إعلان الأهلة...أشكك في الماء والسماء والبحر..
لا شيء يأتي منها يقبل عندي التوقيع علة بياض
يوما عن بوم تتقلص دائرة الرقاق...
يموتون...ويوارون الثرى مع المسلمين
أو يتغيرون فتتغير أوضاعهم..
ربما قد أتغير...
فتتغير اوضاعي...
فقط علي رفع درجة المطالب... رفع حدة الانتقاد...
رفع خط الطموح...
ربما علي أن أتوقف عن معاشرة تلك العاهرة....
من يدري ربما يعرفون كل خيباتي..
ربما علي أن أتوقف عن صفع زوجتي والعربدة في الحانات..
فقد يحتاجون لسفير مناضل سابق يجيد السجال السياسي...لكن لا أظنهم يقبلون عربيدا يضاجع الخادمة ويصفع بائعات الجنس.. المهم أن أرفع حدة تطرف المطالب...وانتظر...كما انتظر قبلي بعض الرفاق الذين غيروا ارقام هواتفهم...أتفهمهم...لكن فقط كنت أود توصية لابني للعمل في سلك الوظيفة العمومية أو للسفر للصين وتركيا أو لفتح حانة في حي ساخط... وما وراء البحار أو لحصد جائزة دولية تغنيني عن الرفاقية... ولابنتي لولوج سلك الدكتوراه ... فالرفاق والإخوان والعقلاء والحكماء هم أكبر من هاشتاج لأنهم صناع الخوارزميات الفكرية او على الأقل جزء من برنامج يفتك بالأمل.
سأفكر في الصوم هذا العام...