الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الحليم بنمبارك: رهانات وزارة الداخلية لتطوير أداء جهاز المراقبة (1)

عبد الحليم بنمبارك: رهانات وزارة الداخلية لتطوير أداء جهاز المراقبة (1) عبد الحليم بنمبارك

ما من شك في أن سهر مصالح مراقبة السوق على ضبط حركيتها ونشاطها، له تداعيات وارتباطات يختلط فيها الاقتصادي بالاجتماعي بالصحي بالسياسي وبالأمني، وهذا موضوع يكتسي أهميته وراهنيه لكونه يشكل المعبر الأساسي لبلوغ إحدى ركائز الحكامة الاقتصادية والاجتماعية ويرتبط ارتباطا وطيدا بالقدرة الشرائية للمواطن واستقرار السوق.

ففي ظل التحولات المتسارعة التي عرفتها المدن والقرى واتساع نطاق أسواقها وتنوعها وتشعبها، وحركية قطاع التجارة وأثرها على نمط الإنتاج وتقنيات التوزيع وتطور نمط الاستهلاك وارتفاع وتيرة الطلب وتزايد المخاطر وتكاثر المخالفات والممارسات غير المشروعة، فإن تفعيل آليات ضبط مسالك توزيع وإنتاج السلع والمنتوجات وتتبع الأسعار والتموين المنتظم للأسواق، وكذا التدابير القانونية لحماية المستهلك عبر محاربة الغش وضمان الصحة والسلامة وقواعد المنافسة، تعتبر رهانا مجتمعيا محوريا ومدخلا أساسيا لعصرنة قطاع التجارة والتوزيع وتطوير تنافسية القطاعات المنتجة وتوفير شروط الشفافية والنزاهة في العلاقات التجارية.

وإذا كانت أجهزة المراقبة التابعة لوزارة الداخلية، إن على المستوى المركزي أو المحلي، قد حققت تراكما تدبيريا ومهنيا إيجابيا وتمكنت من تأمين حضور ميداني منتظم وفاعل في الأسواق، فهذا المكتسب في حاجة اليوم إلى دفعة جديدة يتعين معها بلورة تصور حديث مندمج، يمكن من إعطاء نقلة نوعية لعمل هذه الأجهزة وتدخلاتها وفتح مجالات ومسالك واسعة للمراقبين لتمكينهم من الاضطلاع بمسؤولياتهم كاملة. وهذا ورش يعتبر محكا حقيقيا لتحقيق النجاعة في الأداء والاحتكام إلى المردودية.

أولى هذه التحديات التي يتعين مواجهتها يرتبط ارتباطا وثيقا بمجال التكوين والتكوين المستمر. فممارسة عمل المراقبة وضبط السوق وآلياته يعتبر مهنة، على غرار باقي المهن الأخرى المنظمة في القطاعات الوزارية والادارية العاملة في مجال المراقبة، والتي لا يمكن مزاولتها دون التوفر على رصيد معرفي أكاديمي وخبرة متقدمة مبنية على المؤهلات والكفاءات اللازمة لذلك ومواكبة للمستجدات التي يعرفها السوق الاقتصادي.

فالمقتضيات القانونية المضمنة على سبيل الذكر بقانون حرية الأسعار والمنافسة (تتبع السوق من أجل كشف القرائن والقيام بالأبحاث المتعلقة بالممارسات المانعة للمنافسة) وقانون حماية المستهلك ( الشروط التعسفية الواردة في عقود الاستهلاك، القروض الاستهلاكية، البيع عن بعد، البيع خارج المحلات التجارية، استغلال الضعف أو الجهل، البيع أو تقديم الخدمة بشكل هرمي، وغيرها من الممارسات المخلة بالقانون) تستدعي، بالضرورة، نظرا لتشعبها وتفاصيلها الدقيقة، تكوينا أوليا معمقا، معززا بدورات تكوينية مستمرة للرفع من قدرات ومهارات وكفاءات المراقبين والارتقاء بالأداء العمومي.

مهام التكوين تقتضي تدعيم المراقبين بالخبرة والمعرفة وتقوية مداركهم وتأهيلهم المستمر لمواكبة التحولات التي يعرفها النسيج الاقتصادي وتقلبات السوق، بغاية التوفر على القدرة والمرونة على التكيف مع هذه المستجدات.

في القانون المقارن، أنشأت فرنسا المدرسة الوطنية للمنافسة والاستهلاك وقمع الغش يلجها، بعد اجتياز مباراة، موظفون (أطر عليا ومتوسطة) يخضعون لتدريب مهني نظري وتطبيقي مدته سنة كاملة كما يستفيدون بهذه المؤسسة من دورات للتكوين المستمر. هذه المقاربة سبق أن تبنتها وزارة الداخلية خلال سنوات الثمانينات ومنتصف التسعينيات، حيث تمكنت من تكوين ما يقارب من 1000 إطار في مجال المراقبة وتدبير الشؤون الاقتصادية، التنشيط وتحليل الظرفية الاقتصادية، مسالك التوزيع، تدبير شؤون الحسبة وغيرها، خضعوا لتكوين نظري وتطبيقي لمدة سنة كاملة بمدرسة استكمال تكوين الأطر بالقنيطرة (سابقا) وكذلك بفرنسا (بالنسبة للأطر العليا) أو على مستوى مراكز التكوين الإداري ببعض العمالات (بالنسبة للأطر المتوسطة)، واستطاعت بذلك ضمان تغطية شاملة لمختلف عمالات وأقاليم المملكة بأطر مكونة، مؤهلة لتطبيق قوانين ضبط السوق بكل يسر ونجاعة، في ظل ظرفية تميزت بتطبيق بلادنا لبرنامج التقويم الهيكلي (1983-1993) وبمواكبة فترة جد هامة اتسمت بالانتقال التدريجي من مرحلة تدخل السلطات العمومية لتقنين الأسعار إلى مرحلة تحديدها عن طريق المنافسة الحرة. وهنا لابد من الاعتراف بأن هذه التجربة شكلت انطلاقة حقيقية في هذا المجال ساهمت بشكل كبير في تعزيز دور الإدارة في المراقبة وتنظيم السوق، وجب تعزيزها الآن.

الحقيقة التي لا ترقى إلى الشك، تتمثل في الإيمان بحتمية دور مصالح المراقبة في تنظيم السوق، باعتبار أن مهامها تتجاوز العمل الإداري العادي لترتبط ارتباطا وثيقا بالمعيش اليومي للمواطن من خلال الحفاظ على قدرته الشرائية وضمان صحته وسلامته. وقد اعتبرت الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة تأهيل وتحفيز وتطوير قدرات ومهارات العنصر البشري ضرورة آنية بل مطلبا ملحا لكسب رهان التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وينبغي بهذا الخصوص تثمين التحول الذي عرفته وزارة الداخلية، حين عملت بموجب مرسوم 30 يناير 2020 المتعلق باختصاصات وتنظيم وزارة الداخلية، على إحداث مديرية للموارد البشرية تنكب على تدبير شؤون موظفيها بدلا من النظام السابق الذي كان يختزلها في قسم إداري، في إشارة واضحة إلى رغبة الوزارة في العناية بمجالات عمل ونشاط ومردودية الموظف والارتقاء به.

هذه الخطوة تشكل مدخلا للتحدي الثاني الذي يتعين بدوره إيلاءه الأهمية القصوى المرتبطة بالعمل على تطوير آليات اشتغال مصالح المراقبة، التي وإن كانت لاتزال تحقق نتائج إيجابية وملموسة، فالضرورة تقتضي تحقيق نقلة نوعية تروم تأهيل وعصرنة أنظمة مراقبة السوق وإرساء ثقافة النتائج وحسن الأداء عبر:

-إنجاز تقييم دوري لأداء هذه المصالح من خلال وضع آليات ضبط السوق على المحك وقياس درجة تفاعل ونجاعة تدخلاتها مع المستجدات التي تعرفها الحركية التجارية وتزايد المخاطر وتطور نوعية المخالفات والممارسات غير المشروعة؛

-العمل على تجاوز الاختلالات المرصودة وتطوير آليات الاشتغال عبر تحديد مؤشرات قياس نجاعة أدائها في تحقيق الأهداف المسطرة؛

-إعداد دليل لنظام المراقبة وتنظيم السوق من أجل توحيد وتقديم الدعم التقني والمساعدة العملية لتفعيل وتطوير عمليات وإجراءات ضوابط وآليات السوق؛

-الاستيعاب الجيد للمساطر الجديدة المرتبطة بكيفيات وتقنيات كشف القرائن المنافية للمنافسة والقيام بالأبحاث الخاصة بهذه الممارسات المشار إليها في القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، تحرير المحاضر أو تقارير بحث، كيفيات إجراء عمليات التفتيش لرصد ومعاينة الممارسات المخلة بأحكام قانون حماية المستهلك وبما يتلاءم والخصوصية القطاعية للأنشطة المستهدفة وتراعي البعد المحلي، الفهم الجيد لميكانيزمات السوق وآلياته، وغيرها؛

-الحرص، أمام الطفرة الرقمية والمعلوماتية، على تزويد المراقبين بالمعدات والآليات التقنية والإلكترونية لتمكينهم من التتبع الآني للتموين والأسعار ومعالجتها وتبادل المعلومات، ومن ممارسة مهامهم على نحو يواكب التطور الجديد لأنماط الإنتاج والتوزيع والبيع والاستهلاك.

التحدي الثالث لكسب المردودية والنجاعة في الأداء يتمثل في تحفيز وتشجيع ودعم عمل مصالح وأطر المراقبة والتطبيق الأمثل للقوانين المنظمة للسوق وعلاقات الفاعلين فيه. فإذا كان القرار المشترك الصادر مؤخرا لوزيري الداخلية والميزانية المتعلق بكيفية توزيع المكافآت بالنسبة للمراقبين المنتسبين لوزارة الداخلية قد حاول أن يصل إلى هذه الأهداف، فإن الصيغة والمعيار الوحيد الذي اعتمد في القرار لتوزيع هذه المكافآت لن يفي البتة بالغرض لمحدودية مقاصده وآفاقه، ولتحجيمه نشاط المراقبة واختزالها في نوع معين من المخالفات ومرحلة واحدة من مراحل التسويق (سبق التطرق لهذا الموضوع بتفصيل في مقالي المنشور بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" تحت عدد 12.153 بتاريخ 24 ماي 2022 والجريدة الالكترونية "أنفاس بريس" الصادرة بتاريخ 29 ماي 2022).

إن إثارة هذا الموضوع يعكس الرغبة في تعميق التفكير في تأهيل وتطوير منظومة المراقبة باعتبارها مدخلا من مداخل الارتقاء بمنهجية عملها وأساليب تدخلاتها وأدوات فعلها. فإنجاز هذا الورش يتطلب، بكل تأكيد، الإرادة واستيعاب اللحظة المتميزة التي تعيشها بلادنا على درب الإصلاح وتحقيق التنمية المستدامة وما تتيحه من إمكانات غير مسبوقة وواعدة تسمح بالانطلاق الفوري في رفع هذا التحدي النوعي وكسب رهانه. طموح تحقيق التنمية يستمد جذوته من إرادة الحاضر والايمان بمكانة وإمكانات بلادنا، ويعد هذا التوجه من بين بعض الاستنتاجات العامة لتقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد.

الجزء الثاني لهذا المقال سأخصصه للظرفية الحالية المتسمة بالارتفاع القياسي للأسعار ودور السلطات في ضمان الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن.

 

 

عبد الحليم بنمبارك، إطار سابق مختص في شؤون ضبط ومراقبة السوق