الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

«عابر إلى الضباب»: عبد الصمد الشنتوف يرصد في يومياته أنماط التحول

«عابر إلى الضباب»: عبد الصمد الشنتوف يرصد في يومياته أنماط التحول عبد الصمد الشنتوف وغلاف مؤلفه
- تسريد المعرفة
يقوم السرد في عمل عبد الصمد الشنتوف «عابر إلى الضباب: يوميات» منشورات سليكي إخوان ـ طنجة 2021، على تضافر جملة من التشكلات السردية التي تغني السرد وتسهم في نموه، ويمكن إجمالها في جدل السرد المعرفة من جهة، والمقارنة والذاكرة والسرد من جهة ثانية، ثم السخرية والفضح، ينتظم كل تلك التشكلات الأسلوبية أسلوب ممعن في السحر:
في المقام الأول، اعتمد السارد على المشاهدة في توثيق الأخبار والمعلومات، ثم السماع المستفاد من المشافهة، مع عناية بالغة بوصف الأمكنة التي زارها أو انتقل بينها، وهي تمثل عمدة الرحلة، خصوصا إذا استحضرنا أن الرحلة هي فن مكاني بامتياز. وربما قد تتجاوزه إلى حكاية المكان، كما نلفيه لدى السارد، حينما تحدث عن شهرة رمزية منطقة «نوتينغ هيل» المعروفة باحتضانها لأكبر مهرجان للفنون والموسيقى في العالم، ومن ذلك ضيعة التفاح ومرآب المبيت اللذين تحولا بعد أن التحق بهما إلى ملتقى للتسامح وتلاقح الثقافات.
كما يغتني هذا العمل السردي بجملة من المواضيع والقضايا والمعارف التي تسهم في إغناء نص الرحلة. وقد صاغها السارد على حال يبغي بها إشراك القارئ وتوريطه في هذه التجربة، التي كشفت لنا عن جدل بين السرد والمعرفة؛ ومؤداه أن السارد شُغِل – على امتداد الرحلة – بتقديم المعرفة للقارئ عن كل ما وقعت عيناه عليه، أو سمعه، أو قرأه، أو استفاد منه، خلال العلاقات التي أقامها مع الآخر، ثم صاغها بأسلوب وصفي أنيق. يقول: «كانت تربط ماسكوت علاقة وطيدة بيهودي عرائشي يدعى رافائيل يقطن في حي «كايي ريال» في أقصى درج ضيق منحدر يؤدي إلى السقاية. رافائيل بدوره كان متعلما وخطاطا ماهرا يتقاسم بيتا عتيقا مع اخته «موقنين» منذ عهد الاستعمار» ثم الاستطراد إلى ذكر أوصافها وأوصاف أخيها: «هذه الأخيرة كانت اجتماعية بطبعها، تملك ماكينة خياطة تتداولها ساكنة المدينة.
أخوها فارع الطول، كان يتلقى عشرات العقود من عند ماسكوت خلال الستينيات فيقوم بتوزيعها على شباب يرغبون في الهجرة إلى بريطانيا بعد استيفاء الوثائق والشروط»؛ حيث تتكفل المعرفة المقدمة هنا عن ماسكوت ورافائيل بالجواب عن سؤال يردده كل المغاربة عن السبب الكامن وراء استيطان أهالي مدينة العرائش ونواحيها، مدينة لندن أكثر من غيرهم من المغاربة المنحدرين من مدن مغربية أخرى. وعلى هذا النحو يمضي السارد الرحالة في تقديم معارف متنوعة عما خبره في بلاد الإنكليز، نظير ما قدمه عن حركة «البانك» العنيفة والعنصرية» أو الإلماع إلى دلالة اسم نهر التايمز وأصول التسمية، ثم التعريف المطول بأبطال السيرك المغاربة الذين قدموا إلى بريطانيا في سنوات مبكرة من الستينيات، أو الحديث عن الهنود المقيمين في بريطانيا، الذين قدَّم عنهم السارد معلومات تخص حياتهم الاجتماعية، والتقسيم الطائفي الذي يميزهم والمعروف بـ«فارنا» تماما كما استطرد السارد إلى التعريف بـ«راج» وهو تاجر هندي معروف في لندن، يبيع الجرائد والمطبوعات والسندويتشات، والذي أفاد السارد بكمٍّ من المعلومات عن الساسة في بريطانيا والأحزاب والصحف التي يقبلون على قراءتها، إلى أن يصل إلى تخصيص حيز مكاني لا يستهان به للحديث عن المقاومة الجبلية لأهل «سوماتة» ضد الاحتلال الإسباني، واستعراض وافٍ لبطولاتها ورجالها الأفذاذ، وهي أخبار يتداول السرد والوصف على تشكيلها بنَفَس رام من خلاله السارد إظهار اعتزازه بالنسب لهذه القبيلة الجبلية الصامدة.
لا مراء في أن الحديث عن السفر وتدوين الرحلة يُعَبِّر عن إعادة تركيب الرحلة، ما يعني اقْتِضاءً بناءَ العالم الذي أضْحَتْ الرحلة موضِعاً لمشاهدته وموضوعا للحديث عنه.
 
- المقارنة والذاكرة والسرد
لا مراء في أن الحديث عن السفر وتدوين الرحلة يُعَبِّر عن إعادة تركيب الرحلة، ما يعني اقْتِضاءً بناءَ العالم الذي أضْحَتْ الرحلة موضِعاً لمشاهدته وموضوعا للحديث عنه. وإعادة تركيب الرحلة يقتضي استعادة مادة الحكي من الذاكرة التي تجعل من الرحلة فنا ذاكراتيا، كما هي فن مكاني. و»حين تطرح في الأدب علاقة الأسلوب الذاكراتي بحكي ماضٍ ما فإن ما يُطرح هو حكاية الزمن، كما هي معِيشةٌ من قبل شخص ما، بل كما هو مُدرك هذا العيش من خلال وعي خاص بالزمن» على حد تعبير عبد الرحيم جيران في كتابه «الذاكرة في الحكي الروائي» ولعل ما يعبر عن هذا الإدراك هذا الملفوظ الوصفي: «لم أكن أتصور لندن بهذا الشقاء وهذه التعاسة بعدما كنت أحسبها مدينة الفنون والضباب». وإن ما قدم في هذا العمل السردي من معارف وتجارب وأحكام إنما يعْبُر عبر مصفاة الذاكرة بوعي الحاضر
وتتضافر الذاكرة والمقارنة هنا لإنتاج نص رِحْلِي جعل من هاتين الآليتين ديدنه لنمو السرد وتكثيفه؛ فالسارد مسكون بالمقارنة بين الوقائع والأشخاص والأمكنة التي خلَّفها في وطنه وتلك التي خبرها في المهجر، ويتخلل ذلك انتقال السارد من فاعل إلى منفعل؛ يقوِّم ويصْدر الأحكام عبر مصفاة الذات، والمنزع الديني والهوى السياسي؛ فليس لأي شيء أو أحد قيمة واستقلال إلا بمقدار ما يتيحه السرد المتمركز حول ذات الكاتب، الذي هو بؤرة النص. هكذا يعمد السارد إلى تقديم وصف دقيق مضمخ بأريج السخرية لأمكنتنا وأمكنة الآخر الأوروبي: «مقهى كازابلانكا يغشاه دخان ودخان كثيف، حتى لا تكاد ترى يديك إن مددتها في الفراغ، يصعد دخان السجائر إلى السقف وكأنك أمام مصنع كيميائي، فيغطي وجوه الجالسين ما جعلني اتفحص وجوه ملامحهم بصعوبة بالغة.. عندما ألوي ورائي أشاهد مقهى لشبونة البرتغالي يغص بزبائن أوروبيين، يقفون على الرصيف ممسكين بفناجين قهوتهم وقناني مشروباتهم، يدردشون ويتضاحكون حتى تكاد قهقهاتهم تعصف بأذني. لست أدري لماذا مقهانا يختلف عن مقهى لشبونة، ذلك أن مقهى كازابلانكا لا يرتاده سوى مغاربة لشبونة، ويعج بصخب عارم ينبعث منه ضجيج مزعج يعكر مزاج المارة والجيران».
فإنك واجد أن المقارنة بين مكانين يستبطن المقارنة بين ثقافتين ومزاجين وسلوكين: سلوك مشين وسلوك محبب. وقد دشن السارد بهذا الأسلوب التصويري بداية سلسلة الصور التي توظف المقارنة، وتستعين بالذاكرة لبسط صورة الأنا في مقابل صورة الآخر؛ وهي صورة مزدوجة قوامها إبراز الاختلاف والتناقض مع الآخر في مقابل الإعجاب به وبتقدمه. قاده هذا الأسلوب في المقارنة إلى الحديث عن مقهى شعبي دأبت الأميرة الراحلة ديانا على ارتياده لتناول الفطور مع أبنائها دون برتوكولات ملكية معقدة، وهو ما أدهش السارد وحمله على عقد مقارنة بين أمرائهم وأمراء العرب، فراح يتعقب بروتوكولاتهم بوصف يقطر سخرية، مستدعيا من ذاكرته «صورة زعيم انقلابي غاشم أتى إلى الحكم من فوق الدبابة، يمشي بين رعيته في خيلاء وغرور يلوح بيده الآثمتين، يفتقد لروح التواضع والحس الإنساني، متعجرف لا يعرف السكون ولا الوداعة، بل يظنها لونا من ألوان الضعف قد تفقده هيبته بين مواطنيه كما يتوهم.
وما إن يغادر السارد هذا الصورة حتى يوقعنا في مقارنة أخرى طرفها الآخر مستوحى من الذاكرة، وهي صورة «بوسلهام» المهاجر العرائشي السكير والعربيد، الذي ذكَّره بصورة «السكتاوي» في العرائش. يقول السارد ملخصا وضعية المهاجرين: «وراء كل مهاجر حكاية درامية معقدة» ثم يردف قائلا: «هذا هو حال سكارانا المدمنين، منهكون يعانون، يعردون، ويصرخون كالمجانين» ثم يمضي مقارنا بين السكارى المغاربة والسكارى الإنكليز، مستبطنا دواخلهم وأعماقهم، كاشفا عما يضمرون من تعاسة وغضب: «حديث السكارى الإنكليز لا يشبه حديث سكارانا في شيء. عندما تصعد الخمرة إلى رؤوسهم، ينتشون، يتضاحكون، ثم يتبادلون القبلات في عناق حميم. أما سكارانا فينغمسون في صياح يزعج البحر والشجر والحجر، يتشاجرون، يتراشقون بالكراسي، ثم يلعنون بعضهم بعضا وكأنهم صعاليك قريش».
وقد جعل السارد من هذه التصرفات المشينة والطائشة تعلة لانتقاد سلوك المهاجرين المغاربة في لندن، سواء من هم على شاكلة بوسلهام أو من أولئك الذين لا يتورعون في الاحتيال والكذب للظفر بالمخصصات الحكومية السخية للتعويض عن بطالتهم، أو فقدان مناصب عملهم نتيجة عاهة أو مرض مزمن. تماما كما يوقف السارد أحيانا السرد للإدلاء برأيه في قضية معينة كما فعل حينما قارن بين وضع المرأة وسلطة الرجل عندنا، وما يقابله في إنكلترا التي تحكمها امرأة وسمت بالمرأة الحديدية، أو السخرية من بعض الشخصيات التي تتبنى موقفا أحاديا نتيجه جهله والتغرير به، والذي جعله السارد ممثلا لصراع جيلين: جيل تقليدي لم يظفر بشيء من الوعي الثقافي، وجيل آخر يمثله المتنورون من الشباب الجامعي الذي عايش الأحداث الدولية الكبرى، التي وسمت العقود الأخيرة من القرن العشرين (مثل أحمد المهاجر الطنجي ممثل ودادية المهاجرين) وغير هذا من الملفوظات السردية والوصفية الكثيرة التي انبنت على المقارنة والاستعانة بالذاكرة. وقد مضى السارد بعيدا في استعراض صور التسامح والحوار وتلاقح الثقافات التي تطبع الشعب الإنكليزي، وتثرى به فضاءاته نظير ركن الخطباء، وتقبُّل السياسيين البريطانيين لانتقاد وتعالي «راج» أو ما أقدمت عليه «ريتا» عندنا أقامت حفل عشاء على شرف مغادره آدم (السارد) لضيعة التفاح طالبة من العمال أن يعِدوا أطباقا على أنغام موسيقى من صميم تقاليدهم في الطبخ والموسيقى، وما رافق ذلك الحفل من احتفاء «ريتا» بعمالها الأجانب وثنائها على عاداتهم وتقاليدهم.
 
- التناسل السردي
كثيرا ما عمد السارد إلى قطع حبكة النص ليشرح شيئا معيّنا، أو يصدر أحكاما على حدث ما، أو يوجد الشبيه والنظير أو المقابل للشيء أو الحدث المسرود، عبر العودة بالذاكرة إلى الوراء، ويمكن أن نمثل هنا على هذا التشكيل السردي بقصة «الحاج مالقا» مع والد السارد؛ رجل التعليم الذي نازعه في بنوة ولده، إيمانا منه بأن المعلم يتقاسم مع الوالدين أبوة الأطفال التلاميذ؛ فقد قطع السارد حديثه عن تسكعه في شوارع لندن باحثا عمن يأويه من أصدقاء عرائشيين، ليقدم للقارئ -اعتمادا على الذاكرة – معلومات عن مستضيفه الذي تتلمذ على يد أبيه، عملا بقولهم: الشيء بالشيء يذكر، والحديث ذو شجون. والغرض من إيراد هذا الخبر إغناء السرد وإفادة القارئ بما كان عليه حال التعليم ورجاله في سالف الأزمان. ويمكن أن نستحضر هنا في هذا السياق أيضا قصة السوسي العظيم وتلميذه الطاهر دويس؛ البطلين العالميين في السيرك؛ وهما قصتان مترابطتان ساقهما السارد على سبيل الاستطراد، عندما كان بصدد الحديث عن أحمد المهاجر الطنجي، وتقديم لُمع من أخباره وما دار بينهما من حوار وتغامُز وتنابُز شفيف. ولا يني السارد يعتمد على مثل هذه الحوارات مع شرائح اجتماعية، لعرض أفكارهم وطرح أفكاره وآرائه في السياسة والقانون والعادات والتقاليد والدين والعنصرية والحب ووضعية المهاجرين وسلوكاتهم، ولعل أبلغ ما يعبر عن كشف مواقف السارد السياسية والأخلاقية ذلك الحوار الذي أجراه مع الكلب «لولو» بعد أن اصطحبه في نزهة في ضواحي الضيعة للترويح عن النفس، وهنا تعود به الذاكرة إلى الوراء؛ إلى زمن الطفولة في العرائش حينما كان يستمتع بمطاردة الكلاب الضالة، عندئذ سيجري حوارا شائقا مع «لولو» مخبرا إياه بوضعية الكلاب في المغرب -وهي وضعية يشترك فيها الإنسان والحيوان- مقارنة مع ما يعيشه «لولو» من حياة الرفاه والبذخ. وقد نقل لنا السارد صور انفعالات الكلب «لولو» مع ما سمعه لينخرط في نوبة بكاء ونباح حاد.
 
يجنح السارد إلى تصوير دقيق لمجمل ما عرض له في هذه الرحلة وما استدعته الذاكرة وأسعفته به من أخبار وأحداث ماضية في العرائش وطنجة وتطوان، وقد رام في معظمها – بصرف النظر عن عنصر التخييل الذي لا فكاك لأي عمل أدبي منه – إلى أسلوب التصالح مع الذات والفضح.
 
- الفضح والسخرية
يجنح السارد إلى تصوير دقيق لمجمل ما عرض له في هذه الرحلة وما استدعته الذاكرة وأسعفته به من أخبار وأحداث ماضية في العرائش وطنجة وتطوان، وقد رام في معظمها – بصرف النظر عن عنصر التخييل الذي لا فكاك لأي عمل أدبي منه – إلى أسلوب التصالح مع الذات والفضح؛ فلم يجد غضاضة في الكشف عن جوانب من حياته في المغرب وفي المهجر، ولعل قصته المثيرة مع الإتيكيت خير معبر عن هذا الفضح الذي يمارسه السارد؛ يقول واصفا طريقه أكله أمام أعين حبيبته سوزان: «لم تكن تمتعض مني عندما تراني ألتهم طبق «موساكا» اليوناني بيدي وأصابعي ضاربا عُرض الحائط الإتيكيت الأوروبي الذي يقتضي استخدام الشوكة والسكين؛ لأنها لم تكن تكترث مادام هذا الشاب العربي يستثيرها ويحبها، لم أكن أخجل من نفسي، كنت ألعق أصابعي عندما أفرغ من الطعام دون حرج، هكذا تربيت ونشأت في بلادي العربية».
للتخفيف من غلواء هذا الفوات الحضاري الصارخ، لم يجد السارد بدا من ترسم أسلوب السخرية؛ نظير مقارنته بين متاجر «ريجنت ستريت» الراقية والأنيقة ومتاجر «سوق البرارك الوضيعة» مثلما تتبدى السخرية من خلال ذلك الحوار الشائق والممتع الذي أقامه مع خزان التفاح، الذي خلص من خلاله إلى السخرية من وضعيته التي أفضت به إلى المبيت في مرآب مع عدد من العمال، يتقاسمون جميعهم مرحاضا واحدا، وقد برع السارد في رسم صور كاريكاتيرية له، تماما كما أنه مال إلى السخرية آن استدعائه لزمن الدراسة، عندما كان طالبا في كلية العلوم، وكيف كان يعاني رفقه عموم الطلبة من سوء التغذية، ولم يتوان في تصويرها ونقل جزئياتها إلى القارئ. وحتى عندما عبر عن شوقه لوطنه، أفرغ معاني هذا الشوق في قالب لغوي ممعن في السخرية والإضحاك: «بعد شهور من الاغتراب داهمني شعور فظيع. شعور شوق وفقد، تملكني حنين غريب إلى حياة ملخبطة وغير مرتبة، افتقدت زعيق منبهات سيارات مزعجة، افتقدت مشاهدة الشرطة تطارد باعة متجولين في الأزقة. افتقدت فوضى ركاب يتدافعون عند أبواب حافلات متهالكة. افتقدت شجار الناس في أسواق مكتظة. افتقدت تكدس قمامة عطنة على الأرصفة. افتقدت تلصص الجيران عبر نوافذ بيوت يلفها الضجيج. افتقدت عربات مهترئة تجرها بغال منهكة…».
 
د/محمد الإدريسي