السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

مراد علمي: صراعات الغـرب ودول الجنوب

مراد علمي: صراعات الغـرب ودول الجنوب مراد علمي

امتنعت أخيرا عدة دول الجنوب عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح أوكرانيا وحربها ضد روسيا، حيث تعتبر كثير من هذه الدول أن هذا النزاع هو في الأساس صراع روسي ـ غربي، وأن أوكرانيا ما هي إلا حصان طروادة للناتو والدول الغربية، كانت منخرطة في هذا النظام العسكري أم لا، كثير من دول الجنوب تشعر بالفعل بعدم الارتياح، نظرا لاجتياح بلد كبير كروسيا لبلد صغير كأوكرانيا.

ولا زالت الدول الغربية ترى أن هذا الصراع تحدي خطير للنظام العالمي، وبالنظام العالمي تقصد في العمق "نظامها"، من غير الالتفات إلى مخاوف، مصالح الدول الصغيرة والمتوسطة، لذلك لا تريد دول الجنوب أن تنجر إلى صراعات هي في غنى عنها، حيث ترفض مفهوم الانغلاق المغرور على الذات ونزعة الهيمنة المطلقة، لأن الخسائر ستكون أكبر بكثير من الارباح التي يمكن لها أن تجنيها من الاصطفاف لهذا المعسكر أو الآخر، وأغلب دول الجنوب تستورد بالأخص القمح من روسيا بأثمنة جد مناسبة.

تستورد الهند مثلا جل معداتها العسكرية من روسيا، ونفس الشيء بالنسبة للفيتنام، وهذه العلاقات نتاج لشراكة متجذرة في القدم وليست وليدة البارحة، والسؤال المطروح هو: من يمكن مثلا أن يقوم بتعويض هذا الفاعل الحيوي في مجال الدفاع عن وحدة التراب الوطني وسلامة المواطنين؟  كما تستورد كثير من دول الجنوب القمح والأسمدة من روسيا قصد تحصين الأمن الغذائي والسلم الاجتماعي، حيث الحبوب لا تحتاج فقط أشعة الشمس، الهواء والماء، ولكن حتى مغذيات التربة، لا من نيتروجين، فسفور وبوتاسيوم، وبدون هذه المكونات لم تتمكن النباتات مد جذورها بغية امتصاص المغذيات والتي تتقوى بفضل الأسمدة، لأن عملية النمو ترهق التربة جراء سحب النباتات للعناصر الغذائية، ولكي لا تفتقر التربة من الضروري تطعيمها بالمغذيات، يعني بالأسمدة.

تركيا مثلا تستورد أكثر من %80 من القمح و%30 من الغاز من روسيا، ولذلك يمكن لها أن تلعب دورا محوريا في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا والتي تجري اليوم في إسطنبول، هي من الدول الوحيدة التي تملك أوراقا مهمة قصد حل النزاع بين البلدين.

أما الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة خسرت قدرتها على لعب دور بناء بعدما أصبحت طرف من النزاع وفرضت عقوبات اقتصادية مجحفة على النظام والشعب الروسي الذي سيلتف لا محالة حول زعمائه ولو كان سابقا رافضا لبعض القرارات، لأن العقوبات العشوائية بغير تمييز بين الظالم والمظلوم لها دوما تبعات عكسية، والمدنيون هم من يدفعون فاتورة حماقات وهذيان الحكام، لا في الغرب أو في دول الجنوب، كما يجري اليوم في الجزائر، دولة غنية ولكن الشعب يقف في طوابير تعد بمئات الأمتار قصد اقتناء لترا واحدا من الحليب في هذا الشهر الأبرك.     

فيما يخص القطاع الطاقي ستنشئ روسيا والهند محطة لتوليد الطاقة الذرية في بنغلاديش، نظرا لرفض الدول الغربية بناء هذه المنشأة، معظم دول الجنوب غير مهتمة بحرب روسيا على أوكرانيا التي تعتبرها شبه أهلية، وإن تمت الاشارة لهذا النزاع فهي تقتصر على الانعكاسات السلبية في غلاء أسعار المحروقات والمواد الغذائية الاساسية.

والرئيس بوتين لا يتعرض لسخط عارم وهجوم يومي كما يحصل في واشنطن، برلين، باريس أو لندن، لأنه لا زالت تزهق الأرواح في العراق، السودان، الصومال، سوريا، اليمن، فلسطين إلخ، والأغلبية الساحقة من المدنيين الأبرياء في أوكرانيا هم من يدفعون ثمن ضريبة الدم، وإن اتضح عدم استقرار الهيكلة الأمنية لأوروبا فهذا لا يعني انهيار العصر أو فترة تحول إلى ما هو أسوء، ترى دول الجنوب أن هذا الصراع أوروبي ـ أوروبي لا غير، وأن لا دخل لها في النزاعات التاريخية التي هي في أول الأمر قارية وليست عالمية كما يريد بعض الساسة الغربيين التسويق لها، فهي محددة للهوية الأوروبية وليست لباقي دول العالم.

 و"عقوبة" أوكرانيا لبعض دول الجنوب التي تـجسدت في سحب بعض ممثليها الدبلوماسيين يمكن اعتباره عملية رمزية وغير مجدية، لأنها دولة لا تتمتع بالثقل السياسي أو الاقتصادي كالقوات العظمى، كما تعتبر من الدول الأكثر فسادا في العالم، وكان من الأجدر أن يتجنب الرئيس الأوكراني تدمير بلده وهدر دماء مواطنيه ومحاولة طي الخلاف بطريقة متحضرة وسلمية، ولكن الدفع به إلى مواجهة قوة عسكرية كروسيا يمكن اعتباره مجازفة وخطأ فادح، حيث سقط في فخ من الصعب التخلص منه بأقل تكلفة التي تجاوزت اليوم أكثر من 500 مليار دولار، والحرب  التي تجري هي حرب  كلاسيكية بالوكالة بين روسيا والغرب الذي يختبئ وراء أوكرانيا، وقائمة الدخل جد سلبية بالنسبة لأوكرانيا رغم تدفق العتاد العسكري ومليارات الدولارات، ولا يوجد أي مبرر لتشريد الملايين من العائلات الأوكرانية البريئة والرمي بهم في هاوية وبراثين الفقر والحاجة، والمسؤولية مشتركة بين روسيا والدول الغربية، أما أوكرانيا ما هي في العمق إلا ضحية لعبة أكبر منها بكثير.    

والسياسة الحكيمة للعاهل المغربي هي التي نجحت في تخفيف التوتر وتجنب اندلاع الصراعات، لأن النظام الجزائري لا زال منغلق على ذاته ولا زال يجتر الشعارات المتآكلة ويعول على "جيش التحرير"، ولو حرر النظام العسكري الجزائري أولا وقبل كل شيء شعبه من الطغيان، الشطط والخسف، وإن تم هذا لصفق له الجميع، في الستينيات من القرن الماضي كانت وهران من المدن الجزائرية الجميلة والأنيقة وكان بإمكان سكان وجدة وضواحيها أن يزورها قصد النزهة والاستجمام، اليوم يمكن اعتبارها مطرح مفتوح للنفايات، بأزقة متسخة ومرافق عمومية مهترئة، بالرغم من ضخ مئات المليارات من الدولار في خزينة الدولة جراء مبيعات الغاز والنفط، وليومنا هذا لا زال الفساد ينخر جسد الدولة الجريحة

العديد من دول الجنوب ارتمت بين أحضان الصين، ليس لأنها شريك مثالي، لا! ولكن كبديل للاستثمارات والمساعدات التنموية الغربية، ويمكن أن يستفيد المغرب من الصين في هذا المجال إذا عرف كيف ينسج علاقات صداقة وشراكة قوية مع المسؤولين الحكوميين والفاعلين الاقتصاديين واستعان بخبراء لهم باع، قدرات ومهارات في قطاع التعددية الثقافية، لأن المفاوضات التجارية مع الصينيين ليست بالهينة بتاتا، نظرا للبعد الجغرافي، التباين والاختلاف في المقاربة والثقافة، لذلك نلاحظ بعض تعثر المشاريع أو التخلي عنها كليا، كصناعة اللقاح الصيني في المملكة الذي كان سيرى النور في دجنبر 2021، والمفاوضات التجارية مع الصينيين تخضع لعدة معايير، كالخلفيات العائلية، الجهوية، التاريخية والقرب من كبار القادة أو المسؤولين وقوة الشبكة الاجتماعية، والثقة المتبادلة تلعب دورا أساسيا، لأن الصينيين لا يعقدون الصفقات مع الغرباء أو الأجانب ولكن مع الأصدقاء، حسب طقوسهم وأعرافهم، أما العقود ما هي إلا قاعدة بغية الرفع من هذه الشراكة إلى ما هو أحسن وأفضل.

جميع دول الجنوب تريد أن يكون لها خيار مع من تريد أن تبني الشراكة التجارية، دون ضغط، مساومة أو ابتزاز، لكي تتخذ القرارات السيادية التي تخدم مصلحة شعبها وليس مصلحة الغير، وهذا يعني موانئ، طرق سيار صينية، قمح وأسمدة روسية، توربينات ومعدات عسكرية أمريكية، هكذا ستضمن دول الجنوب لكينونتها الحكم الذاتي والحق في تقرير المصير، والعقوبات التي فرض الغرب بزعامة الولايات المتحدة هي في الأساس الدفع بالدول إلى الاصطفاف لهذا المعسكر أو الآخر، فالمملكة المغربية مثلا امتنعت عن الالتحاق بأي جانب، كما كان واضحا أن الولايات المتحدة الدولة الوحيدة الأكثر كثافة سكانية من بين عشرة دول  العالم التي تبنت العقوبات التجارية ضد روسيا، فهذا يعني أن الدول الغربية بمجملها لا تمثل العالم بأسره ولكن جزءا ضئيل منه..