الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

حبيبي: ما معنى أن تكون اليوم مثقفا ؟!

حبيبي: ما معنى أن تكون اليوم مثقفا ؟! عبد الإله حبيبي
أن تمتلك القوة الفكرية والسلامة العقلية والمواظبة السلوكية على القراءة والفهم والتساؤل عن كل ما يقع هنا وهناك ... أنت الذي لم يعد له الوقت لمواكبة كل ما تنتجه العقول حولك وبعيدا عنك، في قلب الرقميات اختصر الحاسوب المسافات وأصبحت، الآن، تقيم في لامكان ولا زمان حيث كل العالم وطنك وكل الكون مجال تفكيرك وامتداد لحريتك...

أن تكون مثقفا يستوجب منك الحرص على الحضور في كل الحلبات، مصارعا، لا متفرجا، وأن لا تتأفف من اقتحام المواقع التي يسيطر فيها النصابون باسم الثقافة و الإبداع أو حتى العلم، لأن الوحيد المؤهل لكشف الزيف والدجل والتطفل على التخصصات والمنابر هو أنت المثقف المشتعل عشقا للحق والأشد التزاما بمطاردة الرداءة واللصوصية الفكرية والنزوعات المرضية وكل الطفيليات التي قد تجتاح الحقول الفكرية والإبداعية بكل أجناسها وبكل نصوصها القديمة والحديثة والمعاصرة...

أنت الكائن  المطالب براب الصدع من جديد بين العقل والحقيقة، واستئناف العمل بالمناهج العلمية المبثوثة في صميم الممارسة العلمية، وذلك بالتصدي لكل الأوهام والذين يقفون خلفها سندا لها حتى لا يكتشف الناس زيفها وهشاشتها...ليس الأمر يسيرا ولكن انتماؤك لهذا الشرف يحتم عليك النهوض بهكذا مهام...

في عمق موقعك يوجد تاريخ طويل من المواقف والأحداث لرجال ونساء عاشوا ظروفا صعبة في أزمنة خلت لأجل أن يصدحوا بالحق، وأن يضمنوا للعقل وجودا في حياة البشر، ويعلموا الناس طرق التفكير والبحث والمقارنة والاستنتاج ، منهم من دفع حياته ثمن علمه، ومنهم من هجر وطنه ليقضي حياته شريدا بين الأوطان والمنافي حتى لقي ربه... 

لهذا فأنت في صلب معضلة تاريخية قد تصل حد اعتبارها أسطورة الشخص الذي يريد تحرير الناس من أوهام الأسياد الذين يستعبدونهم من خلال تنويم عقولهم، وتجميد حواسهم، وحملهم على كراهية السؤال والمغامرة الفكرية حتى يظلوا عجينا يصنعون منه ما يحلو لهم من كائنات طيعة وخاضعة وخانعة، بل ومعادية للحرية والتفكير والثورة على كل الأوهام...وكل ذلك وأنت شخص منبوذ من لدن هؤلاء الضحايا المستلبين ومحاصر من السلطة الرافضة لكل قول "نشاز" يشوش على هيمنتها الروحية على المجتمع والآفاق...

أن تكون مثقفا بكل اختصار يعني أن تكون معارضا ، ليس لك خيار آخر ينجيك من هذه الهوية لأنك وبكل بساطة وريث قلق العقل الذي هو النور الكوني الأزلي والنبراس الذي يتآمر عليه أعداء التنوير حتى يطفئوا شعلة الحرية  في نفوس الناس ...وينجحوا في حكمهم بالمعتقدات الخاطئة والحقائق المزيفة التي مع الزمن استحالت عقائد مقدسة...

عندما تكتب نصا إبداعيا، أو حتى تحكي قصة قصيرة فذلك سيجعلك في موقع نفي ورفض واقع قائم، لأنك في قرارة نفسك تبحث عن تعويضه بآخر ممكن، كل ذلك يكشفك، يميط اللثام عن هويتك المتوارية خلف النصوص، أي  أنك تناضل لأجل أن يبقى الحلم قائما، والخيال حرا... لهذا فكل الشعراء والقصاصون والروائيون والمفكرون هم بالضرورة معارضون لكل الأنساق الهرمة، وكل الضمائر  الكلية المستبدة، وكل العقائد السائدة مهما كانت سطوتها و قوتها مادامت تنحاز للقوة السياسية القامعة لحرية الرأي والتفكير، ومادامت  تمارس الوعد والوعيد، وتحاصر العقل بالحدود، وتطلق يد النمطية لتسهيل السيطرة على النفوس والعقول... بهذا المعنى فالكتابة هي فعل انقلابي مادامت هي نتيجة قرار شخص فضل رسم عالم آخر بدل هذا القائم أمامه...من هذا المنطلق، وانسجاما مع هذا الرهان الكبير ليس من السهل إذن  أن تكون اليوم مثقفا...