الخميس 2 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد الغني السلماني: في رثاء الشهيد.. بنعيسى شعلة مستمرة

عبد الغني السلماني: في رثاء الشهيد.. بنعيسى شعلة مستمرة عبد الغني السلماني

في مثل هذا اليوم من فاتح مارس 1993 تكون قد مرت 29  سنة على اغتيالك،  ها نحن: رفاقك وعائلتك ومحبيك. نتذكرك ونستحضر ابتساماتك. ونشهد أمام العالم أنك ما استعديْت إلا ظالمًا أو قامعا. متسامح منفتح خلوق بأخلاق الكبار مثقفا ناقدا، مستكشفًا أفق المعارك والمعارف، فلماذا قتلوك وأنت البهي النحيف الذي لم تُنظٍر للعنف حتى لو تعلق الأمر بالدفاع عن النفس ؟

 

لم يكن سلاحك سوىعقلك ونقدك وقدرتك على التفكيك والتحليل.ألهذا قتلوك؟ألم يكن بمقدورهممحاورتك والرحم بجثتك التي لا تقوى وتتحمل الضربات في الرأسوكل الأطراف . ألهذا الحد كان غيهم وكرههم في قلتك وتصفيتك بإسم الإستبداد بالدين؟

 

من خول لهم قتل النفس بغير حق لماذا لم يتدبروا قوله تعالى : "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"( المائدة32). ألم يستوعبوا القصاص والكتاب  وأنقاعدة الفكر في وثباته الخلاقة وقدرته هي تكريم الإنسان والعقل؟ لماذا يصرون على التخلق والطغيان؟ ألهذا قتلوك؟ لأنك تقدمي و "أوطمي" تؤمن بدور الطلاب في التغيير وخدمة الوطن.

 

أشهد أنك الوفي للقيم والأخلاق لم تستعمل العنف ولم تومن به فكرا وممارسة، لم تكن مشغولا سوى بخلق أفق للتفكير والبحث وعشق المعرفة، المناضل إن لم يكن مثقفا فهو جاهل لا يٌعول عليه .هكذا كنت تعتقد وتُمارس. هذا هو الدرس الذي تعلمناه معا في فضاءات ظهر المهراز الرائعة، التأسيس الخلاق  للفعل ينبني على فهم  متقدم يُسائل  تاريخ الفكر والنقد.

 

بنعيسى فكرة ... والفكرة مستمرة

يوم الثلاثاء فاتح مارس 2022 سنكود مع موعد صعب. إنها الذكرى29 لاستشهاد الرفيق العزيز آيت الجيد محمد بنعيسى.

 

عودة للحدث:

جاءني صديقي "باربارة" بالخبر الأليم وكانت اللحظة قاسية وصعبة. هكذا قال : "إذا أردت أن تتسامح مع بنعيسى فهو في لحظاته الأخيرة.."،الساعة الواحدة صباحا ونحن نخطط كيف نزوره وكلنا خلف وهلع و ألم زرنا مستشفى الغساني على دراجته النارية بوجو 103 الزرقاء ؛ تسللنا بخطة لغرفة الشهيد لم أتعرف على ملامح وجهه الطفولي، اتخذت ملامح وجهه صور كبيرة ومدهشة وتأكدت أن بنعيسى لن يستمر بيننا، عدنا ننشر الخبر ونستعد للمستقبل...حائرين.

 

في صباح فاتح مارس 1993 كان الخبر الفاجعة استشهاد بنعيسى كنا في حيرة ..الجنازة.. إخبار العائلة والرفاق، استشهد رجل شهم، وخسرت الجامعة وفصائلها التاريخية سندا وصوتا هادئا يوحي بالأمل .

 

صباح الإستشهاد كان الوضع داخل الجامعة كئيبا التحقنا بالمدرجات أعلنا الخبر ونظمنا مسيرة اتجاه مستشفى الغساني من أجل تسليم "الجثة" لكن الخطير في الأمر أن الجثة تم تهريبها ليلا وفي الغد جاء الخبر بأن العائلة تسلمت الجثة وتم نقلها لمسقط رأس العائلة ولم يتم كشف قبره إلا في سنة 2006 .

 

وهكذا يكون الشهيد قد اغتيل أكثر من مرة من قبل القوى الظلامية ومن قبل القوى القمعية التي حرمت عائلته رفاقه من إقامة العزاء وإلقاء النظرة الأخيرة. كانت تظاهرة عارمة تفوق 10.000.طالب عبرت عن غضبها وإدانتها لقوى الغدر والظلام..

 

ذكريات مع الشهيد :

لازلت أتذكر معركة مقاطعة مادة اللسانيات طيلة سنة1992 وكيف خسرنا لحظة مقاطعة امتحان المادة، وكانت الإدارة قاسية جدا توقيف ست مناضلين لسنوات وصلت حدود 05 سنوات. كانت قاسية بالنسبة للرفاق (حسين الروباشي وبربارة محمد وحسين الغول وعبد الحق اسويطط وسميرة و بلوز محمد). كانت معركة تحت إشراف وتأطير الرفيق بنعيسى لأنه ابن الشعبة. إنها السنة التي تعمقت فيها علاقتي به كنا نتبادل الكتب والروايات ونتحدث عن العالم الروائي لحنا مينة موضوع بحثه المعنون .العالم الروائي عند حنا مينة الثلج يأتي من النافذة .

 

في اغتيال بنعيسى، درس واحد؛ استشهد بنعيسى وبقيت الفكرة حية فينا تنبض من بعده لن يستطيع أي طالب عايش وتعرف على الشهيد أن ينساه.الرفيق الذي كان ينسج علاقات مع كل الطلاب حتى من كنا نسميهم طلاب 06 نسبة رقم الحافلة التي تنقل الطلاب من الجامعة إلى "لفياط". كانت قوته كبيرة في الإستقطاب والتأطير. لا يمكن أن تلتقي بنعيسى، طيلة اليوم، إلا والابتسامة تعلو محياه، عنوانا واحدا يقصده الجميع...

 

وهنا أعترف أن الحركة المناضلة والتقدمية والمغرب عموما خسر في بنعيسى، رجلا فريدا، ومعدنا بشريا أنيقا، ومناضلا صلبا، وحقوقيا شجاعا، وقائدا مدنيا يشتغل في الظل كان شجاعا في مواقفه، ولكنه ينزوي بعيدا عن الأضواء، كان متشبعا بروح الإيثار، أعترف أن لفضل بنعيسى علي كثير. هو من ورطني في الفكر والنقد. ومن حبب لي الجدل، ومن اقترح علي مراجع فكرية هامة مثل مشروع مهدي عامل والطيب التيزني وحسين مروة وأخرون.

 

بنعيسى من شجعني للإنتقال السلس من المحافظة والتقليد إلى الحداثة والتقدمية المتأصلة. دون أن أفرط في التوازن الروحي الذي زرعه في أبي رحمة الله عليه و الذي كان يعشقه بنعيسى في شخصيتي. كان يراقب حماستي وتجدري الشبابي. ويقنعني بأن الحركة الطلابية يجب أن تبحث عن أفق جديد للحفاظ على الإرث التقدمي لأوطم .

 

رسالة وفاء:

لن ننساك أيها الرفيق الغالي بنعيسى، برحيلك الفاجع والمفاجئ؛ تركتنا في لحظة قاسية كنت تشرف عنها، في فكرة بناء "أوطم" والإشراف على الحوار الفصائلي والمشاركة فيه، بعد أن نسجنا خيوط الفكرة وعمقناها دقة دقة.لحظة لحظة. كما كان يحلو لك تسميتها، في جلسات ليالي ظهر المهراز.

 

في الأخير أعترف لك يا رفيقي العزيز، أنني أحببتك دائما لدماثة خلقك، ولرفعة مبادئك، ولتواريك إلى الخلف لتدفع بآخرين، فالخاسر الأكبر هم رفاقكعهدا لن ننساك.عهدا لن نخون.للتاريخ ذاكرة ورغم مرور 29 سنة على استشهادك لازالت الحقيقة مفتقدة وغائبة لكن القتلة يعرفون قوتك ولذلك السبب قتلوك في واضحة النهار وأمام الجميع. يا لخسارتهم؟

 

نحن مجايليك ورفاقك لن نتخلى على معرفة الحقيقة كل الحقيقة...من قتَل؟ من نفذ؟ من خطط؟ كل الخيوط يجب أن تفكك. سنسمع بروح رفاقك ومحبيك والآن الأجيال الجديدة يعرفونك أكثر. أبنائي يعرفونك وأشرح لهم الحدث لأنهم يطلعون على منشوراتي وكتاباتي وصورك التي تؤثث مكتبي وأغراضي.

 

بنعيسى لن يموت. بنعيسى شهيد الحركة الطلابية وفصيل الطلبة القاعديين التقدميين.إنه شهيد الشعب المغربي. الشهداء لا يموتون للتاريخ ذاكرة. أخبرك رفيقي أن رفاقك عبر العالم يخلدون ذكراك .

مركز بنعيسى في فرنسا عرف النور والفكرة تتبلور أكثر .

أنت يا بنعيسى كنت أكثر من طالب .عمرك عكس دور قائد وتجربة مجرب ممارس للفعل السياسي في أبهى تجلياته.كنتَ يابنعيسى أكبر من زمنك البيولوجي والسياسي .نحن الآن في الحاجة لأفكارك ونضجك الذي يحتوي الجميع ويتحدث باسمه الجميع .رفيقك الخمار لا زال مستمرا وقابضا على الجمر من أجل الذاكرة وقول الحقيقة فهو الآن الشاهد الشهيد والوحيد. رفاقك وهم كثر في هيأة الدفاع من أجل معرفة الحقيقة وتقديم القتلة للعدالة. الكل ينتظر والكل يطالب بالحقيقة .الحقيقة كل الحقيقة.

 

بنعيسى فكرة والفكرة مستمرة لا تنتهيولا تموت  .

لروحك الرحمة والمغفرة .سلامي لشكري بلعيد والمعطي بوملي وعمر بن جلون وحسين مروة ومهدي عامل. والقافلة تطووول الشهداء لا يموتون .فلترقد روحك الطاهرة في سلام .لك الخلود أيها العزيز .

 

عبد الغني السلماني كاتب وناقد