الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

أمين سامي: طريق الحرير رؤى ومصالح استراتيجية خفية (الجزء الأول)

أمين سامي: طريق الحرير رؤى ومصالح استراتيجية خفية (الجزء الأول) أمين سامي
تعتبر دول شرق آسيا من الدول التي عرفت نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية قوية ، و هذا راجع إلى عدة عوامل و أهمها الرؤية الإستراتيجية للدولة في مختلف المجالات و إلى طبيعة مجتمعات هاته الدول التي تقدس العمل والعمل الجماعي بشكل كبير جدا، و تعتبره أولوية إستراتيجية. 
لحدود الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت دول شرق آسيا تتخبط في مشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة و تعرف مديونية مرتفعة ، ولكن اهتمامها والتركيز على القطاعات الاجتماعية خاصة التعليم و الصحة والشباب و إيلاء أهمية خاصة للبحث العلمي و اعتباره أحد الأعمدة و الركائز الأساسية في تطوير البلد ، بالإضافة إلى الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المتنوع و تطوير الصناعة التحويلية و فتح البلاد أمام رؤوس الأموال الخارجية بحذر من أجل الاستثمار مع تطوير الصناعات المحلية كلها عوامل جعلت دول شرق آسيا تحقق التقدم و التطور الحاصل و تواكب النظام العالمي الجديد و تتفوق عليه و لنا في الصين و اليابان و ماليزيا و أندونيسيا و سنغافورة و … أمثلة حية على ذلك.
إن العالم اليوم يعرف نموذجين واضحين من الذكاء الاستراتيجي : النموذج الغربي بقيادة أمريكا و النموذج الآسيوي بقيادة الصين. 
إن المدرسة الغربية بقيادة أمريكا و الاتحاد الأوروبي يعطيان الأولوية للفعل الإستراتيجي وغاياته وذلك لأسباب براجماتية و إيديولوجية فانتجو لنا مجتمعات سياسية عكس المدرسة الشرقية بقيادة الصين ودول جنوب شرق آسيا (مجموعة آسيان) الذين يعطون الأولوية للجماعة وانسجامها وبالتالي أنتجو لنا مجتمعات إستراتيجية بامتياز.
 إن المجتمع الصيني مجتمع منظم بل فائق التنظيم: تنظيم عائلي ، تنظيم اجتماعي، تنظيم إداري، … و بالتالي يمكن القول إن الطبيعة الجماعية للمجتمع الصيني ترجع بالأساس إلى اعتبارات ديمغرافية وبالتالي فهي عامل من عوامل نجاح الإستراتيجية الصينية . إن الديمغرافية في الصين تتحكم في كل شيء و لا تفسح المجال للتخطيط مستقبلا وبالتالي فالأعداد الهائلة للبشر تقود إلى ضرورة التنظيم القصوى ، إن الصين دولة إستراتيجية بامتياز استطاعت بذكاء أن تركب قطار الآخرين (العولمة) وهو يمشي و اختارت الوقت المناسب للركوب.
إن الإستراتيجية بالمنظور الصيني ليست سوى الرجوع للأصل ففي 1820 كانت الصين تشكل 20% من سكان العالم و تنتج 20% من خيرات العالم. وفي سنة 1979 أطلق الرئيس الصيني دينغ كساو بينغ سياسة الإصلاح و الانفتاح وكان الهدف منها في أفق 2030 جعل الصين تستعيد المكانة التي كانت تحتلها سنة 1820، و كان أهم عامل أساس للنجاح تم الارتكاز عليه في هذا المشروع الاستراتيجي هو العبقرية الصينية في التجارة و الإنسان الصيني رجل تجارة بامتياز. وبالتالي الانتقال بالصين من بلد متخلف ينتج 1% من خيرات العالم سنة 1980 إلى القوة العظمى في أفق 2030 بإنتاج 20%. و قد عرف تطور الاقتصاد الصيني 03 مراحل أساسية :
المرحلة الأولى : مرحلة استقطاب و تجميع رؤوس الأموال
المرحلة الثانية : مرحلة تجهيز و تقوية البنية التحتية للبلاد
المرحلة الثالثة : مرحلة الانفتاح و تكوين زبائن سياسيين
مرحلة الاستقطاب و تجميع رؤوس الأموال:
تم خلال هاته المرحلة استقطاب رؤوس أموال صينية وأجنبية إلى مناطق حرة تمت إقامتها على الواجهة الساحلية للصين لبناء مصانع و تصدير منتجات استهلاكية عادية بثمن منخفض جدا ، باستخدام يد عاملة متوفرة بشكل كبير جدا و معتادة على العمل بجد و مؤهلة ورخيصة .
مرحلة تجهيز وتقوية البنية التحتية للبلاد :
عرفت هاته المرحلة استخدام المال الذي تم اكتسابه في المرحلة الأولى في تجهيز البلاد و تقوية البنية التحتية من طرقات و موانئ و لوجيستيك و تطوير السوق الداخلي، من خلال تطوير المنتجات المحلية بشكل احترافي ومتطور كي تنافس المنتجات الأوروبية و الأمريكية في الجودة وبأقل الأسعار.
مرحلة الانفتاح و تكوين زبائن سياسيين :
وهي المرحلة التي تعيشها الصين الآن ، حيث تمتلك أول احتياطي عالمي من العملة الصعبة و تستخدم دفتر الشيكات للتسوق في الأسواق العالمية و أسست شراكات استراتيجية قوية مع افريقيا و أمريكا اللاتينية، حيث أصبحت المنتجات الصينية تغزو الأسواق الإفريقية و اللاتينية بأثمنة جد منخفضة و ذات جودة عالية.
و بالتالي فنحن أمام دولة إستراتيجية بامتياز استطاعت بذكاء أن تصبح بلدا يسير برجلين الاغتناء الداخلي الذي يغذي التوسع الخارجي و العكس صحيح.
ولم تكتف الصين بهذا الحد، بل أصبحت أهم الدول على الصعيد العالمي التي تساهم في إنتاج 20% في أفق 2030  من الناتج العالمي الإجمالي على مستوى العالم، وبالتالي أصبحت قوة اقتصادية عالمية لايستهان بها ويحسب لها ألف حساب.
فمنذ سنة 2013، أعلن الرئيس الصيني "جنبين" عن إعطاء الانطلاقة لمشروع ضخم أطلق عليه "طريق الحرير " ، يهدف إلى إنشاء طريق برية وخطوط سككية ضخمة، تربط الصين بأوروبا مرورا بكازخستان ، روسيا، بلاروسيا، ألمانيا، بولونيا، فرنسا والمملكة المتحدة، وتعمل الصين جاهدة على حشد المزيد من الدول في هذا المشروع الضخم المتوقع أن يضم  68 دولة، تمثل 4.4 مليار من سكان العالم، ويطلق عليه بلغة شكسبير  one belt one road : حزام واحد، طريق واحد. 
فطريق الحرير يعتبر واحدا من أعظم ملامح العالم القديم، والآن تتم إعادة هذه الشبكة الأسطورية إلى الحياة من جديد، وطرح مشروع طريق الحرير الجديد الذي يعد مشروعا ضخما واستعراضا للقوة والجبروت، تسعى من خلاله الصين إلى ربط العالم ببعضه البعض بالطريقة الصينية. الأمر يتعلق ببنية تحتية، أي بشبكة طرق وخطوط سكك حديدية وموانئ ومطارات بين آسيا وأوروبا وأفريقيا في ما يقارب 65 دولة، إنه مشروع لم يشهد العالم مثيل له، إنها رؤية قوية وتأثيرها سيشمل الكثيرين، مما سيمثل فرصة كبيرة للبعض ومعاناة بالنسبة إلى آخرين، طريق الحرير الجديد شهادة على إحياء الصين على الساحة العالمية، حيث تقول بكين: "إن طريق الحرير الجديد سيعود بالنفع على الجميع"، لكن الواقع يكشف أن الصين ترغب قبل كل شيء في دعم ذاتها، والأمر يتعلق أيضاً بأهداف جيوسياسية، فما هو طريق الحرير؟
لمعرفة أصل التسمية، يجب أن نعود 1000 سنة إلى الوراء، حينما كانت القوافل التجارية تنطلق من الصين في اتجاه مدينة Venise الإيطالية محملة بالسلع والبضائع، وكان الحرير يعتبر أنفس هذه البضائع وأبهضها ثمنا ، وهو الذي أكسبها شهرة باسم "طريق الحرير ".
والآن، تحولت القوافل التجارية إلى حاويات ضخمة، وتم استبدال الدواب بقطارات فاءقة السرعة، وطرق سيارة تمتد لآلاف الكيلومترات، وإن تغيرت السبل فالهدف ثابت، زعزعت السوق الخارجية  بالمنتوج الصيني.   
رصدت الصين ملايير الدولارات لإنجاح هذا المشروع الذي له أ بعاد اقتصادية  أعلن عنها علنا، و أبعاد جيوسياسية لا تحتاج إلى ذكاء ثاقب لاستيعابها، كما  وضعت سنة 2049 كحد أقصى لتحقيق هذا المشروع، ولأن المارد الصيني لا يختار التواريخ اعتباطا، فإن هذه السنة تصادف الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، ومناسبة للاحتفال بدخول أحفاد الماوتسي تونغ إلى دائرة الكبار.  
إن العامل الرئيسي وراء مشروع طريق الحرير، ينقسم إلى شقين: شق مالي وآخر لوجستيكي. 
إن  طريق الحرير مكن  من ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فزيادة على الأبعاد الاقتصادية، ساهم في خلق نوع من التوازن من البنية التحتية بين الجهة الشرقية  للصين التي تتركز فيها معظم الصناعات، وبين الجهة الغربية التي عرفت قفزة نوعية في حجم الاستثمارات العمومية من طرق، قناطر و سكك حديدية اللازمة لمشروع طريق الحرير. 
وتقضي المبادرة بإقامة حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى، وروسيا، وطريقاً بحرياً يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا، وأوروبا، عبر بحر الصين، والمحيط الهندي، كما تتضمن المبادرة تشييد شبكات من السكك الحديدية، وأنابيب نفط وغاز، وخطوط  كهرباء، وإنترنت، وبنى تحتية بحرية، ما يعزز اتصال الصين بالقارة الأوروبية والإفريقية.
أما براً فتشمل المبادرة ستة ممرات اقتصادية أساسية تشكّل أعصاب شبكة التجارة، والنقل، والتنمية الإقليمية، والدولية القادمة وهي: الجسر القاري الأوراسي الجديد، وممر الصين- منغوليا- روسيا، وممر الصين- آسيا الوسطى- غرب آسيا، وممر الصين- شبه الجزيرة الهندية، وممر الصين- باكستان، وممر بنغلاديش- الصين- الهند- ميانمار.
وفي البحر، تركز المبادرة على بناء روابط بين الموانئ الرئيسية، ومن الممرات البحرية المقترحة ممر يربط الموانئ الصينية، بالمحيط الهادئ عبر بحر الصين الجنوبي. وآخر يربط الموانئ الصينية بأوروبا.
تهدف بكين من خلال مشروع طريق الحرير إلى إقامة شراكات وصداقات مع دول القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا)، وإيصال بضائعها المتنوعة والكثيرة لهذه القارات بأقل تكلفة وأكثر أمانا وبأسرع الطرق، وهذا السبب الظاهري الذي تتحدث عنه بكين بمشروعها التوسعي، ولكن هل هناك أسباب باطنية؟، الصين في حالة حرب اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حالة منافسة مع باقي دول العالم، بهذا المشروع سيكون لديها نفوذ اقتصادي وسياسي في القارات الثلاث وستجني أرباحا هائلة وتصبح معظم دول المشروع مدينة لها بالمليارات، فهل تحقق الصين أهدافها الخفية (المكشوفة) وتسيطر على اقتصاد العالم؟، وهل الصين من خلال مخططها ستعيد إعادة توزيع التدفقات المالية بشكل جديد وستقوم بتحويل الثروة من المحيطات وتركزها  في البحر الأبيض المتوسط؟ وهل ستقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي أمام هذا المشروع؟.
المصادر :
1. كتاب فقه الاستراتيجية للدكتور ادريس أوهلال.
2. مقال للمهندس رياض برايدة - مهندس في اللوجستيك - حول طريق الحرير المنشور على جريدة المنعطف. 
3. مقال للكاتب : حيدر الحيدر الاجودي حول موضوع : طريق الحرير و صراع الجبابرة. 
4. مقال الشرق القادم بخطوات ثابتة للكاتب : أمين سامي.
 
 أمين سامي/ خبير في التخطيط الاستراتيجي للمنظمات غير الحكومية