الجمعة 29 مارس 2024
مجتمع

عزيز الديش: الملفات الاجتماعية بمنطقة بولمان.. الثقة هي المبتدأ وهي الخبر

عزيز الديش: الملفات الاجتماعية بمنطقة بولمان.. الثقة هي المبتدأ وهي الخبر منظر من بولمان
لعل المتتبع للنقاش الدائر بمنطقة بولمان وما فجره الوضع الصحي سيلاحظ وبالملموس سيادة النظرة التجزيئية واختزال المطالب في مستشفى القرب ويستنتج أن المقصود من ذلك هو افراغ ملف الصحة من استعجاليته وإعطاء المشروعية لتماطل الدولة في إيجاد حلول جذرية للواقع الصحي بالمنطقة.
نقاش ان لم يوجه في اتجاهه الصحيح فقد يفرغ مطلب الحق في الصحة المرفوع من طرف الساكنة من معناه كحق شامل غير قابل للتجزيئ. وقد يساهم بقصد او بدونه في عملية الإفقار الممنهجة للوعي الجمعي ويسهل عمليات الالتفاف على المطالب.
فتناول معضلات المنطقة على هذه الشاكلة لا ينمّ عن أي وعي بها ولا برهانات الواقع المعيش وطبيعة التحديات التي تمر بها منطقة بولمان على جميع المستويات.
ويبقى المغيب الاكبر في هذا النقاش هو أن منطقة بولمان تواجه اليوم واكثر من أي وقت مضى مشكل منسوب ثقة الساكنة في المؤسسات الرسمية . اذ لا أحد يختلف أن أزمة الثقة لها عواقب وخيمة. فالثقة هي الأساس الذي ترتكز عليه شرعية كل المؤسسات والعمومية.منها على الخصوص.وكما يقال الثقة هي الدعامة الثانية للحكم بعد العدل.
أمام هذا الوضع المزري الذي تعيشه المنطقة هل المطلوب منا ترديد مقولة "العام زين" ونكتفي بطمأنة الناس ونغرق المنطقة بالتالي في وضع من الارتياح المبالَغ فيه؟ هل سنستمرّ في الترقُّب ونحكم على جيل آخر بالانتظار؟ أم يجب علينا الاعتراف بأن الوضع لا يحتمل وأن ساكنة المنطقة ما عادت قادرة على الخضوع والهوان؟ أليس من المسؤولية التاريخية أن نعلنها صراحة بأن رصيد الثقة الكائن والممكن بين الساكنة والمسؤولين على المرفق العمومي قد استهلك نهائيا ؟.
ان كانت من دلالة لهذا الوضع فليست سوى أن الدرس لم يُستوعب جيداً من طرف الدولة ومختلف مؤسساتها، وأن رسائل الاحتجاجات، التي نظمتها الساكنة قبل سنوات خلت، لم تصل بعد، ولم تُفَكَّك شفراتها على الوجه الأحسن. والنتيجة في مطلق الأحوال أن الساكنة لا تثق بالدولة. إنها أزمة ثقة في البدء والختام.
السؤال الذي يطرح نفسه على الساحة اليوم هو : كيف للهوة أن تردم والمنطقة لم تشهد أية إشارات إيجابية من طرف المسؤولين المتعاقبين على رأس المؤسسات العمومية؟ كيف للثقة أن تعود وليست هناك نية الإستجابة لمطالب الساكنة بدون مماطلة ولا تسويف ؟ فواقع الحال يؤكد أن ممارستها تعززت في البعد عن نبض الشارع ولازالت القرارات والخيارات تعمل على زيادة حجم هذه الهوة. وكيف لمنسوب الثقة أن يرتفع وساكنة المنطقة لا تجد فيمن يمثلها من يتحدث بصوتها ويتقاسم وجعها ويقف بجانبها لحظات الحاجة.
فما الذي أوصلنا إلى حالة كهذه؟ وكيف يحق لنا ان نطلب من الساكنة أن تثق في وعود المسؤولين؟ إن كان هؤلاء لا يتقنون سوى صنع الأزمات وغير قادرين على إدارة شؤون البلاد والعباد.
أليس من المنطق والطبيعي أن يكون عنصر الثقة هو الحلقة المفقودة في كل هذا؟ أليس من البديهي أن تترسخ مقومات الخلل الإجتماعي وعدم الاستقرار وعدم الشعور بالأمان في ظل ثقافة تدبيرية للمرفق العمومي تتهرب من المساءلة وترفض ربط المسؤولية بالمحاسبة؟.
ألا تملك ساكنة المنطقة حق عدم التوقّيع على شيك على بياض، بعد كل هذه السنوات من التهرب ونقض الوعود؟ اليست كل التمثُّلاًت السلبيّة التي راكمتها الذاكرة الشعبية في منطقة بولمان حول الادارة العمومية كافية لوحدها أن تضعف وتقتل الثقة وترمي بالساكنة في بحر من التشاؤم؟ للأسف لقد خابت الآمال نتيجة الطريقة التي تدبر بها المؤسسات العمومية شؤون الناس، وكذا نتيجة بروز سياقات تسودها شريعة الغاب وقانون المصالح الضيقة وظهور كائنات بالمنطقة تقتات على التعقيدات البيروقراطية في تنفيذ المشاريع .
أليس السبب الحقيقي الذي دفع بالناس للتفاعل مع دعوة الحراك الشعبي بجماعة المرس والمعركة المفتوحة بجماعة انجيل وباقي المناطق في لحظات سابقة هو فقدان الثقة في المسؤولين والمؤسسات العمومية؟.
منطقة بولمان تحتاج الى اعادة ضخ دماء الثقة في الناس وفي اتجاهين :
-الاتجاه الأول ويهم استعادة الساكنة من جهة :
-لسلطة التأثيرعبر أشكال الفعل الجماعي المنظم والواعي وبالتالي تقوية موقعها التفاوضي, ولن يتحقق ذلك إلا بالتوعية والتعبئة الشاملة لكل الفئات وضمان انخراط جميع ساكنة المنطقة في ذلك؛.
ومن جهة ثانية :
-لحرية القرار. فالذين تظاهروا بالأمس بالمرس وانجيل والذين خرجوا من قبلهم الى الشارع في سكورة ايت حمزة (واللائحة طويلة) لم يفعلوا ذلك فقط للمطالبة باستعادة حقوقهم المهدورة بل لإستعادة حريتهم المصادرة ومعانقة الأمل في التغيير واستعادة الثقة في القوة والسلطة التي تمتلكها الساكنة حين تتحد وتحدد أهدافها بدقة .
فمشكلة الوضع الصحي ليست وحدها السبب الذي حرّك هذه الحشود من الناس لاتخاذ الفضاء العمومي مسرحا لمعركة الكرامة والإنطلاق بتظاهرات سلمية ضد الحكرة . بل إن مسلسل الأزمات والمشاكل المتراكمة والمتفاقمة والتي تمس بشكل مباشر الحياة اليومية للساكنة ومعيشتها هي أيضا من حركت مشاعر الناس بالأمس في جماعة المرس واليوم بجماعة إنجل وهي نفسها الظروف التي دفعت الساكنة للتجاوب مع الدعوة للتظاهر وخرجت مختلف الفئات حاملة معها همومها وآلامها للتعبير وبعفوية صادقة عن المعاناة والغبن وعن الجانب المأساوي الذي يلف حياتها.
لقد شكلت ساحة الاحتجاج فرصة أطلقت الساكنة من خلالها العنان لإنتاج أفكار إبداعية و تفتقت قريحتهم في أشكال التعبير عن مطالبهم التي تدين مؤسسات عمومية وطبقة سياسية لم تستطع أن تلبي طموحاتهم في أبسط الأمور.
-الاتجاه الثاني ويهم سبل إنتاج علاقة صحية بين الساكنة ومؤسسات الدولة. فقد أثبتت التجارب أن هناك محركين رئيسيين للثقة هما القيم والكفاءة:
-أولاً، تُبنى الثقة في القيم عندما يظهر القائمون على تدبير المرفق العمومي النزاهة والانفتاح وممارسة السلطة من أجل المصلحة العامة.
-ثانيا تُبنى الثقة في الكفاءة عندما تتلقى الساكنة خدمات ذات جودة وتلبي احتياجاتهم في وقتها وبدون مماطلة أو تسويف.
وفي هذا الاتجاه يمكن أن تساعد بعض التدابير في إعادة الثقة من قبيل سن سياسات شعبية تلبي احتياجات الساكنة وتستند هذه السياسات إلى القيم حيث . تجمع بين جانبين اثنين متكاملين: أولاً، الشفافية والانفتاح والاستجابة للمطالب والاحتياجات؛ وثانياً، تمكين الساكنة من المشاركة والمراقبة وتقديم الملاحظات التقييمية لهذه السياسات.
فمنطقة بولمان محتاجة الى تدابير سياسية واقتصادية واجتماعية عنوانها الكرامة والحرية والعدالة، محتاجة الى تدابير وتمارين ديمقراطية محلية، تتأسس على احترام إرادة الساكنة في الاختيار وإشراكهم في صياغة وصناعة القرار، لا اعتبارها قاصرة لا تصلح إلا للتصفيق والهتاف.
وفي الأخير منطقة بولمان محتاجة لتدشين حوار جدي ومسؤول يساهم فيه الجميع، حوار يؤسس لجيل جديد من التعاقدات، حوار يساعد على تجاوز منطق الخلاف والإنتقال بالتالي إلى سجل الاختلاف، حوار ليس مطلوباً منه أن ينتج اجابات ومقاربات متماهية ومتطابقة، بل المطلوب منه والمؤمَّل فيه، هو أن ينتقل بعموم الفاعلين مؤسسات وأفراد إلى مستوى الإنصات والتعلُّم والثقة المتباذلة، إنه درس الاختلاف الجميل والبناء الذي سيخدم مستقبل المنطقة ويخرجها من التهميش.
 
عزيز الديش / باحث في العلوم الإجتماعية بجامعة غرناطة