Thursday 26 June 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حميدي: المنظمات التربوية في المغرب.. سؤال الوفرة وإشكالية التأطير المجتمعي

عبد الرفيع حميدي: المنظمات التربوية في المغرب.. سؤال الوفرة وإشكالية التأطير المجتمعي عبد الرفيع حميدي

يعرف المشهد الجمعوي المغربي، وضمنه المنظمات التربوية، مفارقة لافتة وفرة عددية في الهياكل، مقابل تراجع نوعي في التأطير والتأثير المجتمعي، ففي الوقت الذي تشير فيه المعطيات الرسمية إلى تسجيل آلاف الجمعيات ذات الطابع التربوي والثقافي في مختلف جهات المملكة، يبدو أن جزءًا كبيرًا منها يعاني من هشاشة تنظيمية، وغياب لمشروع تربوي واضح ومندمج، في ظل سياق يطغى عليه الاحتواء الناعم والتحكم المؤسساتي في مسار المجتمع المدني.

 

وفرة شكلية... بفعالية محدودة

عرف المغرب خلال العقود الأخيرة دينامية جمعوية كمّية، خاصة في المجال التربوي والثقافي، حيث تأسست منظمات وجمعيات تهتم بتنشيط الطفولة والشباب، بالإضافة إلى مبادرات ذات طابع ثقافي وفني
لكن هذه الوفرة لا تخفي تفاوتات صارخة بين الجهات، حيث تتركز الجمعيات الفاعلة في المدن الكبرى، بينما تعاني القرى والمناطق الهامشية من شبه غياب أو حضور رمزي. كما أن العديد من هذه الجمعيات تفتقر إلى رؤية متكاملة أو تصور بعيد المدى، وتشتغل غالبًا بشكل موسمي ومناسباتي.

 

التفاوت المجالي: الجمعيات بين المدن والمناطق المهمشة

من الناحية الجغرافية، تتركز الجمعيات الفاعلة في المدن الكبرى والمجالات الحضرية، حيث الموارد متوفرة، والدعم المؤسساتي أو الشراكات أيسر. في المقابل، تعاني المناطق القروية والهامشية من فراغ شبه تام أو حضور باهت للعمل الجمعوي. ويترتب عن هذا الخلل استمرار الفوارق المجالية، وغياب العدالة في فرص التنشئة والتمكين، خاصة لدى الفئات الشابة.

 

ضعف الوظيفة التأطيرية: الجمعيات وتراجع دورها في بناء الوعي الجماعي

رغم تنامي النسيج الجمعوي كمًّا، فإن الأثر الفعلي في تأطير المجتمع ما يزال محدودًا. فعدد مهم من الجمعيات يفتقر إلى مشاريع تربوية متكاملة، وإلى رؤية تستحضر التحولات القيمية والثقافية التي يعرفها المجتمع المغربي. كما أن الممارسات الجمعوية غالبًا ما تظل حبيسة منطق الأنشطة المناسباتية، دون استمرارية أو تراكم معرفي يُنتج تحولاً في سلوك المواطن.

 

المواطنة بين الشعارات والممارسة

في الوقت الذي يُنتظر فيه من العمل الجمعوي أن يُسهم في ترسيخ سلوك المواطنة، وتكريس قيم التضامن والمشاركة والمسؤولية، نلاحظ أن هذا الدور لم يتحقق إلا جزئيًا. فضعف التكوين، وغياب التأطير التربوي العميق، واعتماد بعض الجمعيات على منطق "الزبونية الجمعوية" للحصول على التمويل، أفقد العمل الجمعوي كثيرًا من مصداقيته. كما أن جزءًا من النسيج الجمعوي تحول إلى مجرد واجهة للبحث عن الدعم أو لتأثيث المشهد المحلي دون فعالية مجتمعية حقيقية إن تجاوز هذه الوضعية يقتضي إحداث تحول نوعي في تصور وأداء الفعل الجمعوي، من خلال إعادة الاعتبار لوظيفة الجمعيات كفضاء للتربية غير النظامية وتعزيز الوعي الجماعي و الاستثمار في تكوين المؤطرين وبناء برامج مستدامة من خلال تشجيع المبادرات المواطِنة داخل الأحياء والقرى وإرساء تعاقد جديد بين الدولة والمجتمع المدني قائم على الثقة والتكامل، لا التوظيف الظرفي.

 

غياب التأطير وضعف المشروع التربوي

تُعاني نسبة مهمة من الجمعيات من ضعف التكوين التأطيري والقيادي لأطرها، وغياب برامج تربوية تتجاوز الترفيه إلى بناء القيم والمهارات والمواطنة. كما تغيب الشبكات التنسيقية الفعالة، مما يؤدي إلى تبعثر الجهود وتكرار الأنشطة، بدل توحيدها وتطوير أثرها هذا من جهة

ومن جهة أخرى، تبقى العلاقة بين هذه الجمعيات والمؤسسات المنتخبة أو القطاعية فاترة وهشة، يغلب عليها الطابع المناسباتي، مما يعيق تحقيق شراكات استراتيجية تضمن استمرارية المشاريع.

 

من الوفرة إلى الاحتواء: عندما يتحول الدعم إلى أداة تحكم

في السنوات الأخيرة، لم تعد الإشكاليات التي تواجه المنظمات التربوية تتعلق فقط بنقص الموارد، بل برزت تحديات أكثر عمقًا، تتمثل في محاولات تدريجية لتوجيه هذه الجمعيات "مقال سابق للأستاذ آمحمد المدكوري"  وفق أجندات محددة، عبر ما يسمى بالاحتواء الناعم.

 

وتتجلى أبرز ملامح هذا الاحتواء في:

شروط الدعم العمومي التي غالبًا ما تُصاغ بشكل فوقي، وتُطبّق بلا شفافية، مما يجعل الجمعيات المستقلة في موقع ضعف، لصالح أخرى موالية أو تابعة

الرقابة الإدارية المفرطة، وتضخيم المتطلبات القانونية والبيروقراطية التي تُفرغ الجمعيات من روحها التطوعية والمواطِنة

استنساخ جمعيات موازية تخدم أجندات انتخابية أو حزبية، مما يؤدي إلى تمييع العمل الجمعوي، واستنزاف الموارد المخصصة له

التحكم الرقمي، حيث تُفرض منصات رقمية و"بوابات" شكلية تُمكّن من التتبع والمراقبة والتصنيف المسبق للجمعيات، أحيانًا على أسس غير مفهومة أو قائمة على أحكام نمطية.

 

سؤال الاستقلالية وضرورات الإصلاح

كل هذه التحولات تضعنا أمام سؤال محوري كيف يمكن إعادة الاعتبار لدور المنظمات التربوية كمؤطر حقيقي للناشئة، لا كأداة تنفيذ أو ديكور مؤسساتي؟ الجواب يمرّ عبر:

مأسسة العلاقة مع الدولة في إطار تعاقد واضح، يضمن الاستقلالية مقابل الالتزام بالشفافية والجودة

إصلاح الدعم العمومي من خلال إرساء معايير موضوعية، ونشر تفاصيل التمويل ومعاييره للرأي العام

تشجيع التكوين المستمر للأطر الجمعوية في مجالات التنشيط والتربية وقيادة المشاريع

تبني سياسة وطنية مندمجة للمجتمع المدني، تصاغ بمقاربة تشاركية، تراعي خصوصيات الفاعلين ومجالات تدخلهم.

 

خاتمة

إن استمرار هذه السياسات غير العادلة تجاه المنظمات التربوية، تحت غطاء "الهيكلة والتنظيم"، لن يؤدي إلا إلى خنق آخر فضاءات التعبير والمشاركة المواطنة، في وقت تحتاج فيه البلاد أكثر من أي وقت مضى إلى فاعلين جماعيين مستقلين، مؤمنين بالتربية كأداة لبناء الإنسان والمجتمع، لا كوسيلة لتصريف البرامج أو خدمة الولاءات.

العمل الجمعوي الجاد ضرورة ديمقراطية، بل هو عماد للديمقراطية والتنمية... وكل محاولات تدجينه هي في العمق محاولات لإفراغ الوطن من صوته الجماعي.