Saturday 31 May 2025
كتاب الرأي

أحمد بلمختار منيرة: أين نحن من الأخلاق في السياسة؟

أحمد بلمختار منيرة: أين نحن من الأخلاق في السياسة؟ أحمد بلمختار منيرة

ما نراه ونتابعه عبر وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمكتوبة من حوارات مع شخصيات حزبية. وما نلاحظه من ترحالات متعددة الأوجه، لأفراد وجماعات وقيادات حزبية، من حزب إلى حزب آخر، وربما إلى حزب يتناقض تماما  في مرجعياته  مع مرجعيات الحزب الأول. وكذا الإعلان عن ترشيحات أغلب الوجوه المألوفة  لدى المواطن خاصة في المدن الكبرى حيث ينتظر أن يكون الصراع على أشده يوم الثامن من شتنبر المقبل وهو التاريخ المحدد لخوض معركة الانتخابات التشريعية والجهوية والجماعية في يوم واحد.

ما نراه ونتابعه بالعين المجردة، يشكل وقائعا تستفز كل من ينتظر تغييرات إيجابية في السياسات العامة المحلية  والجهوية والوطنية. وهو ما يفرض من باب المسؤولية الاجتماعية، التعجيل بإعادة طرح السؤال الجوهري: أين نحن من الأخلاق في السياسة؟ إن نحن نريد فعلا تدارك ما يمكن تداركه ربحا للزمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

 

لكن قبل ذلك نعيد طرح السؤالين التاليين: ما السياسة؟ وما الأخلاق؟

يذهب المفكر والسياسي عبد الله العروي في كتابه "من ديوان السياسة" إلى أن الفكر السياسي القديم ينطلق دائما من النوازع إذ يعتبرها المادة الأولى للسياسة ممارسة وتنظيرا. فالنفسانية هي أساس الاجتماع والسياسة، بل السياسة هي فن توظيف النوازع. وجاء العهد الحديث مع مؤسسي علم السياسة بالمعنى الضيق، فافترقوا إلى معسكرين: معسكر الواقعيين ومنهم " مأكيافيلي "، الذين أحبوا الفكر القديم برمته، فبنوا السياسة على النوازع. والمقصود هنا بالنوازع: الطمع، والولاء، والخوف، والطموح، والاستبداد (...). ومعسكر المثاليين ومنهم "روسو"، الذين تجاهلوا النوازع وشيدوا نظرياتهم على أساس الفرد الحر العاقل المتحكم في كل نوازعه.

وأما فيما يتعلق بمعنى الأخلاق، فتفيدنا القراءة المتواضعة في مجموعة من معانيها وتبقى الكلمة للباحثين في الفلسفة وعلوم الدين، (تفيدنا) في تسجيل ما مضمونه أن الأخلاق في معناها البسيط والسائد هي منظومة من القيم المنسجمة مع ثقافة مجتمع ما، متفق حولها، ويعد تجاوزها تجاوزا للنموذج الذي  " اختاره " المجتمع المعني.

ومن جانب آخر، يشكل الالتزام بهذه القيم التي تكون في مجموعها منظومة المجتمع المعني معيارا وقياسا للمصداقية. وهو ما يجعل من الملتزم بها نموذجا يقتدي به الناس. ويكون المتشبع بهذه القيم قادرا على التأثير في الغير، وعلى كسب ثقة المواطنين.

 

فأين نحن من الأخلاق في السياسة؟

أجدني ممن يعتقدون  أنه  لملامسة الإجابة على هذا السؤال المركب، لابد من تغيير مجرى البحث عن مدى الأخلاق في السياسة من اعتبار الأخلاق مدونة أو منظومة للقيم المنسجمة مع ثقافة المجتمع المعني كما سبق الذكر إلى البحث عن مداها علاقة (en relation) بالخطاب السياسي/ الحزبي.، وعن مداها علاقة بالفعل السياسي وهو ما يعني بشكل مباشر أو غير مباشر بالفاعل السياسي.

 

ففي المستوى الأول: يتعلق الأمر بمدى توفر الخطاب السياسي لأي حزب من الأحزاب على القدر المطلوب من التماسك الداخلي، أي أن يكون الخطاب متناغما مع مرجعية أو مرجعيات الحزب المعني به. فمرجعية الحزب تشكل الإطار العام الذي يحدد شكل خطابه السياسي، وبالتالي يميزه عن خطابات الأحزاب الأخرى. وفي هذا المستوى نتحدث عما يسميه الباحث محمد بنحمادة بأخلاق الخطاب وأخلاق الاعتقاد.

 

وفي المستوى الثاني: يتعلق الأمر بعلاقة الأخلاق بالفعل السياسي وهنا الحديث عن أخلاق الفعل. والمقصود بذلك العلاقة بين ما يعد به الخطاب السياسي لهذا الحزب أو ذاك وبين ما يحققه على أرض الواقع إذا تولى زمام تدبير الشأن العام.

 

وهنا بيت القصيد، فكثيرا ما تكون الوعود مبالغ فيها بينما لا يحقق الفاعل السياسي إلا اليسير من الإنجازات. وقد تكون هذه الإنجازات بسيطة لا قيمة لها إذا ما تم قياسها بوعود الحزب المعني بها.

إن ما يقع في الواقع هو أن الصراع بين الأحزاب  السياسية من أجل امتلاك السلطة وحصد أكبر حصة من الأصوات  في الانتخابات، يجعل الفاعل السياسي تحت تأثير ضغط المجال السياسي والخضوع لقواعد اللعبة السياسية، وهو ما يرغمه عن وعي أو عدم وعي على التخلي عن "أخلاق المسؤولية ".

ويقصد بأخلاق المسؤولية حسب الباحث بنحمادة  قدرة الخطاب على الامتداد في الواقع، وقدرة السياسي على تحويل كلماته ووعوده إلى أشياء ملموسة لدى المواطن العادي من خبز، ووظائف، وتطبيب، وتعليم (...).

 

فما المطلوب لنتحدث فعلا عن وجود أخلاق المسؤولية؟ 

تتطلب هذه الأخلاق صياغة وعود وبرامج وخطابات  تلائم بين الحاجيات الحقيقية للمواطنين من جهة، وبين ما يمكن تحقيقيه في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وزمنية من جهة ثانية.

وبالمقابل،  فإن الفعل السياسي يطارد "با اللاأخلاق" عندما يكون الخطاب متخما بالوعود المغرية التي تغازل وجدان المواطن وتجذبه بقوة، فلا يشعر إلا وهو أمام صندوق الاقتراع، بينما لا يكلف السياسي نفسه عناء تحقيق هذه الوعود حينما يتمكن من امتلاك السلطة، ولهذه الأزمة أوجه متعددة في الخطاب السياسي العربي برمته يمكن الإشارة إلى بعضها:

فأحزاب صغيرة تفتقر إلى، ولو تجربة سياسية واحدة في تدبير الشأن العام، تجدها تطرح برامج مضخمة جدا، مفرطة في الوعود. بينما تفتقر هذه الأحزاب إلى أبسط الأدوات التي تمكن من تحقيق هذه الوعود. والنتيجة، يضحي الفاعل السياسي بأخلاق المسؤولية  في سبيل تدبير الصراع السياسي، وفي سبيل البحث عن موضع قدم في الخارطة السياسية لأن صياغة البرنامج الانتخابي لم تتم بناء على دراسات علمية لحاجيات المواطن الحقيقية من جهة أولى، ولم تتم بناء على ما يتلاءم مع مرجعية الحزب من جهة ثانية، وبما يسمح به السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من جهة ثالثة. بل، تتم صياغة البرنامج الانتخابي بناء على علاقة الخطاب بالبنية النفسية للمواطن وهو ما يدفع بعض الباحثين إلى القول: "إن الخطاب السياسي في كثير من الأحيان يتاجر في مشاعر المواطنين ويبني بها جسورا نحو السلطة".

 

إننا عندما نقرأ خطابا سياسيا، أو نسمع سياسيا يستظهر برنامج حزبه الانتخابي، فإن ما يستوقفنا هو ضخامة الأرقام التي يعد هذا الخطاب بتحقيقيها، وضخامة المشاريع التي يطرحها، والتي تتجاوز في أحيان كثيرة مطالب المواطنين وسقف توقعاتهم فيتجاوز الخطاب التعبير عن الحاجة إلى التبشير بالترف والرفاه. لكن عندما نقارن بين هذه الوعود وبين الظرفية الاقتصادية التي تقر بها الدولة نجد أنه من الاستحالة تحقيق هذه المشاريع المبشر بها في الخطاب السياسي. وغالبا ما لا تنسجم مع الوعاء الزمني المسموح به لبقاء هذا الحزب أو ذاك في السلطة.

 

ولنا أن نستحضر بالمناسبة في مغربنا الحبيب، سياق جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية حاضرا ومستقبلا، فكيف لأحزاب سياسية تقدم الوعد للناس بتحقيق نمو اقتصادي سنوي يبلغ  6 أو 7 في المائة  بعد ثلاث سنوات أو أربع من الآن؟  فلنسأل الخبراء في الاقتصاد. وهنا نستحضر الاقتصادي ادريس بنعلي (رحمه الله) الذي أدلى برأيه الاقتصادي بكل أمانة في هذا الباب في حينه. وندعو الأحزاب السياسية إلى القراءة الموضوعية  في التقارير التي تصدر عن بنك المغرب.

 

خلاصة القول، إن الصراع السياسي أمر مطلوب ومقبول، والأحزاب هي موجودة لتولي الحكم. ولكن، علينا استحضار المصلحة العليا للوطن. والمصلحة العليا لبلدنا تقتدي منا جميعا الاستفادة من دروس كورونا وأولها ضرورة استعادة الدولة لأدوارها  الاجتماعية. لكن الدولة وحدها لا يمكنها فعل كل شيء، فالأحزاب هي من يشرع القوانين  ويرسم السياسات العامة ويطبقها وطنيا ومحليا وجهويا. ولذلك، فهي مطالبة بتقديم الوعود القابلة للتحقق والتطبيق، فالانتخابات دورية، وامتلاك السلطة مسؤولية، ويبقى الدوام  لله  وللوطن الذي يجب أن يبقى فوق كل اعتبار.

 

ولنا أن نسجل بقوة كذلك أن المواطنات والمواطنين، خاصة منهم الشباب، يتحملون جانبا مهما من المسؤولية  حيث إن عدم التصويت في حد ذاته هو تكريس لاستمرارية المتطفلين عن السياسة، ولمعلمين الشكارة، ولدوي الضمائر الميتة الذين لا يملكون ولو مقدار ذرة من الحس الوطني.

كما أن جمعيات المجتمع المدني مطالبة  بأن تؤدي أدوارها الدستورية، ومنها دور التوعية بحقوق المواطنين والمواطنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

وفي الأخير، ستوضح السنوات القادمة بدءا بسنة 2022،  مدى تقدم الأخلاق في السياسة في بلدنا. ومن لا يتقدم يتخلف، بل سيورث للأجيال القادمة معضلات التخلف والفقر والعنف وتبعات البطالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وسيورثها "التخلف المستدام" (le sous-développement durable)، بدلا من التنمية المستدامة.

 

- أحمد بلمختار منيرة، إعلامي وباحث