الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عمر بن أعمارة: ملاحظات على هامش النقاش الذي أثير حول كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة"

عمر بن أعمارة: ملاحظات على هامش النقاش الذي أثير حول كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة"

نحن أمام ردود فعل متسرعة اتسمت بالحدة وانساقت وراء الدفاع المبني على "العاطفة الدينية" لا على الحجج العلمية والإقناع العقلي. نحن إزاء ردة فعل أكثر مما هو فعل تأسيسي لحوار حر ولنقاش هادئ مفيد ومنتج، مبني على فكر حر وعقلاني.

غياب ثقافة وتقاليد الحوار وقبول التنوع والاختلاف: هذا يسب ويشتم وآخر يسفه وثالث يدعوه إلى التوبة وذك يكفر وخامس يطالب السلطات بالحجر عليه ومنعه إلخ... فجل الكتابات اتسمت بردود الفعل والتهجم منها التي سفهت الكاتب والكتاب، بل هناك من راح يبحث في ذمة الكاتب وحتى الناشر، وقد نشر أحد المنابر الإعلامية في موقعه على الأنترنيت وثائق تشكك في مصداقية الكاتب ونظافة يده وما في ذمته.

العمل على حشد وتجييش وتأليب جمهور واسع عبر كسب مشاعرهم وشحنهم عبر خطاب الكراهية والتفزيع: "الأئمة يتعرضون للطعن، هناك حملة مقصودة ضد الأصول، وبالتالي ديننا الحنيف مستهدف من قبل زمرة من الحداثيين والعلمانيين واللادينيين والماسونيين والصهاينة"، واللائحة تطول .

مهاجمة العلمانيين وحتى الحداثيين.. لا أدري ما علاقة العلمانية والعلمانيين بهذا الكتاب؟ فهذا عمل قام به فرد له ما له وعليه ما عليه، فما دخل العلمانيين والعلمانية به؟ ألا يهدف هذا المنطق إلى إثارة النعرات والاستقواء بالكثرة وعسكرة "الرأي العام" وتهييج العامة؟

تبين أن هناك سعي حثيث ومكثف إلى "حماية" النصوص ضد أي نقد، وذلك بكل الوسائل وإن كان بالسب.

إن أغلبية من تحدثوا وأدلوا بدلوهم في الموضوع ليسوا إلا وعاظ وأئمة مساجد اكتسبوا شهرتهم من المساجد أو من أجهزة إعلام مرئية ومسموعة ولا علاقة لهم بالبحث العلمي وأساسا "علم الحديث"، و"علم المخطوطات". هم مجرد، مرددين، ناقلين لا غير، منهم من حفظ عن ظهر قلب حتى تحول إلى محفظة ومنهم من يقرأ من كتب أو أوراق أو ألواح السلف.

كل الردود أجمعت وآخذت على صاحب الكتاب أنه ولج ميدانا ليس بميدانه ولا من اختصاصاته، لكن بالمقابل لا أحد من هؤلاء الذين ردوا عليه سواء عبر منابر إعلامية مرئية أو مسموعة أو مقروءة متخصص بالأحرى أن يكون مجتهدا في "علم الحديث" أو "علم المخطوطات" أو في مباحث عديدة لها علاقة بالموضوع. "كعلم الجرح والتعديل" أو "علم الرجال" إلخ......

لا أدري إن كان هذا الشرط مطلوبا حرصا وحفاظا على قواعد العلم والمعرفة العلمية؟ أم حق أريد به باطل؟ إذ يطرح هذا الشرط فقط على المخالفين لأصحاب هذه الطروحات، وكذا من أجل توسيع دائرة المنع عن التساؤل والبحث في الأمور التي يتصور أصحاب هذا الرأي أنها من اختصاصاتهم هم ومن ولاّهم لا غير. وإلا ما معنى آلاف الوعاظ الذين يخوضون في هذا الميدان بدون حسيب ولا رقيب، بل في مرات عديدة يصدرون فتاوى قد تكون في أمور خطيرة ومصيرية حتى فيما يخص مصالح الدولة نفسها. وهم لا يملكون من هذا العلم إلا نزرا ونتفا، وفي غالب الأحيان تحصيلهم من العلم والمعرفة لا يتجاوز مستوى الأقسام الابتدائية وفي أقصى الحالات الإعدادي. ولا أحد من هؤلاء استنكر أو على الأقل طالبهم بهذا الشرط المذكور أعلاه.

كما أن لا أحد من هؤلاء أو غيرهم من أصحاب الحساسيات الإسلاموية طالب بهذا الشرط، حين لاحظنا جيشا من المفسرين والمؤولين الفاشلين يتعسفون على كتاب "القرآن الكريم"، وراحوا يقولونه ما لم يقله وإن اقتضى الأمر منهم اللعب بالألفاظ وتشويه وتحريف اللغة، وذلك من أجل إثبات أن النظريات والاكتشافات العلمية التي توصلت إليها الإنسانية موجودة في كتاب الله وهي نائمة فقط وما ينقصها إلا من يوقظها من نومها ويكشف عنها.

وماذا عن مائة الكتب وآلاف المقالات التي تعج بالسب والقذف والتحقير بل التكفير والكلام عن الأصول العرقية، اليهودية، المسيحية أو المجوسية والمؤامرات وغير ذلك، حين يتعلق الأمر بكتاب من الكتب التي تتحدث عن الداروينية أو الماركسية أو الفرويدية أو أي فلسفة أو فكر مناقض لما هو محشي في عقولهم، دون حتى أن تقرأ كتبهم ونظرياتهم كأدنى شيء مطلوب، ودون الحديث عن التخصص والتمكن والحجة.

الادعاء باستئثار التخصص وتحويله إلى ملكيات خاصة لا يحق للآخر غير المنتمي إلى عالم الملة والفقه الحديث عن ذلك، وإن كان هذا المنطق ضد أصحابه، وسيؤدي بنا حتما إلى إقصاء حتى هؤلاء الفقهاء غير المختصين في "علم أصول الفقه" و"علم الحديث".

إن الخوض في كتاب البخاري أو غيره من الأئمة أو الفقهاء أو المفسرين ليس حكرا على فئة دون الأخرى، ليس من اختصاص الذين ينصبون أنفسهم كأعضاء في نادي حراس الملة، بل هو ملك عمومي لكل الإنسانية دون تمييز.

هل سننتظر حتى نمتلك "علم" الدارقطني أو ابن حجر أو ابن قتيبة أو غيرهم ممن اختصوا في "علم الحديث" و"علم الرواية"، حتى نناقش ونسائل هذه الكتب ونبدي فيها برأينا؟ هذه الكتب التي رسخت مع مر العصور واعتبرت أنها هي المصادر الأولية المغلقة المؤسسة لأصولنا، والتي لا تحمل الباطل في بطونها. ألا يحق لنا أن نسائلها رغم أن عقولنا أصبحت مرهقة ومستنزفة بالإشكالات التراثية؟.

الشافعي والبخاري ومسلم كأشخاص مارسوا حقهم في الاجتهاد وقاموا بأعمال جبارة وكبيرة، لكن هذا لا يثنينا نحن اللاحقون من التفكير بكل حرية ومسائلة أعمالهم ومراجعتها إن اقتضى الحال ذلك، فالاجتهاد لا زمن ولا حدود له، شرط الالتزام بالقواعد العلمية وشروط البحث وامتلاك أدواته، وليس مفروضا على المجتهد أن يدور في فلك فقهاء الإسلام وأن لا يخرج عن دوائرهم المغلقة.

لماذا كل هذا الخوف من أي شيء مخالف لموروثنا وربما مناقض لمعتقداتنا؟ أين وسائل الاستدلال والاستنباط؟ إلى متى ستستمر حملات التشويه والتكفير لكل طائر غرد خارج السرب؟.

هذا الأسلوب، ينم ويكشف عن هلع وخوف داخلي، عن ذعر وفزع يستمد أصوله من التربية وسيادة ثقافة التحريم والمنع من السؤال ومن كل نقد، إذ كيف لمنطق يسفه الكاتب والكتاب، وبالتالي يجند كل ما أوتي من قوة وإمكانات للرد عليه بجميع الوسائل منها خطب الوعاظ وأئمة المساجد وفيديوهات على الأنترنيت وما يفوق خمسون مقالة وتعاليق بالآلاف. لا أدري هل نحن أمام دين وثقافة إسلامية ضاربة في التاريخ لما يفوق عن أربع عشرة قرنا ويحملها ويحفظها ملايين من الناس من أجناس وأعراق مختلفة وثقافات متنوعة ومستويات علمية متفاوتة؟ أم في سوق أسبوعي يبتدئ مع الخامسة صباحا وينتهي عند الظهر؟

دعوا الناس تتحدث كيفما شاءت وفي ما شاءت، وفي التالي تحدوهم بالعلم بالمعرفة والحجة المقنعة بعيدا عن أسلوب السب والشتم والترهيب والبحث في حياتهم الشخصية. ومن كان بلا خطيئة فلينصب المقصلة وليتحول إلى سيّاف .

إن الدفاع عن الأصول أو وجهة نظر ما، لا يتم بطرق تأليب العامة وحشد الكثرة والسب والشتم، بقدر ما يتم بالحوار الهادئ والنقاش المبني على الحجة والإقناع .

أن ينجح كتاب ما، ليس بما يحمله من "حقائق"، بل في ما أثاره ويثيره من نقاشات عميقة ينخرط فيها رهط واسع من أصحاب الرأي مع تعدد واختلاف مشاربهم الفكرية ووجهات نظرهم حول قضايا الساعة وحول إشكالات تعترضنا مستقبلا.

إن أهمية هذا الكتاب ليست في "الحقائق" التي قد يتضمنها أو يدعي ذلك، أو المغالطات التي قد يكون يحملها، بل أولا في كونه تجرأ على ميدان حاول البعض بجميع الوسائل جعله ملكية خاصة ومحمية لهم ونصبوا أنفسهم كحماة له. ثانيا في إثارة إشكالات عديدة ومفيدة يجب البحث والتفكير فيها بهدوء بعيدا عن الغوغاء ومنطق التكفير أو التهجم. ليس أقلها "علم المخطوطات والتوثيق" وعلاقة النصوص الثانوية بالنص الأصلي المؤسس الأول "القرآن الكريم". وعن تحويل السنة النبوية إلى نص مشرع لا يقل في دلالته التشريعية عن النص الأصلي الأول كتاب "القرآن الكريم"، بل ربما في بعض الأحيان يعلو عليه وليس فقط كونه نص شارح، موضح ومبين وقد يكون ناسخ له.

هل تتجرأ وترقى جمعية ثقافية إسلامية أو جريدة ذات حساسية إسلامية مثلا لاستضافة هذا الكاتب ومناقشته في مضمون كتابه بكل موضوعية دون تشنج ودون تجريح وقذف وتكفير، وبعيدا عن كل الأحكام المسبقة؟.

الإشكال الأول في راهننا، ليس في الصحاح ومضامينها، الإشكال الأول والأساسي في "العقل الفقهي" في حاضرنا، هذا "العقل" الذي يأبى إلا أن يكابر مع التطورات العلمية المهولة والمنعرجات الخطيرة التي لم تعرفها البشرية من قبل .هذا "العقل" غير منفتح على المدارس العلمية ومناهجها الحديثة ولم يستفد منها في شيء كما أنه لم يحدو حدو المدارس العقلية الإسلامية أو على الأقل يستنبط منها، إنه عقل مغلق ومسيج ومتحجر ظل لسنين ومازال يرضع من أثداء فقهاء راح وولى زمنهم، دون أن يفطم. إن غياب الاجتهاد والإبداع وهيمنة التقليد والإتباع والتكرار والاجترار والاعتماد على النقل والسماع والعادة جعل هذا "العقل" يتشبث بوهم قديم تحت اسم: شمولية النصوص واحتوائها على جميع الحلول لكل مشكلات الماضي والحاضر والمستقبل، من التخلف إلى التلوث.

إن ضرورة إعادة النظر في عملية التأصيل أصبحت ملحة في زمننا نظرا لتقادم الوسائل التي استعملت سابقا من قبل الأسلاف وكذا لوفرة الأدوات ومناهج البحث الحديثة والعلمية وأيضا لفهم الإشكالات المستجدة التي تعترضنا في حظرنا وفي مستقبلنا.

إن جوهر الخلاف والصراع هو بين أهل الرأي والتأويل وبين أهل النقل والقراءة الحرفية.

هذا النقاش، الجدال والسجال سوف لن يحسم بضربة قاضية أو بواسطة البحث التاريخي أو العمل الـتأويلي أو حتى التحرر والتخلص من سلطة النصوص.

هل يمكننا مساءلة مضمون كتاب البخاري دون أن نسقط في التنويه بالذات والمرافعة عنها وعن موروث أصبح التاريخ ينسخه رغم أنفنا، ودون دخول في سباق خاسر لتلميع أصولنا أو في فعل النفخ في رماد لم يعد يغطي أي جمر. ودون أن ننزلق إلى ركوب جرّافة تأتي على اليابس والأخضر؟.

كيف نقدم إجابات لتساؤلات كبرى تلاحق الإنسان المسلم المعاصر في يومياته وتعترضه في علاقاته بالعالم؟

نحن إزاء أسئلة غير مسبوقة حول مصادر أنفسنا القديمة. تنقصنا أسئلة عميقة عن مصادر أنفسنا. كيف نصوغ أسئلة لحاضرنا؟ أي مستقبل نريده لتواجدنا؟ وأي تفكير نمتلكه لمستقبلنا؟

وهل يمكننا أن نتكئ على ثقافة إسلامية تنتمي إلى العصر الوسيط في إجابتنا على الإشكالات التي تحاصرنا في راهننا؟.

في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة نحن مدعوون أكثر من أي زمن مضى إلى الانتماء إلى زمننا الكوني الراهن والانخراط فيه كأفراد في أسرة الإنسانية الحالية .

لماذا إلى حاضرنا مازال النقاش حول الملة والهوية يهيمن على جميع برامجنا وجدالتنا الأساسية التي دخلنا فيها منذ احتكاكنا بالغرب الحداثي؟

فقهنا الحالي في حاجة ماسة لمسائلة ومراجعة، فقهنا يحث على النمطية، فقهنا لا يقبل التعدد والاختلاف بل يسعى و يكرس المطلق واليقين و الوثوقية. وإن ظل يردد "اختلاف الأمة رحمة ".

لقد تعبنا من الفقيه الببغاء، فقيه الترديد والحفظ. هناك إشكالات أمامنا لن نستدعي لها الشافعي أو ابن حنبل أو ابن تيمية أو غيرهم من الأئمة والفقهاء الذين اجتهدوا في عصرهم وحسب معطيات كانت بين أيديهم. هؤلاء الأئمة والفقهاء نحترمهم ونقدر عملهم وجهدهم واجتهاداتهم، لكن في عصرنا لن يفيدوننا إلا في ما قل، لسبب بسيط هو أن مشاكلهم ليست مشاكلنا. فالصور القديم لن يحمينا من طائرات أمريكا والسيف لن يوقف دبابات روسيا والفأس لن ينافس جرار ألمانيا والحجاب لن يحجب عنا الأنترنيت.

لم يعد السقف الذي بناه الأجداد صالحا للسكن تحته بعد أن رفعت الإنسانية من سقفها وأصبح عاليا جدا، مازلنا ندعي أن لنا إجابات كافية شافية ومطلقة على جميع إشكالات الإنسانية راهنا ومستقبلا، في الوقت الذي لم نستطع فيه إخراج أنفسنا من تخلف، مازلنا نرزح تحت أنقاضه. لم يعد من حقنا وتحت أي مبرر أن نستمر في الإقامة والاشتغال تحت هذا الأفق الذي رسم لنا سلفا أو نعتقد ذلك. إلى متى سنبقى نستمد مصادر أنفسنا من النصوص التأسيسية الأولى للملة ؟ علينا هجر كل أشكال الوصاية التي تمارس علينا في فهمنا لذواتنا وأنفسنا كأنه كتب علينا أن نكون قاصرين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. يجب علينا تجاوز هذا السقف المرسوم سلفا هذه السياجات المبنية في ما مضى. إننا نعيش اكتظاظ وتضخم النرجسيات (الهوياتية، الدينية، التاريخية، العرقية، اللغوية....) وحجب الحقائق.

الدين لن يحمى بالحجر على عقول الناس، بل بالحرية. والضمير لا يتسع له أي قفص.