السبت 20 إبريل 2024
سياسة

عبد الرزاق الحنوشي.. شجرة ظليلة تمتد جذورها كوطن يستيقظ من جرحه

عبد الرزاق الحنوشي.. شجرة ظليلة تمتد جذورها كوطن يستيقظ من جرحه عبد الرزاق الحنوشي

لم يكن أبدا من محرّكي الأذرع الهائجة في ذلك الشارع الطويل الذي يمشي فيه المغاربة ليصنعوا بسواعدهم بعض الفرح، ولم يكن من مرتادي الأزقة الملتوية ليجعل السماء تضيء فوقهم.

 

عبد الرزاق الحنوشي، هذا الاسم يتردد على الكثير من الألسن، كقوة هادئة تؤمن أن صنع المغرب الجديد ليس "سحابة من الورد" تسقى لتبدد، بل هندسة لخلخلة الكراسي العتيقة، دون أن يعرف الكثيرون أن هذا الرجل الهادئ شجرة ظليلة وراسخة بجذور قوية تمتد كوطن غفير يستيقظ من جرحه.

 

عبد الرزاق الحنوشي، عنوان بارز معلق على جدار الشباب التقدمي الذي كان يود الغناء. فإذا كان اليوم رقما صعبا لا يمكن القفز عليه في المعادلة الحقوقية ببلادنا، فلأنه لم يسقط بمظلة في الدقائق الأخيرة من انطلاق المباراة، بل استطاع، بصبر كثيف، أن يتجاوز الكثير من الحواجز التي كانت تخفق بين سيقان كل شاب يحلم بمغرب حر وعادل، مسلحا بتجربة طويلة من السير النقي في السبل المفخخة بالإغراءات وتغيير المعاطف.

 

عنوان الحنوشي، الذي كرَّمه، نهاية الأسبوع الماضي (10 يوليوز 2021)، "مركز الدراسات في الحكامة والتنمية الترابية" و"حركة بدائل مواطنة"، خلال الملتقى العلمي المشترك حول "الهيئات الاستشارية للجماعات الترابية الفرص والتحديات"، لم يمارس التثاؤب وهو يلج العمل الجمعوي والحقوقي، بل كان يشهق بالكثير من الإنصات لما كان يمور في السجون والهوامش والأكواخ، وسنده في ذلك أنه ابن بار لـ "لاميج" (الجمعية المغربية لتربية الشبيبة)، تلك المدرسة التي حوّلته إلى مدرسة تمشي على قدمين.

 

التحق الحنوشي بجمعية لاميج سنة 1982، وعمره لم يتجاوز 17 سنة، وهي الجمعية التي أسسها، في 19 ماي 1956، مجموعة من الشباب، كان في مقدمتهم الشهيد المهدي بن بركة الذي سيشرف بعد ذلك في سنة 1957 على إطلاق طريق الوحدة، لربط الجسور بين شمال المغرب وجنوبه. وفي أحضان هذه الجمعية الأم، التي اهتمت بإطلاق حملات وطنية لمحاربة الأمية، فضلا عن تنظيم أوراش التشجير، والمساهمة في أنسنة أكواخ القصدير والتخفيف من آلام قاطنيها، ترعرع الحنوشي على قيم التطوع التي جعل منها سلوكا يتسامى، ولا يتبدل، وهو السلوك الذي يعتبر مفتاحا لمعرفة كيف جعل هذا الرجل المتعدد من العمل الحقوقي "وطنا آخر".

 

 

ولم يكن غريبا أن يتوجه عبد الرزاق الحنوشي، المفعم بالرغبة في تغيير المفاهيم السائدة وقلب الموازين الضاغطة، أن يتجه نحو دراسة الفلسفة، في عز رغبة المخزن في تحويل الجامعة إلى "مزرعة للضباع"، بحسب تعبير السوسيولوجي الراحل محمد جسوس، وأن يحاول أن يفهم تلك العلاقة الغامضة بين الحاكم والمحكوم ليؤثر فيها بكل ما أوتي من قوة. إنه من الجيل الذي كان يتحرك في كل اتجاه من أجل أن يستحق أي جرعة هواء نقي صنعها برئتيه. الجيل المليء باللغو والأحلام. جيل الشبيبة الاتحادية، في عصرها الذهبي .

 

اشتغل عبد الرزاق الحنوشي، في بداية مساره المهني، في سلك التعليم، لكن سرعان ما غادر الوظيفة، التي كانت تحد من حركته، واتجه نحو الإعلام، إذ التحق بهيأة تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكي ضمن الفريق الذي كان يعمل بمكتب الرباط، كما كان أحد الصحافيين المؤثرين في التوجه الإعلامي غير المسبوق الذي وقعت عليه أسبوعية "النشرة" (الذراع الإعلامية للشبيبة الاتحادية)، وقضى في هذا سنوات متعددة قبل أن يشد الرحال إلى ديوان وزير التربية الوطنية (2002- 2007) ثم أصبح رئيس ديوان وزير التشغيل (2007- 2011) ثم رئيسا لديون المجلس الوطني لحقوق الإنسان (2011- 2019)، وقد ساعدته خلفيته الجمعوية والسياسية والإعلامية والحقوقية على الإلمام بالعديد من الملفات الشائكة، هو الذي كان قوة اقتراحية لصوغ القوانين التي تصب في اتجاه "التراكم الحقوقي". ألم يكن ضمن الكوكبة المؤسسة لجمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

 

إن تكريم عبد الرزاق الحنوشي بفندق موصل سايس بطريق إيموازر، تكريم لهذا الجيل الذي آمن بأن التغيير ممكن، وبأن الممكن ممتلئ أيضا بالهتاف والدم. لقد سعى الحنوشي، دائما، إلى تفخيخ الظواهر بصياغة البدائل والسعي الحثيث إلى إعمالها على أرض الواقع وترجمتها في سلوكياتنا اليومية، بدل الاكتفاء بصنع الأقفال كأسلم السبل للإقناع.

 

لقد اختار الحنوشي، عن عمد وسبق إصرار، أن يركب الصعب، وألا يكتفي مثل غيره بـ "نقد الخطاب السياسي أو الحقوقي". رفض أن يتحول إلى ظاهرة صوتية تكتفي بالرجم من أعلى، ومشى بعينين مفتوحتين في طريق الجلجلة، حيث الآلام، وحيث لا يمكن الوصول إلى بعد طرق المسالك الوعرة. سلاحه في ذلك قلبه وقدرته القديمة على التطوع التي اتخذت صيغا ودعائم وأشكالا مختلفة ومراعية لمختلف المشاق.

 

عبد الرزاق الحنوشي، بالإضافة إلى كل ذلك، شخص خدوم وطيب المعشر، ودائما تجده على سطح السفينة التي تتوجه شرقا وغربا للإبحار نحو اكتشاف الأراضي غير المطروقة. إنه مسافر كبير، ومتحدث جيد، ومكتبة متحركة تضيء حروفها كلما اقتربت منه...